الشحوبُ والبدائل
علينا ان نعترف بالشحوب !مجتمعاتنا ! نعم ،إنها شاحبة جدا ، ما دام تفكيرها ومخيالها واغلب نتاجها ، لا يعبر عن الواقع المضني تعبيرا ملتزما وأمينا وحياديا وصادقا.. لقد نخرت الإيديولوجيات والتحزبات السابقة كل منطلقات الواقع الأساسية وأولوياته الحقيقية ، وقد اختلطت الأمور بعضها ببعض آخر، فالمؤسسات العلمية في منطقتنا بائسة تمام البؤس ، والإعلام في منطقتنا مستلب بكل أصنافه ووسائله وأجهزته وشبكاته .. قد وصل في اغلبه إلى درجة من التفاهة والبشاعة بحيث غدا يشوه ويسمم عن قصد وسبق إصرار كل الصفحات البيض التي سيمتلكها الجيل الجديد باسم التقاليد مرة ، وباسم الدين مرة أخرى ، وباسم التاريخ والسياسة والسلطات مرات أخرى .. أصبحنا نجد من يسمّون أنفسهم كتابا كبارا ومحللين سياسيين واستراتيجيين لا يعرفون إلا اللف والدوران من دون أن يعلموا الأساليب الجديدة والمبتكرات الرائعة ودون أن يكونوا بناقدين شجعانا .. ومن دون أن يفكروا يوما بكيفية الانفصال والقطيعة عن كل خطايا القرن العشرين .. بل ودخل المعترك أناس جدد على المهنة والحرفة ، لا تفقه معنى الكتابة ، ولا أصول التفكير ، ولا طرق الحوار ، ولا أساليب التحديث بل ولا حتى المعاني الأساسية التي كانت تتربى عليها الأجيال السابقة ، وكلها معاني وطنية ومدنية وجمالية وبنائية ونهضوية حضارية .. بل وكان بعضها ينادي بالحريات والتقدمية والاشتراكية ..
البدائل : استعادة التفكير المدني والنقد الحقيقي
أصبح الشغل الشاغل للساسة والكتاب والإعلاميين والمعلمين والجامعيين .. أن يشاركوا في هذا العرس المجنون ليشاركوا من دون أي تفكير نسبي ، ولا أي شرط فكري ، ولا أي أفق مستقبلي .. إنهم فرحون بما آلت إليه أوضاعهم التي رسمها وقادها كل الماضويين ورجال التابو الذين قبضوا على أنفاس الحياة في كل المنطقة ، وغدوا رجال سلطة اجتماعية قاهرة قبل أن تصبح مقاليد بعض الدول بأيديهم ، فكيف يمكننا أن نتخيل الاوضاع إن غدت دولنا قاطبة بأيدي هؤلاء كالذي حدث في دول معينة وهي أساسية في المنطقة ومنذ العام 1979 ؟؟ ولقد غدا الناس يغرمون بحضور الندوات والمهرجانات وكأنها احتفاليات اجتماعية من دون أن يفكروا قليلا ما الجدوى من سماع بيان سياسي مجلجل ؟ وما نفع إلقاء قصيدة شعر ساخنة ؟ وما تأثير أغنية عاطفية يعيدونها ويصقلونها ببلادة وجنون؟! أما ما يسمي بالبحث العلمي ، فلقد ضحكنا علي أنفسنا طويلا نحن العرب ـ مثلا ـ ولم تزل جامعاتنا تتنطع بهذا الذي يسمونه (بحث علمي) وكم استهلكت الأخلاق في خضمه؟ وكم سرقت جهود وأفكار باسمه؟ وكم نشرت مجلات ودوريات وأعمال مؤتمرات لا فائدة فيها البتة؟ لسبب بسيط واحد هو أن العملات الرديئة في مجتمعاتنا ، طاردة دوما علي مدي عقود من الزمن كل العملة المنتجة والمبدعة الناصعة والجيدة من أماكنها الحقيقية..
لا معالجات حقيقية من دون نقد حقيقي
الناقد عندنا لا يستطيع العيش في أوساط الذين لا عمل لهم إلا كيل المديح ، وهز الرؤوس ، أو المجاملات المزيفة التي لا معنى لها وسط أقوام من المنافقين والكسالي والأغبياء.. انه يعرفهم لا يقرأون ولا يهتمون أبدا وتجدهم يعلنون بكل صفاقة عن توزيع أحكام بالجملة على هذا وذاك.. الضحية من يقول كلمة حق في هذه التي يسمونها ( الأمة )! الضحية من لا يجامل على حساب مشاعر الآخرين! الشجاع هو الضحية دوما في حياة هذه ( الأمة ).. انه الذي يكشف ما استطاع من التزييفات التي تصل إلى حد الجبن عند الآخرين من الذين يتربعون في أماكنهم ويوزعون أحكامهم وسفاهاتهم! المفكر الحقيقي من استطاع أن يعالج النصوص والأقوال وجملة مقول قول الخطاب بكل جرأة ومضاء ودقة وصبر ويكتشف الحقائق ويعلنها من دون أن يلتفت إلى هذا وذاك.. المفكر الحقيقي من يهتم بالمعلومات لا بوجهات النظر، انه يؤسس علي الأولى ويحترم الثانية.. وكم نجد من موضوعات مكررة في حياة هذا الفكر ( العربي خصوصا ) الشاحب ويا للأسف الشديد.. تجدهم يقّلد احدهم الآخر ، ونادرة هي فرص الابتكار وإسداء الحلول وتحليل المعالجات.. وكما يحدث في كل الفنون (الأدبية) والمنتجات (العلمية) انحسر أمر المقروءات علي حساب أي نوع من الكتابات ، وندرت الأعمال المترجمة عن اللغات الأساسية الحية في العالم، وتقلصت حتى تلك القراءات التي يستلزم من المثقف العناية بأمر أقرانه ومنتجاتهم.. تجد ثنائية مخيفة في مجتمعاتنا لا تنتج إلا التناقضات متمثلة بكل من : عقدة ( الخواجا) من جانب وعقدة ( الملالي ) من جانب آخر ، ويضيع العقلاء بين الجانبين ! إنها ثنائية من عقدتين تمكنتا في أعماق هذه السيول العارمة من نخب الكتاب والمثقفين والمعلمين والمهنيين أو من يسمون أنفسهم بأعضاء المجتمع الذي كان قبل خمسين سنة يسعى نحو التمدن وإذا به ينتكس نحو التخلف ، واعتقد ان الثلاثين سنة القادمة بدءا بالعام 2009 ، ستشهد حركات مضادة لكل ما جرى في الثلاثين سنة الفائتة 1979 – 2009 بأي طرق للتعبير من اجل التغيير نحو الإصلاح والتقدم .. وعلى الرغم من تلك العقدة الخفية القديمة ( الخواجا ) أو هذه العقدة المستحدثة ( الملالي ) ، فالكل يلعن الغرب ليل نهار ، ولكنه يستكين له في كل منتجاته وإعلامياته وجامعاته ومعارفه واقتصادياته .. وكل ما يتصل بالتكنولوجيا .. وان الناس لا يميزون أبدا حتى يومنا هذا بين مجتمعات الغرب وسياسات دوله! كما ان مجتمعاتنا باتت لا تميّز بين المعاني والتشيؤات ولا تعرف كيف ولدت مجتمعات معاصرة منتجة وذكية في عالم اليوم وهي غير محسوبة على الغرب أبدا .. بل أنها في أقصى الشرق البعيد !
خذلان العقل العربي
إن ما فرض علي مجتمعاتنا المعاصرة بعيد العام 1979 من أطواق فقهية وولائية ومرجعية وسلطوية ومذهبية وأمنية ورقابية وحزبية وجماعاتية تكفيرية عديدة قد زادت في خذلان العقل في مجتمعاتنا بعد ان كانت قد طوقتها لثلاثين سنة ماضية بعيد الحرب العالمية الثانية ، الإيديولوجيات المستوردة والتافهة والرومانسية البليدة ، وخصوصا بعد العام 1949 حتى غد مجتمعاتنا اليوم عند بدايات القرن الواحد والعشرين تخشي علي نفسها من ظواهر لم تكن موجودة في ما مضي من الأيام.. ومثلما عشّشت في النفوس والمشاعر الساخنة ، تعبيرات كالخيانة والرجعية والعمالة.. الخ في قواميس الكتاب والمفكرين القوميين والبعثيين والراديكاليين الماركسيين التقدميين.. شاعت اليوم تعبيرات ، مثل : التكفير والردة والضلالة والمروق.. الخ عند السلفيين والإسلاميين والأصوليين والمتمرجعين .. الخ وكلها تكشف عن وجوه تختفي وراء أقنعة إيديولوجيات اسلاموية سياسية هشة لا تقاوم هذا الواقع.. أو أنها تعيش وراء جدران السلطويات المتنوعة في كل من الدولة والمجتمع.. وحيث تبلورت للوجود نخب شابة جديدة من جيل جديد يطمح نحو التغيير والإصلاح بأي ثمن ، فلقد ورثت الأنماط نفسها والعادات ذاتها، ولكنها اليوم تعيش فراغا قاتلا بين واقع موبوء بكل الأمراض السيئة وبين متغيرات صاعقة هي بمثابة صدمات قوية جدا. وعليه، فالمطلوب الانفتاح على حياة هذا العصر الجديد الذي لا يمكننا مقاومته أبدا، ولا يضحك على الناس من يقول بأنه سينعزل عن روح هذا العصر ، وهو لا يشعر بأن كل معطيات هذا العصر تحاصره وهو المستفيد منها أولا وآخرا!
هل من احتضان بدائل جديدة ؟
هذا هو السؤال الحقيقي الذي لابد من الإجابة عليه مع طرح نوعية تلك البدائل، فالدنيا تمشي إلى الإمام ولا يمكن إرجاع القديم الي قدمه أبدا.. هل ستتوفر أكثر من إرادة اجتماعية جديدة في منطقتنا تعلن بكل وضوح عن أجندة مستقبلية؟ هل من بداية لزمن تشيع فيه النقدات الحقيقية ويتوفر فيه قدر من الحريات والجرأة وان تكون هي نفسها رقيبة لأعمالها؟ وليس معني استخدام الحريات أن يتحول الناس إلى لوحة سوريالية من المضحكات المبكيات كالتي تمارسها اليوم بعض القنوات الفضائية الفوضوية أو اغلب أجهزتنا الإعلامية والثقافية بكل جهالة إعلامييها وتنطع ضيوفها.. فالمخفي كان أعظم. إن إبعاد الفكر المعاصر في مجتمعاتنا عن شحوبه يستلزم أساسا أن يبعد كل من المفكرين والمثقفين والساسة والمهنيين من أبناء النخب الحيوية عن السايكلوجيات والعادات السيئة الموروثة وان يكونوا ملتصقين حقيقيين بواقعهم المضني لا ببهرجة التلفزيونات والندوات أو بخطابات ومواعظ المتخلفين ! علي من يحمل رسالة شريفة وأمينة باسم الفكر واستعادة الوعي أن يبعد مشاعره عن روح الأحقاد والكراهية وعن الدهاليز المظلمة التي لم تجد النور أبدا .. عليه أن لا يجحد أعمال غيره من اقرانه.. وان يحترم الرأي الآخر ولا يبخس بأية بضاعة كانت الا بعد فحصها وتبيان مثالبها.. علي امثال هؤلاء من سدنة الإيديولوجيات التي تتبناها مراكز بحوث ومؤسسات ومنظمات وجماعات وأحزاب.. أن تبتعد عن التفكير السوقي والبضاعة الفاسدة والشعارات العتيقة.. عليهم الابتعاد عن العفرتة والزقاقية والابتذالية والمجونية والتكفيرية والممانعة والكوميديات الهزلية بعرف العقلاء.. أن يتخلصوا من الدعايات المجانية والتشهيرات السيئة وأساليب التعتيم علي الصرحاء الطلقاء الأحرار من علماء ومختصين وأدباء ومثقفين ومبدعين حقيقيين.. عليهم التخلص من الببغاويات والتكرار والترديد واليات التقليد ناهيكم عن جلافة التفكير والإدانة وعن سرقة الأفكار والمجهودات عن الآخرين..
إنني إذ اختتم هذا " الخطاب " النقدي ، اعد قرائي الأعزاء بالرجوع إليه كرات أخرى لمعالجته بشكل موسّع .. من اجل أن نستعيد النزعة البنائية والحضارية والمدنية التي لا سبيل لمجتمعاتنا وتقدمها وازدهارها الا من خلالها . فهل تعلمنا الدرس من كل ما حصل عبر ثلاثين سنة من النكوص والشحوب والذبول ؟
نشرت في الزمان ، الف ياء ، 23 حزيران / يونيو 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com