الحضور المؤمل للقوى الديمقراطية
لو لم تتأخر المحكمة الاتحادية كل هذه المدة في نطقها للحكم بعدم دستورية التعديل على قانون الانتخابات رقم (16) لسنة 2005، الذي منح الكتل الكبيرة أصواتنا، وسمح لها بالاستحواذ على مقاعدنا التي نستحقها دستوريا، وحرم العراق من صوتنا الديمقراطي الذي كانت ولا تزال مصلحة المواطن تحتل الأولوية فيه بدون منازع. ولو ان الحكم صدر في وقته دون تأخير لكان صوت القوى الديمقراطية حاضرا بحيويته المعتادة، في جلسة افتتاح البرلمان، يبين أبعاد الأزمة المستعصية، ويحذر من مخاطر استمرارها على مستقبل الديمقراطية في البلاد. فهذه الأزمة هي إحدى نتائج فكر وسلوك القوى المتنفذة وسياسات الإستقواء والعزل والتهميش، التي غيبت الأطراف الديمقراطية بتعديلاتها الجائرة على قانون انتخابات مجلس النواب.لقد تمكنت القوى المتنفذة، مؤقتا، من إبعاد الصوت الديمقراطي عن البرلمان، لمعرفتها بقوة هذا الصوت وتأثيره على حياة الشعب، وعلى مستقبل الديمقراطية في البلاد، والتي توضع العصي في عجلاتها، بشتى الطرق. لكن هذه القوى لا تستطيع كبح قدرتنا على المواصلة والتحدي وتمسكنا بقيم الديمقراطية الحقيقية، ودفاعنا عن مصالح المواطنين، بكل اتجاهاتهم الفكرية، وانتماءاتهم القومية والدينية. وهذا التحدي يتطلب في ما يتطلب، الاستفادة من تقييمات التجارب الانتخابية السابقة، والاستفادة من كل دروسها، وأهمها ضعف تنسيق جهود القوى الديمقراطية، وعدم اتفاقها على خوض الانتخابات في قائمة انتخابية واحدة، باعتباره كان سببا رئيسيا، من بين أسباب أخرى، كانت وراء عدم تمثيل هذه القوى بما ينسجم مع واقعها وحجمها السياسي- الاجتماعي. لقد ضاعت، تبعا لذلك، فرصة حضور صوت القوى الديمقراطية، الذي ينطلق من برنامج وطني ديمقراطي، حريص على طرح المبادرات الواقعية للخروج من الأزمة المستعصية التي نجمت عن الانتخابات، التي جرت وفق تشكيلات قديمة بلبوس جديدة، سرعان ما نزع اللثام عنها وعادت كما عرفناها سابقا.
إن غياب القوى الديمقراطية عن البرلمان الحالي، ليس هو نهاية التاريخ، ذلك لان البرلمان ما هو الا ساحة من ساحات العمل السياسي، لا تضيق على من كرس نشاطه لخدمة الشأن العام. فالغياب عن البرلمان هذه المرة، يمكن له ان يكون محفزا للقوى الديمقراطية ودافعا لها للعمل الجاد، والتنسيق المثمر، والنشاط المدرك لمهمات المرحلة، التي تتطلب في ما تتطلب، نشاطا منظما ومتواصلا في عدد من الجوانب الضرورية، ومنها الاستعداد للعمل المشترك، على مختلف الصعد. وبطبيعة الحال فأننا أحوج ما نكون الى الشعور العالي بالمسؤولية، تجاه مستقبل الديمقراطية في البلد، التي لا يمكن الحفاظ عليها وتعميقها، دون دور القوى الديمقراطية وقدرتها على المساهمة في تشريع قوانين تؤمن مشاركة المواطن في الشؤون السياسية العامة، وتوفر فرص النشاط للمواطنين، وتأمين الحاجات المادية والروحية الضرورية لهم.
إن عملا سياسيا رفيعا من هذا المستوى يتطلب، الى جانب أمور أخرى، رؤى مشتركة، وضرورة تفعيل العقل والعمل الجماعيين، للاتفاق عليها ومتابعة تنفيذها. ومن بين هذه الرؤى وضع إستراتيجية واضحة، وبناء كيان سياسي للقوى الديمقراطية، له دور تعبوي واضح، وطرائق مرنة تعينه على الاتصال بالناس والتعبير عن حاجاتهم، تكون قادرة على حشدهم، وتوظيف طاقاتهم لوضع المشروع الوطني الديمقراطي موضع التنفيذ.
ان تحقيق ذلك يفترض الاتفاق على عدة قضايا أساسية نذكر منها:
أولا: توجهات فكرية عامة، تعتمد الديمقراطية السياسية والاجتماعية، بما ينسجم مع واقع بلدنا وظروفه الحالية.
ثانيا: خطاب سياسي موضوعي واضح في نقده لكل الظواهر السلبية أياً كان من يقف وراءها، وبدون تردد او تهاون.
ثالثا: برنامج واقعي يستجيب لحاجات البلاد الأساسية، الاجتماعية والسياسية، ويرسم مطالب، ويحدد آليات تنفيذ ممكنة.
رابعا: تشجيع الحركة المطلبية وتنميتها وتطويرها وتوجهها الوجهة الصحيحة التي تحافظ على طابعها الجماهيري، مع مراعاة خصوصيتها وإعطائها البعد الوطني والسياسي العام دون نظرة مبتسرة او أفق ضيق.
إن كل ذلك، وغيره، لا يمكن ان يرى النور دون مبادرات شجاعة، وعمل مثابر، وتواصل منظم في بغداد، والمحافظات، والخارج، عبر آليات متعددة، يجمعها، في نهاية المطاف إطار واحد واضح التوجه والمواقف. وينبغي القول ان هذه التوجه لا يخص النخبة وحدها، رغم أهمية دور النخبة الاستثنائي في هذا المجال، لما تمتلكه من وعي وقدرات قيادية لا بد منها. لكنه يبقى أحاديا وناقصا اذا لم يكن له بعد مجتمعي، من خلال تنظيم الحركة المطلبية والجماهيرية بحيث يفضي تحركها الى نتائج ملموسة، وثمار طيبة.