السبيل للخروج بالعراق من المأزق الحالي وبناء دولة القانون والديمقراطية
تجتاز العملية السياسية الجارية اليوم مرحلة بالغة الخطورة، حيث تمر العلاقات بين القوى السياسية التي جاء بها الاحتلال إلى قمة السلطة بمأزق حرج بسبب الصراع الجاري على السلطة والثروة، واستخدام الدين من قبل أحزاب الإسلام السياسي بشقيه الشيعي والسني من جهة والأحزاب القومية الكردية الشوفينية التي استخدمت جرائم نظام صدام حسين خلال حملة الأنفال لتؤجج المشاعر القومية الشوفينية لدى المواطنين الأكراد بغية تحقيق أهداف سياسية بعيدة المدى ترمي إلى تمزيق الوطن العراقي، وخلق كيانات انفصالية باسم الفيدرالية البائسة التي باتت أهدافها مكشوفة لأبناء الشعب العراقي جميعا كونها تهدف إلى تمزيق النسيج الاجتماعي العراقي، وفصل المنطقة الشمالية من الوطن عن الجسد العراقي، بل لقد ذهب قادة الحركة القومية الشوفينية الكردية بعيداً جداً في تطلعاتهم لقضم المزيد من الأراضي العراقية وضمها لدولتهم العتيدة بعد أن استطاعوا تضمين دستور بريمر السيئ الصيت فيما يسمى بالمناطق المتنازع عليها في الموصل وكركوك وديالى والكوت، متذرعين بالدستور الذي جرى وضعه من قبل السادة مسعود البارزاني وجلال الطالباني وعبد العزيز الحكيم الذين استأثروا بالسلطة بدعم مباشر من المحتلين الأمريكيين وحاكمهم المعين على العراق بول بريمر.وهكذا بدأ الصراع بين القوى السياسية يتصاعد من جديد بين الأطراف التي تحرص على وحدة العراق أرضاً وشعباً، وبين الأطراف الأخرى المتمسكة [بالعروة الوثقى] التي تتمثل بالدستور، والتي تسعى لتفتيت العراق باسم الفيدرالية.
لقد باتت الفيدرالية كلمة منبوذة من الأغلبية المطلقة للشعب العراقي بعد أن تكشفت الأطماع الواسعة لقادة الحزبين القوميين الكرديين من جهة، وأطماع أعوان نظام ملالي طهران الذين كانوا يطمحون في خلق كيان طائفي في الجنوب، ومن أجل هذه الأهداف المعادية لمصالح الشعب والوطن كان توقيع ميثاق التحالف السيئ الصيت بين قيادة الائتلاف الشيعي بقيادة الحكيم والتحالف الكردي بقيادة البارزاني والطالباني قبل الانتخابات الأولى لتمزيق واقتسام العراق.
أن إصلاح العملية السياسية الجارية في العراق باتت ضرورة ملحة للوصول بالعراق إلى بر الأمان، والحفاظ على وحدته أرضاً وشعبا، والتوجه نحو إعادة بناء البنية الاقتصادية والاجتماعية، وبناء جيش عراقي قوي قادر على صيانة وحدة واستقلال البلاد.
لقد أدرك السيد رئيس الوزراء نوري المالكي خطورة هذا المأزق الحالي للعملية السياسية، دعيا عبر خطاباته المتعددة ولقاءاته إلى إصلاحها، كما دعا إلى إعادة كتابة الدستور كخطوة أولى، ومفتاحاً لإصلاحها، داعياً إلى قيام دولة القانون، واتخذ من هذا التوجه شعاراً لخوض انتخابات مجالس المحافظات التي أثبتت نتائجها التوجه الجديد للشعب العراقي بنبذ الأحزاب الدينية المسيسة للدين، والأحزاب الكردية القومية الشوفينية التي كانت تتغنى بالديمقراطية فإذا بها تلتقي بقوى الإسلام السياسي الموغلة في رجعيتها وطائفيتها، والتي أوصلت العراق إلى الحرب الأهلية الطائفية التي أدت إلى الكارثة التي كلفت الشعب العراقي مئات الألوف من الضحايا، وتهجير الملايين من المواطنين داخل الوطن وخارجه هرباً تاركين مساكنهم وأملاكهم وأعمالهم ووظائفهم من القتل!!
لقد جاء توجه السيد المالكي نحو تعديل الدستور متوافقا تماماً مع مطالبة غالبية الشعب العراقي، التي اعتبرت التحالف الشيعي الكردي وراء كتابته، من أجل إقامة الفيدراليات المشبوهة ومنحها الصلاحيات الواسعة التي تجاوزت صلاحيات الحكومة المركزية.
كما أدرك وتلمس السيد المالكي محاولات التسلق على صلاحيات الحكومة المركزية من جانب حكومة البارزاني والطالباني، وتعكزها على الدستور في سلب تلك الصلاحيات وآخذ المزيد منها.
إن الحفاظ على وحدة العراق أرضاً وشعباً قد باتت مهمة وطنية ومسؤولية كبرى أمام الأجيال الصاعدة، وهي تقتضي بادئ ذي بدء إعادة كتابة الدستور من جديد، وسن دستور علماني لا أثر فيه لأي توجه طائفي أو عرقي شوفيني، ويؤكد على الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان التي نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة، واحترام حقوق وحريات كافة القوميات والطوائف والأديان على قدم المساواة.
كما ينبغي أن يمنح الدستور المنتظر إدارة المحافظات صلاحيات الإدارة المحلية فقط، على أن ترتبط بالمركز حفاظاً على تماسك النسيج الاجتماعي العراقي، وعلى وحدة الوطن من كل محاولات التقسيم والتفتيت التي يبشر بها البعض ويسعى لتحقيقها، وإن أي إجراء يتعلق بوحدة العراق ينبغي أن يخضع لعملية استفتاء للشعب العراقي كافة، وليس لسكان محافظة ما، أو عدد من المحافظات، ليقول كلمته فيه.
إن إعادة كتابة الدستور ينبغي أن لا تكون نهاية المطاف، بل ينبغي أن يشكل ذلك المدخل لقرارات وإجراءات هامة ينبغي أن تتبع عملية كتابة الدستور، ويأتي في مقدمتها :
1 ـ سن قانون الأحزاب والجمعيات الذي ينبغي أن يؤكد على رفض قيام أحزاب سياسية على أساس ديني أو طائفي أو قومي عنصري شوفيني يثير النعرات القومية والنزاعات المؤدية للصراعات المسلحة التي جلبت على البلاد الكوارث الإنسانية الرهيبة منذ تأسيس الحكم الوطني في البلاد عام 1921 وحتى يومنا هذا.
إن قيام حياة حزبية ديمقراطية هي السبيل الوحيد والقويم لصيانة حقوق وحريات المواطنين بصرف النظر عن القومية والدين والطائفة، حيث ينال كل ذي حق حقه دون تمييز، وحيث تؤدي إلى تمتين عرى الأخوة والمحبة بين أبناء الشعب الواحد ونبذ الكراهية الدينية والقومية والطائفية التي جربها الشعب العراقي خلال السنوات الماضية حيث قاسى بسببها من الويلات والمصائب ما تقشعر لها الأبدان.
2 ـ تصفية نظام المحاصصة الطائفية والقومية الذي شاده الحاكم الأمريكي السيئ الصيت بول بريمر، وإلغاء مجلس الرئاسة، وإجراء انتخاب الرئيس بصورة مباشرة من قبل الشعب العراقي، وليكن من ينتخبه الشعب عربياً كان أم كردياً، أم آشوريا، مسلماً أم مسيحياً أم صابئياً، فالمهم هو أن ينتخبه الشعب بكل حرية وشفافية، مع تحديد صلاحيات الرئيس بكل دقة ووضوح منعاً لأي تأويلات.
3ـ مكافحة الفساد المالي والإداري من خلال سن قانون [من أين لك هذا؟].
وفرض تقديم جرد بممتلكات كل شخص يتولى منصب مدير عام فما فوق قبل التعيين، وبعد الاستقالة أو الإقالة أو التقاعد، ومحاسبة كل من أثرى من أموال الشعب العراقي محاسبة عسيرة ليكون عبرة لغيره ممن يفكر في استخدام منصبه وسيلة للكسب غير المشروع، وإشراك المواطن العراقي في حملة وطنية واسعة لمكافحة الرشوة المستشرية في سائر دوائر الدولة، والتي باتت حالة مرضية خطيرة ينبغي استئصالها.
4 ـ الإسراع في عملية إعادة بناء الصناعة الوطنية المخربة، وتقديم الدعم لها، ورفدها بالمكائن والأجهزة الحديثة كي تستطيع سد حاجة السوق العراقي من مختلف المنتجات، وتحجيم الاستيراد للمنتجات المنافسة قدر الإمكان، وتشجيع الاستثمار في المجال الصناعي في البلاد من قبل القطاعين العام والخاص، ودعوة شركات الاستثمار الأجنبية للمساهمة الفعالة في هذا المجال من أجل النهوض بالصناعة الوطنية.
5 ـ وضع خطة زراعية عاجلة، وتهيئة كافة المستلزمات المادية والأجهزة والأسمدة ومكافحة الحشرات، وإصلاح وتحديث مشاريع الري المعطلة من أجل إنعاش القطاع الزراعي وصولا إلى الاكتفاء الذاتي من المنتجات الزراعية، وتحجيم الاستيراد للمواد الغذائية من الخارج.
6 ـ العمل الجدي لإعادة بناء البنية الاجتماعية العراقية بعد الشرخ الكبير الذي أصابها على أيدي قوى الإسلام السياسي الطائفي التي أوصلت المجتمع العراقي إلى الحرب الأهلية الكارثية التي حصدت أرواح عشرات الألوف من المواطنين الأبرياء، والعمل على تأمين حياة كريمة للمواطنين خالية من العوز والفقر والبطالة، والاهتمام بتربية الأجيال الصاعدة، وتأمين كافة مستلزمات العملية التربوية، وبما يتفق والمفاهيم التربوية الديمقراطية، ومنع تدخل قوى الإسلام السياسي في العملية التربوية.
إن حكومة السيد نوري المالكي مدعوة للإلتزام بتحقيق هذه الأهداف والعمل على تحقيقها بأسرع وقت ممكن، ولاسيما وأن الانتخابات البرلمانية والرئاسية القادمة باتت قريبة، وستكون الخطوات والإجراءات التالية لحكومة المالكي هي المحك عندما يقرر الشعب العراقي لمن سيعطي صوته في الانتخابات القادمة.
حامد الحمداني
19/5/2009