الديمقراطية) في مجتمعاتنا ...... !!
(الحلقة الأولى) جادة نقاش بيني وبين الاستاذ الدكتور كاظم حبيب
مدخل في فهم الموضوع
نشر الاخ الاستاذ الدكتور كاظم حبيب مقالا مطولا بعنوان ( حوار مع أفكار الأستاذ الدكتور سيّار الجميل في مقاله: هل تنجح الديمقراطية في مجتمعاتنا العربية؟ ) في وسائل الاعلام المقروءة ومنها الجيران ومواقع اخرى يوم 26 / 8/ 2007 .. وقد قرأته بشغف كبير خصوصا وانه قد انتقل فيه الى موضوع فكري محللا بهدوء المرتكزات الاساسية له قبل ان يشخّص العلل .. وقد مكنته مراجعته للواقع ، منطلقاته الفكرية التقدمية وعمق ثقافته الماركسية التي يعتبر واحدا من ابرز رجالها في العراق .. ناهيكم عن اكاديميته الرصينة .. ولعل اجمل ما تضمنّه هذا " الحوار " تلك الاسس التي يطمح لارسائها في مجتمعات الشرق الاوسط وشمال افريقيا ، ولكن باستعارة واضحة لتجربة اوروبا .. وكنت قد شكرت الصديق كاظم حبيب ، ووعدته بالرد في جادة نقاش مشترك .. فعذرا ان طال موعده لمشاغل عدة ومسؤوليات كثيرة .
نعم ، دعوني استدعيكم الى جادة النقاش والنقد والجدل ثانية لا الجدال العقيم والانتقادات المبيتة لكي نشبع الموضوع دراسة وبحثا وتفكيرا ، ولكي أوضّح بعض ما عندي من افكار اسعفتني بها خبرتي التاريخية المتواضعة .. وسيجدني القارئ الكريم ربما كنت اوافق الاخ الدكتور حبيب او اخالفه ، ولكن ما ينفع من اي جدل هو قرائنه ومعلوماته وتحليلاته واخيرا ، حصيلته والاستنتاجات التي نخرج بها .
مجتمعاتنا بين العربية والشرق اوسطية
لما كنت قد حددّت في دراستي ( مجتمعاتنا العربية ) فان ما اعنيه هو هذه " المجتمعات " وليس كل مجتمعات الشرق الاوسط .. ذلك ان رواسب التاريخ ربما تكون واحدة في عموم الشرق الاوسط ، ولكن ثمة تمايزات سياسية بين مجتمعات الشرق الاوسط ، في حين ان ثمة تجانسات اجتماعية تعيشها المجتمعات العربية ، بحكم الثقافة واللغة بشكل خاص . وعليه ، فان ما عنيته باخفاقات الديمقراطية كظاهرة تاريخية جديدة يختص بالمجتمعات العربية لا غيرها .. ولكن هذا لا يمنعني ابدا ان ابحث هذه " الظاهرة " او اية ظاهرة اخرى لمجتمعات الشرق الاوسط كما فعلت في عدة كتب ودراسات نشرتها عن الشرق الاوسط .. ومن اهمها كتابي الموسوم ( العرب والاتراك : الانبعاث والتحديث من العثمنة الى العلمنة ، ط1 ، بيروت ، 1979 ) . وعليه ، فان موضوعنا سيعالج مشكلة محددة في مجتمعات معينة .. علينا ان نعترف مهما بلغ حجم الاقليات فيها من الاتساع ، فان الثقافة السائدة فيها هي العربية . والحق يقال ان الاستاذ حبيب قد فتح امامي ابوابا لكي اطرقها ، كما ونبهني الى اشياء عديدة يمكن تحليلها ومعالجتها .. وسواء اتفقنا ام اختلفنا ، فان الكتابة في هكذا " ظواهر " سوف لا تحسم في يوم وليلة ، بل لا في سنة ولا سنتين .. ولا بين شخصين او ثلاثة انها بحاجة الى مراحل تاريخية وبدائل زمنية ونخب متنوعة في اجيال متعددة ..
تباينات التفكير عند النخب ومفارقات الجهل لدى الجماهير
صحيح ان ثمة رغبة عارمة لدى النخب المثقفة في المنطقة كلها تطالب بالديمقراطية ، ولكنها ليست من مطالب الجماهير ، كما يبدو لي اليوم ، فالجماهير تطالب بالاسلام ، هي تؤمن ايمانا جذريا بأن الديمقراطية هي غير الاسلام .. وهذا فهم صحيح ولكنه لا يترجم عن وعي حضاري .. ان ثمة تناقضا واسعا بين ما تريده النخب الواعية وبين ما تردده الجماهير اللاواعية .. بل لابد ان نعترف بأن مفهوم المجتمع المدني الديمقراطي لم يتبلور بعد في مجتمعاتنا حتى يومنا هذا .. اذا كانت جل الاحزاب السياسية لا تفرق بين الديني والمدني ، وان جل المثقفين والمفكرين العرب لا يميزون بين الديمقراطية والاسلام ! فكيف يمكننا السكوت على مثل هذه المفارقات التي اجدها ليست سهلة ، بل انها صنعة صعبة جدا بحاجة ماسة الى تنمية التفكير لاتجاه المستقبل لا باتجاه الماضي . أي يتحول التفكير ـ كما كنت اسميته في كتابي ( التحولات العربية : اشكاليات الوعي وتحليل التناقضات وخطاب المستقبل ، ط1 ، بيروت ، 1997 ) .. يتحول التفكير من الماضوية الى الرؤيوية .. وتسخير كل الماضي لدراسة كل الحاضرة .
ان المشكلة لا يمكن تمييعها باخفاء حقيقة مجتمعاتنا ، كما ان علاج المشكلة لا يكمن بتوفير اي منهج علمي ، او مادي جدلي وتاريخي ، للمساعدة على وضع اليد على العصب الحساس في عملية التغيير الاجتماعي والسياسي في اي بلد من البلدان .. فما قيمة المنهج العلمي في مجتمع لا يمتلك الوعي ؟ وما قيمة المنهج المادي او الجدلي في اي مجتمع لم يتحرر تفكيره بعد من القيود الثقيلة التي تحكمه ؟
هل المسألة مسألة مراحل ؟
السؤال المهم : هل ان مجتمعاتنا الشرق اوسطية عموما تعيش في مرحلة ، ولكنها موجودة فعلا في مرحلة تاريخية أخرى ؟
الجواب ليس بالضرورة نعم ، فانها لا تعيش المعاصرة اليوم ، وهي بنفس الوقت لا تعيش اي مرحلة تاريخية سابقة اخرى ، بل انها تتخيل انها تعيش هذا العصر وبنفس الوقت ترنو الى ان تعيش الماضي ، فلا هي من اهل الحاضر ولا هي من اهل الماضي ! ان نسيجا معقدا من التناقضات يحكم ذهنيتها وعقليتها والمشكلة انها لا تريد ان تحاصر بالاسئلة ، بل تفلت منها من خلال خطوط حمراء لا تريد تجاوزها ابدا ! هنا اقول بأنها لا تعيش البتة لا القرن الثامن عشر او التاسع عشر ولا من قبلهما ابدا .. فمن يتعمّق في تاريخ القرون الاربعة التي سبقت كل من القرنين العشرين والواحد والعشرين .. سيلحظ ان البنى الاقتصادية والاجتماعية وحتى الثقافية والوعي الاجتماعي لا يمت بأي صلة الى واقع مجتمعاتنا اليوم .. فالحياة قد اختلفت تماما في العواصم والمدن الكبيرة والبلدات والقصبات ثم في الارياف ثم في البراري البعيدة .. ولا اريد ان افصّل كيف كانت حياة تلك المجتمعات المغلقة تجاه نفسها وتجاه الاخر .. بل وما كان يجتاحها من حالات رعب نتيجة موجات الكوارث الطبيعية والسياسية والعسكرية التي تصيبها .. اما مجتمعاتنا اليوم ، فهي منغلقة على نفسها وعلى الاخر باساليب واشكال اخرى ..
انها صحيح موجودة في القرن الحادي والعشرين بكل ما وصل اليه العالم من تطور اقتصادي واجتماعي وثقافي مدني علماني وديمقراطي شامل للحياة بكل جوانبها ، ولكن مجتمعاتنا مغمضة العيون عن الوعي بكل ما في الحياة المعاصرة من ايجابيات ومنجزات مذهلة .. انها منغلقة الاذهان على ان التمتع بكل منتجات العصر شيئ مباح ، ولكن ثمة خطوط حمراء في تجاوز كل المنتجات المادية الى المنتجات الفكرية والفلسفية .. ثمة وعي قاصر او وعي ميت بالحياة المعاصرة التي ارتبطت بالغرب ، وقد اشيع ان الغرب كافر وان الغرب استعماري وان الغرب عاهر وان الغرب .. مع قناعتي بأن الغرب غرب والشرق شرق وسوف لن يلتقيا ما دام التفكير قد استلسم الى ان العالم المعاصر كله مصنوع في الغرب .. وعليه ، فان المنتج في التفكير السائد في العالم الاسلامي ان الحياة المعاصرة تخالف الشرع والدين .. بالوقت الذي تكرس منتج غربي يقول بأن العالم الاسلامي عدو لدود للحضارة كلها ، وان " الاسلام عامل من عوامل تنمية الارهاب العالمي " ( كذا ) !!
ما الذي تحتاجه مجتمعاتنا ؟
ثمة علاقة خفية لا يمكن التقاطها ابدا تلك الكامنة في تلافيف العقلية المجتمعية في مجتمعاتنا والتي تقبل التشيؤات المعاصرة ولكنها تنكر الافكار المعاصرة !! ثمة امر بمنتهى الخطورة افرزته تناقضات القرن العشرين بكل ما حفل به من غرائب وعجائب ذلك ان دولنا ومجتمعاتنا كرّست المفهوم القائل : ( نأخذ ما ينفعنا ونترك ما لا ينفعنا ) ومعنى ذلك انه يأخذ التكنولوجيا المتقدمة من دون الفلسفات المعاصرة .. واستعار من الفكر السياسي والاقتصادي شعارات براقة كالديمقراطية والاشتراكية والتعاونية والعلمانية والمجتمعات المدنية .. ويحاول ان يكرسها كتوافقات او قطع احتياط (اسبير بارت) لمفاهيم قديمة وتقليدية مألوفة من دون ان يجعل الظواهر المعاصرة بدائل حقيقية للحياة .
ان مجتمعاتنا لا تحتاج الى الدفعة الضرورية كونها لا تعيش حالة المجتمعين الماضي والمعاصر .. ابدا ، بل انها بحاجة الى مجرد القطيعة .. انها بحاجة الى القطيعة الذهنية بحيث تفكر في حياتها ومستلزماتها الروحية والمادية بمعزل عن كل ترسبات الماضي وادرانه .. وانها بحاجة الى من يزرع فيها القيم الجديدة التي ليس من شروطها ان تكون غربية صرفة .. فلقد فشلت التجارب الشيوعية والاشتراكية في مجتمعاتنا كونها اسست نفسها ليس من خلال القطيعة ، بل خلقت من نفسها العدو رقم واحد في مجتمعات لم تزل تثوى في مرتع تناقضاتها الغريبة .