الشتائم حيلة المُفلس
معظم الأمور في الحياة لا تسير دومًا على وتيرة واحدة، لابد لها من الخروج عن مسارها الذي قد يكون غير ملائم للملائم لها وبالعكس.
الاختلاف: وهل من الممكن أن تكون الحياة مستمرة بطبيعتها بدونهِ؟! بالتأكيد لاء، لأن لولا هذا الاختلاف على أرض الواقع لمْا كنت أنا وأنت وهو وهي كلٌ على موضعهِ اليوم، بغض النظر عن مستواه وعن الظروف التي قد تتداخل وتتشابك لتكون في الواقع وتأتي بنتائج عكسية ليس كما يُراد لها ... أليس كذلك؟! فالاختلاف مثلما هو حالة سلبية وعقيمة في كثير من الأحيان ولكن بالنظر لجانبهِ الآخر فأنهُ يحمل الكثير من الايجابيات والحلول التي من الممكن أن تعطي الحافز للوصول إلى الأفضل والأمثل في حالة ما إذا فهم على هذا الأساس وليس غيرهُ ..... كيف؟
طبعًا تركيبة كل إنسان تختلف عن الآخر وبالتالي فأن الأفكار لا يمكن أن تتلاقىّ بنسبة كاملة بدون تبادل وجهات النظر وتقبل الآراء مهما كان تباين اختلافها ومناقشتها على أسس سليمة وبناءة وواعية. فبين رأيٌ ورأيًا آخر هنالك نقطة اختلاف فيها تقارب وتباعد في ملعبها، وبين أن تكون مُعارض وموافق هنالك مبدأ وقضية للتداول والنقاش فيها على أسس ثقافية سليمة وموضوعية بحتة بعيدة عن الشخصنة والاتهامات والاهانات والتراشق بالكلمات باختلاف مُسمياتها، وتحجيم لكل ما هو ماثل.
ولكن نشهد ونلاحظ ونسمع بمُجرد ما يثير موضوع معين يخص قضية ما في مجتمع أو بلد ما، أن تلك النقاشات المُتداولة فيهِ قد ذهبت لأبعدّ من حدودها القريبة وخلفت الكثير من الرواسب والانطباعات السلبية مع الكثير من التوتر والحدية والتفرقة والتخاصم وتغيير معالم اللغة والشخصية والسلوك، مع إعطاء الكلمات حروفًا غير حروفها المعهودة وألوان غير ما هو ظاهر ومعلوم لها في واقعها! حوارات ومناقشات يلبسها الكثير من العنف الفكري المتوتر المتولد في ذات الشخص نفسهُ، ومُتخذة شكلاً ومنحىّ آخر بعيد تمامًا عن مضمونها الأصلي ومعناه وفي مُحاولةٍ لإقصاء الآخر واعتبار كل واحدٍ أن رأيهِ هو الصائب والأمثل! هنالك تعصب وتعنّد وتزمت في الرأي والفكرة ومحاصرتها ضمن حدود يتمنىّ لها أن تكون فقط، مع العلم طبعًا أن هكذا فكر مُحاور هو مُدرك تماما لحجم ومردود كلامهِ في واقعهِ، ولكن يضع نفسهُ في خانةٍ هو من يريد لهّا أن تكون من أجل أن تخدم ما يرغب به هو وغيرهُ وما الحاصل منها لاحقًا!
والمُتتبع لكل ما يجري على الساحة اليوم، يلاحظ هنالك انحياز وتأييد وتعصب أعمىّ إلى جهة دون أخرى! هنا لا نشخص أحدًا بذاتهِ ولكن كحالة عامة أصبحت ماثلة في الواقع وتخلف الكثير من السلبيات من اهانة وتجريح بالكلام وانفعال وشتائم وإطلاق كلمات نابذة وتصغير الآخر، مُفتقرين بهذا إلى أقل أساليب التواصل وهم من ينشدونهُ! هذا الأسلوب المشين من البعض هو ما جعلني استغرب منهُ وأتسأل: كيف أن أصحاب قضية يؤمنون بحقيقتها ووجودها ويدافعون عنها، ينجرفون لينزلقوا إلى القاع الذي هم يحاولون الفرار منهُ!
في أي نقاش مُتداول يخص قضية ما، نلاحظ خروج الموضوع عن مضمونهِ ومستواه وفكرتهِ ليصل إلى شخص كاتبهِ حتى بدون أن يكون هنالك استيعاب كامل بمحتواه، بسبب كون أفكارهم وآرائهم حبيسة تعصبهم الأعمىّ! يحولون ساحة الحوار إلى مسرح ذات عرض صاخب يشمل ممثلين حقيقيين وآخرين زائفين وبنصوص يتيمة! في محاولة لإظهار الضغائن الشخصية واستفزازات ومُشاجرات ومشادات كلامية عنيفة وفقيرة، وبيان أي واحد هو الأسرع في جرّ الحبل إلى مرماه! ولكن الاستغراب أكثر يكون حينما تجدهم في موضع ثاني يرددون العبارة الشهيرة لــ غاندي:" الاختلاف في الرأي لا يفسدّ للودّ قضية" وهم للفساد زارعين وللحقد والتفرقة حاصدين! لا نعلم لمن يكتبوها ولما يرددوها ولما يلبسون القناع إذا كان ودّهم قائم!
اختلف في الرأي وأبديّ رأيك وفكرتك ولكن لا تحاصر الفكرة ضمن حدود فكرك أنتَ فقط، بل دعها تنطلق وتأخذ موقعها من الأفكار الأخرى لتتقابل ولتعرف وتتعرف على مكمنْ الخلل أين، هذا إن كان يوجد هنالك اقتناع أصلا وإيمان بما أنت تسعى إليهِ!
نحن بحاجة إلى تعلم ثقافة الحوار الراقي، ثقافة تكون مولودة الفكر النيرّ بدون انحياز وبدون فرض شيءٍ على شيءٍ آخر، وبدون أن الغي وجود الآخر من أجل أن أثبت وجودي الذي لا يكون من دون هذا الآخر الذي تحاول إقصاءه بشتى الأساليب وشراء الذمم مقابل حفنة من المال التي حينما تحصل عليها تستصغر نفسك بها وتجعلها مُهانة وأنت لا تعلم يا عالم، جعلت نفسك مملوكة وخادمة للمال!
سهلا هو جدًا أن تقلل من شأن الآخر.
سهلاً هو أن تتهم الآخر وترشقهُ بمختلف كلمات الإتهام.
سهلاً هو أن تحجم الآخر حسب نظرتك الضيقة.
وسهلاً هو أن تشتم الآخر بكلمات تدل على تركيبة شخصيتك وكيانك وبيئتك أولاً.
ولكن كنْ على يقين تام أنك في حالة إفلاس دائم وفقر ذاتي، تعيش في فراغ فكري لا أساس ولا مبدأ لهُ ولا قضية للتداول والبحث فيها! تعلم ثقافة الحوار لكي تصل إلى مصافيّ الرقيّ، وأعلم أن الاختلاف واردّ ولكن ليكن بمحبة.