Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

العالم بين فيزياء الأمس والغد(3) تقنية العلم وعلم التقنية أوالتكنو ـ علم Technoscience

jawadbashara@yahoo.fr
هل العلم إبن التكنولوجيا أم أن التكنولوجيا هي إبنة العلم الشرعية؟ يعتنق كثير من أصحاب العقول النيرة والموهوبة فكرة أن العلم هو ديانة العصر الحديث، وأن التكنولوجيا هي الأداة التي يستخدمها العلم في الكشف عن الحقيقة ومعرفة سبب وجودنا واكتشاف العالم وتشكيله ذرة بعد ذرة. نستخدم يومياً العشرات من الأدوات والأجهزة المتناهية في الصغر أو الميكروسكوبية،لاسيما الطبية والنانوتكنولوجياnanotechnologie و النانو ـ علوم أوالعلوم المجهرية nanosciences والهندسة الوراثية أو الجينية génie génétique، والانترنيت، والرقائق الالكترونية الخازنة للمعرفة، أوالكبيرة جداً والمعروفة بالآلات الصانعة للأدوات والأجهزة machines outilles، والتي بواسطتها يتم صنع المعدات الضخمة كالصواريخ والمركبات الفضائية، والتلسكوبات، والمراصد الفلكية والطائرات، والقطارات، والبواخر والسفن المدنية والحربية كحاملات الطائرات والغواصات النووية، والسيارات، والحفارات المستخدمة في مجال البترول، والمختبرات العلمية العملاقة ومسرعات أو معجلات الدقائق والجسيمات الخ، والتي توفرها لنا التقنية الحديثة استناداً إلى نظريات علمية مكرسة ومثبتة وصحيحة، ارتكزت عليها التطبيقات العملية لتلك النظريات العلمية . وتعمل الدول الصناعية والمتقدمة الكبرى على إعداد مشاريع علمية وتقنية عملاقة ومكلفة جداً تمتد لعشرات السنين بغية الجمع بين مختلف العلوم من أجل ولادة علمية ـ تقنية جديدة تنطوي على مفهوم التصميم الصوري المجسد HOLISTE للتكنولوجيا مبني على التحليل السببي CAUSALE للعالم الفيزيائي الموحد، ي كافة المستويات، من المستوى ما دون الذري subatomique أو النانو nano إلى المستوى الكوني، ويعرف هذا الجهد العلمي والتقني بـ التكنو ـ ساينس technoscience الذي يثير الكثير من التساؤلات والاستفسارات والسجالات والمخاوف.

العلوم الدقيقة تتطلب أجهزة دقيقة وغاية في الدقة والإتقان خاصة تلك المتعلقة بالغوص في أعماق المادة ومكوناتها للوصول إلى الحدود القصوى لأصغر مكون وما دونه إن أمكن، "حيث هناك دائما مكان ما في الأعماق" على حد تعبير ريشارد فينمان Richard Feynman الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء، والذي عبر عن رأيه هذا سنة 1959. وقد ولد بعد تنبؤي لهذه العبارة غداة الحرب العالمية الثانية على يد مروجي النانوتكنولوجيا، وخاصة المهندس الأمريكي فانيفار بوش Vannevar Bush أحد المخترعين الرواد لشبكة الانترنيت في كتابه " العلم: النهايات القصوى للحدود Science, the Endless Frontier الذي صدر في أمريكا قبل وفاته سنة 1974 . والجدير بالذكر أن مفهم أو مصطلح الحدود frontière في أمريكا يعني حد معين يجب تجاوزه دائماً وعبوره والمضي إلى ما ورائه. وهي الصورة التي كانت ماثلة في أذهان العلماء الأمريكيين في بداية القرن العشرين عند ولوجهم الخطوة الأولى في الفيزياء الذرية وتعمقهم في تقنية الأسلحة النووية، حيث كان ينبغي أولاً استكشاف عالم الذرات وصياغة نظرية موحدة للفيزياء على أساس الإلكترونات وما دونها. وكان الحلم أن يتوصل الإنسان إلى صياغة العالم وتشكيله من الأصل أو بداية الخلق إلى مابعد اكتشاف الحقيقة المطلقة، وبلوغ مرحلة الخلود، وذلك عبر محاولة خلق إنسان في المختبر والخلق الصناعي في الأنانبيب المختبرية وتجديد اعضاء الإنسان التالفة أو المستهلكة وديمومة حياتها عبر عمليات الاستنساخ وانتاج الجينات الوراثية، بعد أن نجح العلماء في فك شيفرة الحامض النووي للبشر وإزالة تشفير كتاب الحياة والطبيعة في محاولة لإعادة كتابة تاريخ الوجود بعيداً عن ملاحم وأساطير وأسفار الكتب المقدسة. وقد عبر عن ذلك بحماسة وانفعال العالم البيولوجي الأمريكي كريغ فونتر Craig Venter في أكتوبر 2007 لصحيفة الغارديان البريطانية :" لقد انتقلنا من القدرة على قراءة الشيفرة الجينية البشرية إلى القدرة على إعادة كتابتها، وهذا يمنحنا الإمكانية المحتملة لإنجاز أشياء لم تكن ممكنة حتى في الأحلام". كل شيء قابل لإعادة التفكير والتشكيل البناء على يد العلماء والمهندسين في السماء والأرض ، في عالم الأحياء والجماد ، في الأجساد والأنفس، ويمكن تلخيص ذلك بكلمة إنجليزية هي " re-engineering " فالعلماء والمهندسين يعيدون رسم وتصميم الكون انطلاقاً من عناصر المادة الأولية التأسيسية، لذلك يسعى العلم في القرن الواحد والعشرين، إلى صنع الطبيعة أو إعادة تركيبتها بدلاً من معرفتها وفهمها والتي كانت من مهام علوم القرون الماضية. فالتكنو ـ علم technoscience، اختصاص يطمح إلى تقليد الدماغ البشري في أعلى قدراته وطاقاته الإبداعية التي لم يستغل الإنسان منها لحد الآن سوى ما يقل عن الـ 10% وأن يتمكن الجانب التقني منه من صنع الكومبيوتر الجبار الذي يقوم بآلاف المليارات من العمليات الحسابية في الثانية الواحدة والتي تحتاج في مستوانا التقني الحالي إلى عدة قرون لإنجازها، وأن يحقق طفرات في مجال الذكاء الصناعي intelligence artificielle لتصنيع الإنسان الآلي الذي يفكر ويشعر ويتخذ المبادرات ويتصرف كالإنسان العادي . فبقيامنا بمقاربة أولى لهذا المصطلح يلوح في أذهاننا حصول تحول جوهري في العلاقة بين العلم والتقنية . فالتقنية لم تعد تابعة وخاضعة ومعتمدة على العلم في نظام القيم السائد اليوم. فالأولويات باتت معكوسة كما يوحي ترتيب المفردات في المصطلح. والحقيقة أن تبادل الأدوار بين المكونين الأساسيين لهذا المجال الحيوي، قد تم منذ سنوات بعيدة. ويعتقد البعض أن البداية كانت مع مشروع مانهاتن السري في بداية القرن العشرين والذي سمح للولايات المتحدة الأمريكية صنع أول قنبلة نووية. بينما يعتقد آخرون أن بدايات التحول تعود إلى القرن التاسع عشر مع انتعاش العلم الصناعي والتجارب ذات الطابع الكيميائي colorants chimiques واختراع الكهرباء التطبيقية، وفي الحقيقة يمكننا أن نلاحظ في كل القرون المتأخرة التي بدأت فيه الثورة العلمية ما استوحته التقنية من العلم والعكس صحيح، والحال أن هذين الحقلين مترابطين بعلاقة متشابكة وعضوية.

فلو عدنا إلى الوراء قليلاً وتصفحنا آثار مفكر وفيلسوف كبير هو مارتن هايديغر Martin Heidegger 1889ـ1976، سنعثر على رأي صريح بحق العلم الحديث وتداعياته التقنية في كتاب " مسألة التقنية La Question de la technique" الصادر سنة 1953 والذي فضح وأدان فيه توجهات وغايات العلم المعاصر حين أعلن عبارته الشهيرة " العلم لا يفكر" وإن ما يقوم به العلم لا صلة له بكشف العلاقة بين الحقيقة والعالم ولا يرنو إلى رؤية أو كشف الأمور على حقيقتها، بل هو يتحرك بدافع الإحاطة أو المطاردة traque والتفتيش arraisonnement ووضع أناس على سكة العمل حيث يختزلهم إلى مجرد مصادر للتعبئة ووسائل لغايات بشرية " أي أن العلم الحديث بنظر هايديغر هو بالأساس تكنو ـ علم technoscience. أما مؤرخ العلوم الأمريكي بول فورمان paul Forman فإنه يوسم هذا الحقل بالظاهرة الثقافية التي طفت على السطح في سنوات الثمانينات من القرن العشرين في إطار تغيرات حدثت في سلم الأوليات ومسار القيم، وكتب بهذا الصدد:" تمتع العلماء في العصر الحديث بهالة تكريمية وموقع اجتماعي رفيع وكان العلم هو الذي يتفوق ويطغى على التقنية، بل ويتحكم بها، أما في حقبة ما بعد الحداثة posmodernité فالصورة باتت معكوسة واتسمت بطغيان التقنية على العلم الذي أفضى إلى فقدان الثقة في هذا الأخير وفي سلطة الخبراء والعلماء ". ولكن ما هي صورة العالم الذي سيبنى على أساس نظام التكنو ـ علم technoscience وكيف ستؤثر حقول التقنيات الحديثة Les nouvelles technologies والمعلوماتية والإعلام المعاصر والتكنولوجيا الحيوية أو الإحيائية أو التقنيات البيولوجية biotechnologies والنانو تكنولوجيا nanotechnologies الخ..، على رؤيتنا للعالم ولأنفسنا؟ وهل سنتجاوز الرؤية الثنوية التي هيمنت على تصوراتنا ومفاهيمنا بين الطبيعي والمصطنع، والحي والجماد، والمادة والروح، وأخيراً الإنسان والآلة ؟ فالآثار الفنية والأدبية الجديدة ، خاصة السينما وأدب الخيال العلمي، تعج بشخصية الكائن الهجين، نصفه إنسان ونصفه آلة المسمى سيبورغ cyborg الذي تخيله المبدعون في أعقاب شيوع مصطلح السيبيرنتيك cybernétique في سنوات الستينات من القرن المنصرم والذي يعود البوم بحلة جديدة في عصر تكنولوجيا المعلوماتية ، حيث تصدر التحذيرات من هيمنة الآلة على إنسان الغد وإرجاعه إلى عصر العبودية، كما شاهدنا في أفلام ماتريكس Matrix " المصفوفة" وتيرميناتورterminateur " المستأصل"، كعقاب له على تدميره للطبيعة واعتدائه على حرمة الأرض وإسرافه في تبذير خيراتها وثرواتها الطبيعية. فالإنسان هو المسئول عن موت الطبيعة بيد ان الطبيعة يمكنها أن تدافع عن نفسها وتبقى على قيد الحياة ولن تفنى في حين أن الإنسان كائن هش يمكن أن يفنى ويختفي من الوجود إذا لم يأخذ احتياطاته من الآن ويصحح أخطائه ، ولا ننسى أن الحياة وجدت قبل إلإنسان ويمكنها أن تستمر بعده وبدونه.

Opinions