الديمقراطية..انسانية الحاكم
NAZARHAIDAR@HOTMAIL.COMان عظمة علي بن ابي طالب، عليه السلام، ليست في كونه اماما او معصوما او اميرا للمؤمنين او خليفة رسول الله (ص)، ابدا، وانما تكمن عظمته في كونه انسان، لم يتنازل عن انسانيته لحظة واحدة، فلقد ظل علي ــ الانسان في الجاهلية كما هو في الاسلام، وفي عهد رسول الله (ص) كما هو بعده، وفي السلطة كما هو خارجها، انسان مع نفسه ومع ربه ومع من حوله، عائلته كانوا ام رعيته، اصحابهم كانوا ام اعداءه، عشيرته كانوا ام غيرها، انه الانسان اولا واخيرا، انسان وهو يعلم الناس، وانسان وهو ينصح الخلفاء، وانسان وهو يحكم الناس، وانسان وهو يحارب مدافعا عن دين الله تعالى ورسوله الكريم، وانسان وهو يقضي بين الناس، وانسان وهو يصدر حكمه ضد اعتى مجرم في تاريخ البشرية، قاتله ابن ملجم، وانسان وهو يوصي، وانسان وهو يعدل، وانسان وهو يقتص، وانسان وهو زوج، وانسان وهو اب، وانسان وهو اخ، وانسان وهو ابن او ربيب.
ولذلك فان من المستحيل ان نكتشف علي بن ابي طالب الا اذا اكتشفت علي ــ الانسان، ولهذا السبب، برايي، فقد نجح الكاتب والاديب اللبناني الاستاذ جورج جرداق في ما كتبه عن الامام في سفره الخالد (الامام علي صوت العدالة الانسانية) لانه اكتشف علي ــ الانسان، ولو اكتشفه غير ذلك لما ابدع وبرع في سفره حتى بز كل من كتب عن الامام، اذ ليس هناك ما يجمع بين علي وجرداق الا الانسانية، فلا دينه على دين علي ولا مذهبه على مذهب علي ولا حتى جنسيته من جنسية علي، اما علي ــ الانسان فهو الامر الوحيد الذي جمعه معه، ولذلك ابدع عندما كتب عنه، واكتشف في علي ما لم يكتشفه الكثير جدا ممن كتب عن الامام بمن فيهم الكثير من علماء وفقهاء الشيعة انفسهم، لدرجة ان عددا من اعاظم الشيعة وغيرهم كتبوا عن سفر جرداق ما لم يكتبونه بحق اي كاتب آخر، شيعي حتى، فلقد كتب عن سفره الامام عبد الحسين شرف الدين يقول مخاطبا جرداق: ان شئتم ان اقول في عبقريتكم كلمة، فاعيروني بيانكم، اما السيد حسن الامين فقد قال عنه: هذا الكتاب سيطور نظرة العرب الى حاضرهم وماضيهم تطويرا كثيرا، اما الامام السيد محسن الحكيم فقد كتب للمؤلف يقول: لقد اعجبني هذا الكتاب كثيرا، واعجبني من جوانب كثيرة، واهم هذه الجوانب وادقها في نظري جانب العدل والانصاف فانه الجانب الذي يطغى على جميع جوانب الكتاب، وما يدريني، فلعل مؤلفه تاثر بصوت العدالة الانسانية حين دراسته للامام علي فطغى عليه هذا الروح الانساني السامي.
ويضيف الامام الحكيم قائلا: واني اكبر منكم هذا المجهود وانصح للجميع ان يدرسوا هذا الكتاب على ضوء العقل والفطرة ليسمعوا الحقيقة من (صوت العدالة الانسانية) ويتاثروا بروحه.
وكتب السيد موسى آل بحر العلوم الطباطبائي الى المؤلف يقول:
تشرفت بزيارة مولانا آية الله البروجردي في قم بايران، واول ما سالني عن (صوت العدالة الانسانية) ورايت من اعجابه الشديد به ما لم ار مثله بكتاب آخر من قبل، وقد امرني ان اعرب لك عن مدى اعجابه وتقديره لاستنتاجك الصحيح من تاريخ الامام وذكر حالاته، اضف الى ذلك جمال الاسلوب وبديع الفن وحسن الوقع، وكان بوده ان يبعث اليكم برسالة بيده الشريفة، لولا ارتعاشها.
وكتب اليه الاستاذ ميخائيل نعيمة يقول:
من حقك ان تعتز بهذا الاثر الادبي القيم، وان القارئ لا يستطيع ان يمر بفصوله من غير ان يحس ثورة في نفسه ضد النظم الفاسدة التي حمل عليها علي حملات شعواء والتي لا تزال قائمة حتى يومنا هذا، وحسبك ثوابا على كتابك ان تطلقه صرخة ضد الظلم وشهادة للعدالة.
وفي رسالة ثانية كتب يقول:
هناك عظام يثيرون اعجابك لا اكثر، وعظام يثيرون اعجابك واجلالك، اما الذين يستاثرون بمحبتك فوق استئثارهم باعجابك واجلالك فاولئك هم العظام العظام، وانت تشعر في حضرتهم بانك تريد ان تاتمنهم على قلبك وعقلك وروحك وجميع ما هو عزيز ومقدس في حياتك، انهم يكشفون لك من نفوسهم مناهل لكل ظمأ في نفسك، ويبسطون من الزاد اشهاه لما جاع في وجدانك، ويقيمون المنارات للعتمات في طريقك، والاهم من ذلك انهم لا يقولون عكس ما يفعلون، ولا يفعلون نقيض ما يقولون، وهو يقصد بهذا النص علي (ع).
اما نحن، فنقرا بعواطفنا ونكتب بعواطفنا ونحب ونبغض بعواطفنا ونناقش ونتحاور بعواطفنا، ولذلك لا يمكننا ابدا ان نكتشف علي ــ الانسان، لان العاطفة لا تكتشف الجانب الانساني، وانما العقل والمنطق والفطرة السليمة هي الكفيلة بذلك، فعندما تسلح بها جرداق اكتشف علي ــ الانسان، ومتى ما تسلحنا بها نحن فسنكتشف علي ــ الانسان كذلك، بعيدا عن (الدينية) الضيقة و (الطائفية) المقيتة والتحيز غير المبرر.
ولكثرة الجوانب في علي ــ الانسان، لا يسعها مقام ولا يحويها مقال، فقد آثرت ان اتلمس، في ذكرى ولادته المباركة في الثالث عشر من شهر رجب الاصب، جانب واحد من هذه الجوانب الكثيرة والمتعددة، الا وهو جانب (الحاكم ــ الانسان) فيه والذي اعتقد انه يلخص فلسفة الديمقراطية الحقيقية التي يتطلع اليها الناس في عصرنا الحاضر، بعد ان تحول الحاكم في عالمنا الى وحش كاسر ومفترس ياكل حقوق الناس بمختلف الطرق والاساليب، سواء في ظل نظام سياسي ديكتاتوري او في ظل نظام سياسي ديمقراطي، طبعا مع الاخذ بنظر الاعتبار مستوى التفاوت في الامر.
والحكام عادة على نوعين، حاكم ــ انسان، وآخر حيوان، فاما الحاكم ــ الانسان، فهو الذي لا يخرج عن اطار النهج الانساني الذي حدد معالمه ومارسه فترة حكمه الامام علي (ع) والذي سناتي على بعض معالمه وتفاصيله بعد قليل، واما الحاكم ــ الحيوان، فلسنا بحاجة الى ان نسال عنه، اذ يكفي ان تؤشر على اي حاكم مستبد في اي بلد تحكمه الديكتاتورية لتعرف صفاته وادواته ووسائله، خاصة في بلادنا العربية والاسلامية.
فما هي اسس النظام الديمقراطي في نهج الامام علي عليه السلام؟.
اولا: لا شرعية لحاكم يستولي على السلطة من دون تفويض من الناس او رضاهم او انتخابهم، كان يستولي عليها بالتآمر، فشرعية السلطة من رضى الناس فقط، ولا اعتبار لما يسمونه بالشرعية الثورية او شرعية التوريث او الانقلابات العسكرية، او الخلع بالقوة والقتل بالتآمر، ابدا.
فعندما توفي رسول الله (ص) تقدم ابو سفيان وهو في دار الرسول مبايعا الامام علي عليه السلام قائلا: يا ابا الحسن، هذا محمد قد قضى الى ربه، وهذا تراثه لم يخرج عنكم، فابسط يدك ابايعك فانك لها اهل.
فكان جواب الامام: يا ابا حنظلة، هذا امر ليس يخشى عليه.
وكان عمه العباس مؤيدا لراي ابي سفيان شيخ بني امية، فقال للامام:
يا ابن اخي، هذا شيخ قريش قد اقبل فامدد يدك ابايعك ويبايعك معي، فانا ان بايعناك لم يختلف عليك احد من بني عبد مناف، واذا بايعك عبد مناف لم يختلف عليك قرشي، واذا بايعتك قريش لم يختلف عليك بعدها احد في العرب.
فكان جواب الامام الذي اسس للديمقراطية باروع صورها وابهى معانيها:
لا والله يا عم، فاني احب ان اصحر بها، ويقال اصحر القوم اذا برزوا الى فضاء لا يواريهم شئ، واكره ان ابايع من وراء رتاج، والرتاج، هو الباب العظيم، وقيل هو الباب المغلق.
ان هذا النص، اسس الى:
الف؛ لا شرعية لسلطة تحاك خيوطها سرا، ومن وراء الابواب المغلقة، او في الغرف المظلمة.
باء؛ السلطة الشرعية هي التي يتسنم موقعها الحاكم عن طريق تفويض اكثرية الناس وليس الاقلية، او ما يسمونه باهل الحل والعقد، ولقد اشار الامام الى ذلك بقوله في خطبة طويلة بهذا الشان {الا وان الله عالم فوق سمائه وعرشه اني كنت كارها للولاية على امة محمد، حتى اجتمع رايكم لى ذلك...ولكني لما اجتمع رايكم لم يسعني ترككم}.
جيم؛ ان تحجج البعض بجهل الناس وعدم معرفتهم بمصالحهم او عدم تمييزهم بين الصالح والطالح من الامور، او انهم يمثلون راي هذه الجماعة او يعبرون عن صوت اخرى، للجوء الى الغرف المظلمة وتدبير الامور في الليل البهيم والناس نيام، امر غير شرعي البتة، فلقد كان يعرف الامام كل ذلك واكثر، فلماذا لم يستعن بابي سفيان وعمه العباس لانتزاع الخلافة، وبالتالي اختصار المسافة واختزال الزمن، والابتعاد بالامة عن الفتنة، على حد زعم من لجا الى مثلها في السقيفة وفي غير السقيفة؟ الا يعني ذلك ان كل هذه الوسائل والادوات غير شرعية لا ينبغي لعاقل ان ينتهجها للوصول الى السلطة؟.
دال؛ وان هذا النص شرعن لمبدا (الشعب مصدر السلطات) الذي يرد عادة في جل دساتير البلاد العربية والاسلامية ولكن من دون العمل به.
ولقد حرص الامام على ترسيخ هذا المبدأ في بيعته كخليفة بعد مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان، عندما سعى الى ان تكون عامة وعلنية بعيدا عن الضغط والابتزاز، فلما تكالب عليه الناس في داره لمبايعته حاكما عليهم {ينثالون علي من كل جانب، حتى لقد وطئ الحسنان، وشق عطفاي، مجتمعين حولي كربيضة الغنم} على حد وصفه (ع) رفض ذلك، وقال {ان كان لابد من ذلك، ففي المسجد، فان بيعتي لا تكون خفيا، ولا تكون الا عن رضا المسلمين، وفي ملأ وجماعة}.
تلك هي الديمقراطية الحقيقية التي يكون فيها الاحاكم ــ الانسان قد وصل الى سدة الحكم بارادة الناس، لا بالانقلابات العسكرية (السرقات المسلحة) ولا بالتوريث ولا بالتآمر ولا بالقتل وسفك الدماء ولا بالفرض والاكراه، لان الحاكم في هذه الحالة سيكون حيوانا على الناس يغتنم الفرص لياكل حقوقهم ويتجاوز على حريتهم وارادتهم.
ولقد نقل المؤرخون حال البيعة كما يلي:
خرج علي الى المسجد، فصعد المنبر وعليه ازار وطاق، وعمامة خز، ونعلاه في يده، متوكئا على قوس، فبايعه الناس، وجاؤوا بسعد بن ابي وقاص فقال علي: بايع، قال: لا ابايع حتى يبايع الناس، والله ما عليك مني باس، فقال الامام: خلوا سبيله.
وجاؤوا بابن عمر (عبد الله) فقال له الامام: بايع، قال: لا ابايع حتى يبايع الناس، فقال الامام: ائتني بحميل (اي كفيل) قال: لا ارى حميلا، فقال الاشتر (مالك) خل عني اضرب عنقه، فقال الامام: دعوه، انا حميله، واضاف: انك، ما عملت، لسئ الخلق صغيرا وكبيرا.
كذلك، لا شرعية لسلطة تاتي عن طريق الرشوة، فعندما اراد الناس مبايعة الامام كحاكم بعد مقتل الخليفة الثالث، حاوره المغيرة بن شعبة قائلا: ان النصح رخيص، وانت بقية الناس، وان الراي اليوم تحرز به ما في غد، والضياع اليوم تضيع به ما في غد، واني مشير عليك ان ترسل الى عمال عثمان بعهودهم، اقرر معاوية على عمله، واقرر ابن عامل على عمله، واقرر العمال على اعمالهم، فانهم يبايعون لك، ويهدئون البلاد، ويسكنون الناس.
فرد عليه الامام قائلا: والله، لو كان ساعة من نهار لاجتهدت فيها رايي، ولا وليت هؤلاء، ولا مثلهم يولى.
فقال المغيرة: اكتب اليهم باثباتهم، فاذا اتتك بيعتهم وطاعة الجنود استبدلت او تركت.
فحسم الامام الحوار بقوله القاطع {لا اداهن في ديني، ولا اعطي الدنية في امري}.
وعندما اتيا طلحة والزبير اليه بعد فراغ البيعة، وقالا له: هل تدري على ما بايعناك يا امير المؤمنين؟ قال: نعم، على السمع والطاعة، وعلى ما بايعتم عليه ابا بكر وعمر وعثمان، فقالا: لا، ولكنا بايعناك على انا شريكاك في الامر، قال الامام: لا، ولكنكما شريكان في القول والاستقامة والعون على العجز والاود، ثم راحا يؤلبان الناس على الامام الخليفة المنتخب، ولما انتهى قولهما اليه، دعا عبد الله بن عباس وكان استوزره، فقال له: بلغك قول هذين الرجلين؟ قال: نعم بلغني قولهما، قال: فما ترى؟ قال: ارى انهما احبا الولاية، فول البصرة الزبير وول طلحة الكوفة، فانهما ليسا باقرب اليك من الوليد وابن عامر من عثمان.
فضحك الامام، ثم قال: ويحك، ان العراقين بهما الرجال والاموال، ومتى تملكا رقاب الناس يستميلا السفيه بالطمع، ويضربا الضعيف بالبلاء، ويقويا على القوي بالسلطان، ولو كنت مستعملا احدا لضره ونفعه لاستعملت معاوية على الشام، ولولا ما ظهر لي من حرصهما على الولاية، لكان لي فيهما راي.
فالامام، بناء على هذا النص، كان يرفض الابتزاز كطريقة للالتزام بالبيعة، كما انه كان يرفض الشراكة بالادارة، لانها تفسد البلاد والعباد، وانما يقبل بالشراكة في رسم الخطط والرقابة فقط، وهذا ما يجري العمل به اليوم في دول العالم المتحضر، اذ ثبت ان حكومات (الشراكة) فاشلة ولو بعد حين.
هذا يعني انه لا شرعية لسلطة تتاسس على الفساد الاداري، او تقوم على اساس الظلم، لان ما يؤسس على باطل فهو باطل، كما ان ما يؤسس على ظلم فهو الاخر ظلم.
ولشدة ايمان الامام بالمعارضة، ودفاعه عن حرية المواطن، فقد اطمان الى ذلك اشد اعدائه عليه كمروان بن الحكم، فعندما سمع الاخير ببيعة الناس للامام في المدينة، هرب الى مكة، وقد لقيه رجل هناك، فقال له: اياك وعليا فقد طلبك، ففر من بين يديه، فقال له مروان: لم؟ فوالله ما يجد الي سبيلا، اما هو فقد علمت انه لا ياخذني بظن، ولا ينصب الا على يقين، وايم الله ما ابالي اذا قصر علي سيفه ما طال علي لسانه، فقال الرجل: اذا اطال الله عليك لسانه طال سيفه، فقال مروان: كلا؛ ان اللسان ادب، والسيف حكم.
لقد كان اعداء الامام قبل اصدقائه، على يقين من ان سلاح الامام في تعامله مع الاخر، ايا كان، هو الحوار والمنطق والدليل والبرهان، فلم يشا الامام قط ان يتوسل بالسلاح والفتك لمحاججة الخصم، فالقتل والتصفية الجسدية والتآمر لم تكن من ادوات الامام في تعامله مع الاخر مهما اختلف معه في راي او قضية.
لقد رفض الامام الغموض والتدليس والخداع والوصولية، كوسائل وادوات لبناء سلطته او للوصول بها الى الحكم، لان كل ذلك لا يبني حكم الانسان وانما يقيم حكم الحيوان، فالحاكم الذي يصل الى السلطة عن طريق ارادة الناس، سيتعامل معهم كانسان، اما الذي يصل اليها بغير ذلك، مهما تعددت الاسماء والاوصاف، فانه سيتعامل مع الرعية كحيوان يريد ان يفترسهم كلما سنحت له الفرصة الى ذلك.
كما انه لا شرعية لسلطة تاتي بالبيعة تحت حد السيف خوفا من القتل، فعندما جاءوا للامام بمروان بن الحكم اسيرا في معركة الجمل بعد ان تحقق له الانتصار، وقد تشفع له الحسنان عليهما السلام طالبين من الامام الغفران له، قبل الامام ذلك، فقال الحسنان له: يبايعك يا امير المؤمنين، رفض الامام منه ذلك، قائلا {اولم يبايعني بعد مقتل عثمان؟ لا حاجة لي في بيعته، انها كف يهودية، لو بايعني بكفه لغدر بسبته}.
ولقد قال (ع) بشان بيعتهم له {ما منهم رجل الا وقد اعطاني الطاعة وسمح لي بالبيعة طائعا غير مكره}.
ثانيا: لا سلطة مطلقة للحاكم الذي يصل الى السلطة عن طريق الانتخابات، انها محدودة، فليس من حقه ان يتصرف بالمال العام والموقع والمناصب كيف يشاء، بذريعة انه منتخب، فالسلطة مقيدة وليست مطلقة.
ففي اول خطاب له بعد توليه شؤون الامة، قال (ع) {ايها الناس، انما انا رجل منكم، لي ما لكم، وعلي ما عليكم، واني حاملكم على منهج نبيكم، ومنفذ فيكم ما امرت به، الا ان كل قطيعة اقطعها عثمان وكل مال اعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال، فان الحق لا يبطله شئ، ولو وجدت قد تزوج به النساء، وملك الاماء، وفرق في البلدان لرددته، فان في العدل سعة، ومن ضاق عليه الحق فالجور عليه اضيق}.
لذلك، لا يحق لاحد ان يثري من المال العام بغير وجه حق، لانه بذلك يعتدي على حقوق غيره ويسرق من مال الاخرين، تارة باسم السابقة في النضال والثورة على الديكتاتور، واخرى من خلال السلطة، وثالثة من خلال القرابة والموالاة للحكام والمسؤولين، وغير ذلك.
وعندما نصحه بعض (المشفقين عليه) بان لا يساوي في العطاء، وان عليه ان يميز بين الناس على اساس السابقة مثلا او الولاء او المكانة الاجتماعية او غير ذلك، او على الاقل ان لا يستعيد ما (غنمه) بعضهم ايام الخليفة الثالث على قاعدة {عفا الله عما سلف} رد عليهم امير المؤمنين بقوله {اتامروني ان اطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه؟ والله ما اطور به، ما سمر سمير وما ام نجم في السماء نجما، لو كان المال لي لسويت بينهم، فكيف وانما المال مال الله؟ الا وان اعطاء المال في غير حقه تبذير واسراف، وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الاخرة}.
وذات مرة، قال له قنبر: يا امير المؤمنين، لقد خبات لك خبيئا، فساله الامام: وما هو ويحك؟ فقال له: قم معي.
وانطلق به الى داره فوضع بين يديه غرارة مملوءة من جامات، ذهبا وفضة، وهو يقول: رايتك لا تترك شيئا الا قسمته، فادخرت لك هذا من بيت المال، فغضب الامام وصاح بغلامه: ويحك يا قنبر، اردت ان تدخل بيتي نارا عظيمة؟ ثم دعا بالناس فقال: اقسموه بالحصص.
ومضى على الاثر الى بيت المال فاخذ يقسم بينهم كل ما وجد فيه حتى وقع على ابر ومسال، جاءته من بعض عماله، فدفعها للناس قائلا: ولتقسموا هذه ايضا، فقالوا له: ولا حاجة لنا فيها، فابى ان يدعوها، وقال لهم ضاحكا: ليؤخذن خيره من شره.
انه عليه السلام ما كان ليؤثر نفسه بشئ على الناس، بذريعة انه امامهم المنتخب والواجب الطاعة، فكان يقول لهم دائما {يا اهل الكوفة، اذا انا خرجت من عندكم بغير راحلتي ورحلي وغلامي، فانا خائن}.
اما ان يتصرف الحاكم بالمال العام كيف يشاء وانى يشاء، بحجة ان الناس انتخبوه لهذا الموقع، او انه يؤثر نفسه واقاربه وعشيرته ومحازبيه ومن يتملق له ويتودد اليه، على بقية الناس، بدعوى انه وصل الى سدة الحكم عن طريق الانتخابات، ولذلك فانه يرى ان يده مبسوطة كل البسط، يتصرف بالمال والدم والعرض كيف وانى يشاء، فهذا كله حرام ومخادعة وكذب، فشرعية الوصول الى السلطة عن طريق ارادة الناس لا تبرر السرقة والفساد المالي والاداري، وهي لا تمنح صاحبها حق التصرف بالمال العام كيف وانى يشاء، ابدا، وان كل ما يفعله الحكام الخونة والظلمة الذين يقودون انظمة استبدادية وشمولية وبوليسية، بمثل هذا، انما هم يتجاوزون على حقوق الناس، انها لصوصية تعتدي على الحق العام، لا يبررها شئ ابدا حتى اذا ساق صاحبها الف حجة وعذر او الف قصة من (التاريخ الاسلامي) الذي يشرعن للظالمين ظلمهم، كما انه يشرعن سكوت المظلوم على حقه الذي يغتصبه الحاكم الظالم.
ثالثا: القانون فوق الجميع، فلا احد في النظام الديمقراطي محمي من القانون، بسبب قرابته من الحاكم او صداقته لعائلته او انتمائه لحزبه، ولقد قال (ع) مثبتا ذلك {وان تكونوا عندي في الحق سواء} و {الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له، والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه} بغض النظر عن اي شئ.
ولقد شدد امير المؤمنين في هذا المبدأ بدرجة غريبة، فعندما اطلع على تقارير الفساد المالي الذي ارتكبه بعض ولاته في عدد من الامصار، كتب اليهم يقول {ووالله لو ان الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلت، ما كانت لهما عندي هوادة، ولا ظفرا مني بارادة، حتى آخذ الحق منهما، وازيح الباطل عن مظلمتهما}، فالقانون في سلطة الحاكم العادل يسري على الجميع، حتى على ابنائه.
اما عندما طلب منه اخوه عقيل ان يساعده من بيت المال فيما ليس له فيه حق، وهو في تلك الحالة المعاشية التي يرثى لها، اجابه الامام عليه السلام بطريقة خاصة ظلت عبرة له ولغيره الى يوم يبعثون.
يقول امير المؤمنين عليه السلام يصف المشهد:
والله لقد رايت عقيلا وقد املق حتى استماحني من بركم صاعا، ورايت صبيانه شعث الشعور، غبر الالوان، من فقرهم، كانما سودت وجوههم بالعظلم، وعاودني مؤكدا، وكرر علي القول مرددا، فاصغيت اليه سمعي، فظن اني ابيعه ديني، واتبع قياده مفارقا طريقتي، فاحميت له حديدة، ثم ادنيتها من جسمه ليعتبر بها، فضج ضجيج ذي دنف من المها، وكاد ان يحترق من ميسمها، فقلت له، ثكلتك الثواكل، يا عقيل؛ اتئن من حديدة احماها انسانها للعبه، وتجرني الى نار سجرها جبارها لغضبه، اتئن من الاذى ولا ائن من لظى}.
ان الحاكم ــ الانسان، لا يدع احدا يفلت من تحت طائلة القانون اذا اخطا او ارتكب جرما او مد يده الى المال العام بغير وجه حق، حتى اذا كان اخوه او ابنه او زوجته، اما الحاكم ــ الحيوان، فان كل من ينتمي اليه بشكل او بآخر، بقرابة مثلا او محازبة او ما الى ذلك، محمي ازاء القانون حتى اذا قتل ونهب وارتكب اعظم الجرائم بحق الناس، لان الحاكم ــ الحيوان يتعامل مع السلطة بملكية خاصة، وتسري الحالة الى غيره ممن ينتمون اليه، فابنه لص لا يطاله القانون، وزوجته فاسدة من غير ان يكون للقانون عليها اي سلطان، وعشيرته يتصرفون بالمال العام كما يتصرف المالك بملكه وكانه ارث ابائهم او امهاتهم، وان حزبه يسرق ويفسد بلا وازع من قانون، واذا صادف ان وقع احدهم في فخ القانون متلبسا بالجرم المشهود، تدخل زبانية الحاكم ــ الحيوان لانقاذه من ورطته، بلا حساب ولا كتاب ولا هم يحزنون.
ولقد وصف مالك الاشتر مبدا (القانون فوق الجميع) عند الامام بقوله: انت تاخذهم، يا امير المؤمنين، بالعدل، وتعمل فيهم بالحق، وتنصف الوضيع من الشريف، فليس لشريف عندك فضل منزلة على الوضيع، فضجت طائفة ممن معك من الحق اذ عموا به، واغتموا من الذل اذا صاروا فيه، وراوا صنائع معاوية عند اهل الغناء والشرف، فتاقت انفس الناس للدنيا، وقل من ليس للدنيا بصاحب، واكثرهم يحتوي الحق ويشتري الباطل، ويؤثر الدنيا، فان تبذل المال يا امير المؤمنين تمل اليك اعناق الرجال.
وكمثال على ذلك، يسوق الكاتب عبد الفتاح عبد المقصود في كتابه (الامام علي بن ابي طالب) (النجاشي الشاعر) الذي اسال فكره قريضا ونظما يفيض ثناء على مناقب الامام عليه السلام واعزازا لامره، وهجوا لابن هند، يعني معاوية، وتحقيرا لشانه ومسلكه، ومع ذلك فلا يكاد هذا الشاعر الغاوي يتعرض للامتحان حتى ينقلب الميزان، فاذا هو يرتد عن نهجه، واذا الممدوح هو الخليق بالهجاء، والمذموم هو الحقيق بالثناء، فعندما احضره شرطة الامام بين يديه مقبوضا عليه بالجرم المشهود وقد سكر في شهر رمضان الكريم وخرج الى الشارع العام، امر الامام بجلده ثمانين جلدة وزاد عليها عشرين، وكانما هاله الجزاء، اذ لم يتصور ان الامام الذي طالما مدحه في شعره وهجا عدوه، سيعاقبه بسبب خطا ما، على اعتبار انه وامثاله كانوا دائما فوق القانون بسبب علاقتهم الحميمة بالحاكم، فاطلق لسانه يقول: يا امير المؤمنين؛ اما الحد فقد عرفته، فما هذه العلاوة؟ فقال له الامام: لجرأتك على الله، وافطارك في رمضان.
فمن العجب ان تاخذه العزة بالاثم، وتاخذ معه طائفة من اليمانية، فيها طارق بن عبد الله بن كعب النهدي، غضبوا له ولم يغضبوا لله، فمشوا بمنطق الاستكبار والاستعلاء الى الامام يحاجونه وينكرون عليه ما كان، فقال له طارق: يا امير المؤمنين؛ ما كنا نرى ان اهل المعصية والطاعة، واهل الفرقة والجماعة عند ولاة العدل ومعادن الفضل سيان في الجزاء، حتى راينا ما كان من صنيعك باخي الحارث.
فما كان جواب الامام الا ان قال {يا اخا نهد، وهل هو الا رجل من المسلمين انتهك حرمة من حرمات الله} الا ان جواب الحاكم ــ الانسان، لم يعجبهم فادلج طارق والشاعر بليل يفران من الحق الى معاوية.
اما قصة الامام مع ابن عمه ابن عباس، عامله على البصرة، فهي الاخرى تؤكد ان القانون في ظل الحاكم ــ الانسان فوق الجميع، فالقرابة لا تشفع لاحد ليفلت من القانون، ولذلك فعندما وصل بلاغ من ابي الاسود الدؤلي الى الامام يخبره فيه بتجاوزات مالية لابن عباس، طلب الخليفة منه تقديم كشف بذلك، وان كان يظن ابن عباس بانه فوق المحاسبة والمساءلة لانه ابن عم الخليفة، فلذلك استغرب من قراره، فقرر الفرار بالمال الى معاوية الذي كان يحمي المجرمين الذين يطالهم قانون الامام العادل فيفروا منه اليه، بعد ان تسلم من الامام رسالة يوبخه على ما ارتكب من فساد مالي بحق الامة، يقول له فيها ضمن كلام طويل:
فاتق الله واردد الى هؤلاء القوم اموالهم، فانك ان لم تفعل، ثم امكنني الله منك، لاعذرن الله فيك، ولاضربنك بسيفي الذي ما ضربت به احدا الا دخل النار.
رابعا: الحساسية المفرطة ضد الفساد بكل اشكاله.
فالحاكم ــ الانسان لا يعين المسؤولين لاعتبارات فاسدة كالمحسوبية مثلا او الولاء او القرابة او ما اشبه، ابدا، وانما على اساس قيم ومبادئ حضارية هي حجر الزاوية في عملية البناء والتنمية، كالخبرة والنزاهة والامانة وغير ذلك على قاعدة (الرجل المناسب في المكان المناسب) ولذلك فقد اوصى الامام علي عليه السلام مالكا الاشتر في عهده اليه عندما ولاه مصر، بقوله {ثم انظر في امور عمالك فاستعملهم اختبارا، ولا تولهم محاباة واثرة، فانهما جماع من شعب الجور والخيانة، وتوخ منهم اهل التجربة والحياء} فالامام يعتبر التعيين على اساس المبادئ الفاسدة خيانة للامة، لان من يتبوأ موقع المسؤولية وهو غير صالح له سيفشل في اداء المهام الموكولة اليه، عجزا وتقصيرا وليس قصورا، ما يؤدي الى ضياع حقوق الناس وهدر طاقات البلد والوقت المصروف على ما فشل في تحقيقه، وكل ذلك خيانة في خيانة.
كما ان الحاكم ــ الانسان لا يمد يده ولا يسمح لاحد ان يمد يده الى بيت المال عبثا ومن غير حساب وكتاب، او مساءلة او رقيب، فعندما جاء عبد الله بن جعفر مرة الى عمه الخليفة في محنة المت به، قائلا: يا امير المؤمنين، لو امرت لي بمعونة او نفقة، فوالله ما لي نفقة الا ان ابيع دابتي، رد عليه الامام بقوله {لا والله لا اجد لك شيئا، الا ان تامر عمك ان يسرق فيعطيك}.
فالامام يرفض رفضا قاطعا ان يمد يده بغير حق الى المال العام بحجة ان من يطلب المعونة هو ابن اخ الحاكم، او انه الحاكم الاعلى في الدولة فمن الذي سيجرؤ على محاسبته اذا اخذ شيئا من خزينة الدولة في الليل مثلا والناس نيام؟.
من اجل ذلك وصف الامام محمد الباقر عليه السلام امير المؤمنين عليه السلام بقوله {انه ولي خلافته خمس سنين، وما وضع أجرة على أجرة، ولا لبنة على لبنة، ولا أقطع قطيعا ولا أورث بيضاء ولا حمراء}.
خامسا: الرقابة الشعبية كذلك مكفولة، بل ان الحاكم يشجع عليها ويحث الناس على ممارستها، لان الحاكم وكيلهم ومن حقهم ان يراقبوه ويحاسبوه على كل شاردة وواردة.
ومن الممكن ان تنتهي الرقابة الشعبية الى اسقاط الحاكم اذا لم يلتزم بما الزم به نفسه، فعندما بعث الامام علي عليه السلام قيس بن سعد واليا على مصر في بداية عهده بالخلافة، علمه هذا المعنى في كتابه الذي حمله معه الى اهل مصر، وعندما وصل قيس مقصده قام خطيبا، ومن بين ما قال: فقوموا ايها الناس فبايعوا على كتاب الله عز وجل وسنة رسوله (ص) فان نحن لم نعمل لكم بذلك، فلا بيعة لنا عليكم.
فالبيعة تسقط اذا فشل الحاكم في تحقيق اهداف الناس، كما انها تسقط عن اعناق الرعية اذا انحرف الحاكم عن برنامجه الانتخابي، ولا يتاتى ذلك للناس، اسقاط الحاكم الشرعي، الا بالرقابة والمحاسبة والحضور الدائم في الشان العام، ولذلك كفل الامام كل ذلك للناس ليمكنهم من ممارسة حق اسقاط الحاكم الشرعي اذا ما انتفت ضرورات وشروط البيعة السليمة، اما ان يكتفي الحاكم المنتخب بالبيعة الاولية ليفعل ما يشاء وانى وكيف يشاء، من دون رقابة من الامة، فهذا ليس من الديمقراطية بشئ ابدا.
ولتحقيق هذا المبدا، يعمد الحاكم ــ الانسان الى ازالة كل الحواجز النفسية وكسر كل الموانع المادية التي ترهب الناس وترعبهم فتحول بينهم وبين ممارسة هذا الحق، الرقابة الشعبية، ولطالما سمع الناس الامام يقول {فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند اهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالا في حق قيل لي، ولا التماس اعظام لنفسي، فانه من استثقل الحق ان يقال له او العدل ان يعرض عليه، كان العمل بهما اثقل عليه، فلا تكفوا عن مقالة بحق او مشورة بعدل}.
فضلا عن انه (ع) كان يرفض ان يضع الحجاب والحراس وبطانة السوء التي تتحول بمرور الزمن الى حجب تحول بينه وبين الرعية ما يمنعهم من ممارسة حق الرقابة الشعبية، بل انه عليه السلام كان يوصي عماله في مختلف البلدان بالظهور الى الرعية وجها لوجه بلا حراس او بطانة ليسمعوا من الناس مباشرة وبلا وساطات، فلقد كتب الى الاشتر في عهده المشهور يقول {واما بعد، فلا تطولن احتجابك عن رعيتك، فان احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق، وقلة علم بالامور، والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عنهم الكبير، ويعظم الصغير، ويقبح الحسن، ويشاب الحق بالباطل}.
وفي نص آخر يقول عليه السلام {واجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلسا عاما فتتواضع فيه لله الذي خلقك، وتقعد عنهم جندك واعوانك من احراسك وشرطك، حتى يكلمك متكلمهم غير متتعتع، فاني سمعت رسول الله (ص) يقول في غير موطن {لن تقدس امة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متعتع} ثم احتمل الخرق منهم والعي ونح عنهم الضيق والانف}.
اما في وصيته الى عامله على مكة، قثم بن العباس، فقد قال له فيها {لا يكن لك الى الناس سفيرا الا لسانك، ولا حاجب الا وجهك، ولا تحجبن ذا حاجة عن لقائك بها، فانها ان ذيدت عن ابوابك في اول ردها، لم تحمد فيما بعد على قضائها}.
وعندما استخلف الامام عبد الله بن العباس على البصرة في اول خلافته، اوصاه بقوله {سع الناس بوجهك ومجلسك وحكمك} في تاكيد منه على عدم الاحتجاب عن الناس، ووجوب الحضور بينهم، ما يمكنهم من ممارسة حق الرقابة الشعبية على الحاكم.
سادسا: الحقوق والواجبات مكفولة للمواطن على اساس المواطنة وليس على اساس الدين او المذهب او القومية، فالفرص والامن والشان العام مكفول للجميع بلا استثناء او تمييز.
ففي اول خطاب عام له بعد البيعة كخليفة، خاطب الامة بقوله {ايها الناس} للتعبير عن ان كل المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات بلا تمييز على اي اساس جاهلي، فالمواطنة بالانتماء للوطن فحسب وليس لاي شئ آخر، ولذلك عمم الامام خطاب الحقوق لكل الناس بقوله {ايها الناس، ان لي عليكم حقا، ولكم علي حق، فاما حقكم علي فالنصيحة لكم، وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتاديبكم كيما تعلموا، واما حقي عليكم، فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والاجابة حين ادعوكم، والطاعة حين آمركم}.
والملفت للنظر في خطاب الحقوق هذا، هو ان الامام حدد واجبات الحاكم وحقوق الرعية قبل ان يحدد واجبات الرعية وحقوق الحاكم، وهو تقديم وتاخير له مدلوله العظيم، الا وهو انه لا يحق للحاكم ان يطالب الرعية بواجباتها الا بعد ان يمنحها حقوقها كاملة غير منقوصة، فلا واجبات قبل الحقوق، ولا حقوق للحاكم قبل ان يلتزم بواجباته.
انها اشارة رائعة لحقيقة في غاية الاهمية، الا وهي ان شرعية الحاكم تسقط اذا لم يصن حقوق الرعية، وان حقوقه على الرعية تسقط اذا فشل في صيانة حقوقها اولا وقبل ذلك.
يقول الامام عليه السلام {ولا أؤخر لكم حقا عن محله، ولا اقف به دون مقطعه، وان تكونوا عندي في الحق سواء، فاذا فعلت ذلك وجبت لله عليكم النعمة ولي عليكم الطاعة، والا تنكصوا عن دعوة، ولا تفرطوا في صلاح، وان تخوضوا الغمرات الى الحق}.
وفي النص دلالة واضحة على ان شرعية الحاكم بمنجزه وبالتزامه بما تعهد به للرعية في برنامجه الانتخابي، فلو فرط او قصر، فان شرعيته ستسقط ويكون حقا على الرعية اسقاطه وازاحته عن الحكم واستبداله بمن يرونه اجدر به واقدر عليه واكفأ في تحقيق حاجات الناس وحماية حقوقهم.
ان الحاكم ــ الانسان لا يتعامل مع رعيته على اساس الحب والبغض، فيمنح من يحب ما يشاء، ويمنع كل شئ عما يكره او يبغض، ابدا، لان المعيار عنده هو الحقوق والواجبات في اطار العدل والانصاف واحيانا المساواة، وليس على اساس الحب والبغض، فالاول لا يزيد حقا لاحد، والثاني لا يسقط حقا عن احد، ابدا، يقول (ع) في ذلك {لا يحيف على من يبغض، ولا ياثم فيمن يحب} فاذا فعل ذلك فهو حاكم ــ حيوان مهما رفع من شعارات وتستر خلف الخطب الرنانة، فالحقوق والواجبات لا دخل لها بالحب والبغض ابدا.
وبذات المعنى كتب الى الاسود بن قطيبة صاحب جند حلوان، في فارس، يقول {اما بعد، فان الوالي اذا اختلف هواه، منعه ذلك كثيرا من العدل، فليكن امر الناس عندك في الحق سواء، فانه ليس في الجور عوض عن العدل، فاجتنب ما تنكر امثاله، وابتذل نفسك فيما افترض الله عليك راجيا ثوابه، ومتخوفا عقابه}.
سابعا: حق المواطن في الحصول على المعلومة، ولا يحق للحاكم حجبها عنه الا في حرب.
يقول الامام (ع) مخاطبا الناس تحت سلطته {الا وان لكم عندي الا احتجز دونكم سرا الا في حرب}.
ولقد كان (ع) يستنكر على معاوية سياسة اخفاء الحقائق والتعتيم على الاخبار وحجب المعلومة عن الناس، بقوله {الا وان معاوية قاد لمة من الغواة، وعمس عليهم الخبر، اي ابهمه عليهم وجعله مظلما، حتى جعلوا نحورهم اغراض المنية} وهو يريد ان يقول بذلك انه يرفض ان يكون الناس ضحايا التضليل الذي سببه اخفاء المعلومة واحتكارها من قبل الحاكم واجهزته القمعية، فان ذلك ينتج مجتمعا جاهلا واميا لا يعرف من الحقائق شيئا، ولذلك يحوله الحاكم الى مطية يركبها لتحقيق اغراضه الخاصة، والى نعاج يقودها الى المسالخ متى ما يشاء، فاذا بمثل هذا المجتمع ضحية للتضليل والكذب والتزوير واخفاء المعلومة.
ولقد سعى عليه السلام الى ان يثبت هذا الحق في اول خطبة عامة كان قد حدد فيها الحقوق المتبادلة بين الحاكم والرعية بقوله {وتعليمكم كيلا تجهلوا} ومن المعروف فان من ابرز اسباب الجهل هو اخفاء المعلومة واحتكارها، الامر الذي حذر منه الامام في هذه الخطبة وفي خطب اخرى كثيرة.
ثامنا: حرية المعارضة مكفولة سواء في القول، حرية التعبير، او في الفعل، كالاعتصام او التظاهر وغيرها من طرق التعبير عن المعارضة بالطرق السلمية، فليس للحاكم ان يمنع المعارضة او يقمعها ابدا، ولذلك، فعندما تناهى الى مسامع الامام خبر خروج (طلحة والزبير وام المؤمنين عائشة) الى البصرة لقيادة المعارضة ضده، قال {وساصبر ما لم اخف على جماعتكم، واكف ان كفوا، واقتصر على ما بلغني عنهم}.
وبرأيي، فان ايمان الامام المطلق بهذا الحق هو الذي دفعه الى القول {لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحق فاخطأه، كمن طلب الباطل فادركه} فهو لم يخون المعارضة ولم يتهمها في دينها، وانما احترم عندها سوء التقدير، ولذلك ظل يحاورهم الى آخر لحظة سبقت قتالهم.
كما انه قال لمن رفض القتال معه في حروبه ضد الناكثين والمارقين والقاسطين، وكان من بينهم سعد بن ابي وقاص واسامة بن زيد وابن عمر {انا لا اكرهكم على المسير معي على بيعتي، اي على الرغم من بيعتكم لي} وكان قد امر قثم بن العباس عندما ولاه المدينة قبل مسيره الى البصرة، وامره ان {يشخص اليه من احب الشخوص، ولا يحمل احدا على ما يكره} اذ كان (ع) يحترم الراي الاخر، مهما اختلف معه، وكان يحترم تردد البعض وشكوكهم وقت (الفتنة) فلم يشان ان يجبر احدا على موقف لم يختمر في ذهنه بعد.
ولقد روي انه عليه السلام كان جالسا في اصحابه، فمرت بهم امراة جميلة، فرمقها القوم بابصارهم، فقال عليه السلام {ان ابصار هذه الفحول طوامح، وان ذلك سبب هبابها، فاذا نظر احدكم الى امراة تعجبه فليلامس اهله، فانما هي امراة كامراته} فقال رجل من الخوارج: قاتله الله كافرا ما افقهه، فوثب القوم ليقتلوه، فقال عليه السلام {رويدا؛ انما هو سب بسب، او عفو عن ذنب}.
وكان عليه السلام يحث الناس على ابداء الراي في كل القضايا العامة بلا خوف او وجل، فكان عليه السلام يقول {فلا تكفوا عن مقالة بحق، او مشورة بعدل} لانه كان يكره ان يسال الناس رايهم في شئ فلا يسمع جوابا، يلوذون بالصمت، ولا يعبرون عن انفسهم.
وقبل ان يشرع الامام هذا الحق شرع اولا الحرية باروع معانيها واعمق مضامينها، عندما قال {لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا} فالانسان حر تحت سلطة الحق التي اقامها الامام عليه السلام، وان من بين تجليات هذه الحرية هو حق المواطن في ان لا يكرهه الحاكم على شئ لا يعتقد به او لا يرغب فيه او لا يريده، شريطة ان يقف هذا الحق عند حقوق الاخرين كما هو معروف وواضح وجلي.
فابتداء، رفض الامام اكراه احد على بيعته، لانه يعتبر ان البيعة ان لم تكن بارادة حرة فهي ليست مسؤولة، وانما ستكون بيعة غير مسؤولة، وان هذا النوع من البيعة فاسدة، تشجع الناس على ممارسة النفاق وربما الانتقام في بعض الاحيان.
انه عليه السلام كان يسعى لتعليم الناس مبدا ان البيعة مسؤولية اذا اعطاها الانسان بكامل حريته، وبهذه الحالة فستكون امانة في عنق الحاكم والتزام في عنق صاحبها، ولهذا السبب لم يجبر احدا عليها بالمطلق، ولقد اعتبر بعض الباحثين والكتاب ان من اهم عوامل المحنة التي مرت بها خلافته (ع) تمسكه المبدئي الصارم بالحرية، ورفضه الحاسم للاكراه من اي نوع.
لقد وصف عليه السلام الذين بايعوه بقوله {ولم تكونوا في شئ من حالاتكم مكرهين} ما يعني انه سلم زمام الخيار بيد الناس، لهم ان يبايعوا ولهم ان لا يبايعوا، فقال عن طلحة والزبير {فبايعاني على هذا الامر، ولو ابيا لم اكرههما كما لم اكره غيرهما} فيما قال مخاطبا المغيرة بن شعبة {وقد اذنت لك ان تكون من امرك على ما بدا لك}.
اكثر من هذا، فعندما جاءه حبيب بن مسلم الفهري، وقال له: اعتزل امر الناس فيكون امرهم شورى بينهم، فاجابه الامام {وما انت وهذا الامر؟ اسكت فانك لست هناك ولا باهل له} قام حبيب وقال: والله لتريني بحيث تكره، لم يفعل له الامام اكثر من انه قال له {ما انت ولو اجلبت بخيلك ورجلك، لا ابقي عليك ان ابقيت علي، اذهب فصوب وصعد ما بدا لك} على الرغم من ان لهجة حبيب كانت تهديدية بامتياز، ولو قالها لغير الامام لامر باعتقاله (احترازيا) كما يفعل اليوم الحكام الذين تعاني منهم الشعوب العربية والاسلامية الامرين، والتي ستنتهي بهم الحال الى رميهم في مزبلة التاريخ حيث لا يرحمهم احد.
لقد ترك الامام باب الخيار والاختيار بايدي الناس، ان شاؤوا التحقوا في صفوفه، وان شاؤوا التحقوا في صفوف عدوه معاوية، من دون ان يكره احد على خيار ما، حتى اخوه عقيل عندما قرر ان يلتحق بمعاوية في فترة من الفترات لم يمنعه الامام ولم يجبره على خيار معين، وعندما علم (ع) ان نفرا كانوا يرحلون من الحجاز والعراق وياتون الشام ليلتحقوا بمعاوية، لم يصدهم او يعرض لهم، كما انه لم يسع الى استبقائهم او اغرائهم بالرشوة وشراء الضمائر، ابدا، وانما اكتفى بتوضيح الامور والقاء الحجة بالمنطق وليس بالسيف، كما يفعل اليوم الحكام الظلمة، فقال عليه السلام {اللهم اني دللتهم على طريق الرحمة وحرصت على توفيقهم بالتنبيه والتذكرة، ليثيب راجع ويتعظ متذكر، فلم يطع لي قول، اللهم اني اعيد عليهم القول}.
ان سلطة الحاكم ــ الانسان لا تمتد لتشمل عقول الناس واراداتهم، ابدا، فهي ليست كسلطة الحاكم ــ الحيوان الذي يعتقد بان سلطته على الانسان ممتدة الى كل كيانه وما يتعلق به، ماله ودمه وعرضه وعقله ودينه وكل كيانه.
يقول الكاتب والاديب اللبناني القدير الاستاذ جورج جرداق في موسوعته القيمة بهذا الصدد:
شاهد آخر على معرفة علي حق الناس في الحرية الواسعة، اسلوبه في معاملة الخوارج، فقد كان يحسن معاملة من اقام منهم معه، ويعرف ان احدهم يهم بالخروج فلا يستكرهه ولا يستبقيه، ولا يرضى بان يتعرض له من اصحابه احد، ثم انه كان يعطيهم نصيبهم من الفئ اسوة بسائر الناس، ويفسح لهم في المجال لان يتوجهوا حيث يشاؤون، فالحرية اساس في المعاملة، والناس احرار فيما يرون من عمل وقول، وموالاة ومعاداة، الا ان يعتدوا على الناس ويفسدوا في الارض، فانهم حينذاك غير احرار، وانه حينذاك مقيم ما لزمهم من الحدود في غير لين.
وقد اخبره احدهم مرة، واسمه الخريت بن راشد، بانه لم ياتم به ولن يشهد معه الصلاة ولن ياتمر بما يامر ولن يكون له عليه سلطان، فما كان من علي الا ان اقره على ما ارتأى واراد وخلاه حرا فيما شاء، ثم كانت ايام خرج الخريت بن راشد بعدها ومعه اصحاب كثر، فما استكرههم علي على البقاء معه ولا منعهم من الخروج، وبيده ان يستكره وان يمنع.
فسلام عليك ايها الامام ــ الانسان، وسلام على ما جاهدت من اجله وضحيت في سبيله، الحرية، ورحمة الله وبركاته.
4 حزيران 2011