العامية السورية وأصولها السريانية
في كتابه الموسوم "موسوعة العامية السورية"، يرى الباحث اللغوي ياسين عبد الرحيم في سياق شرحه للغاية من وضع هذا الكتاب، بأن اللغة هي بنت، الحاجة والاستعمال باعتبارها تعبيراً عن تجارب واحتياجات وثقافات معينة.وهو إذ يخص الكلمات العامية الدارجة في سورية الساحلية، مثبتاً لفظها ومبيناً معناها أو دلالتها في أذهان العامة، إلا أنه يحقق في أصلها ومن أين أتت وهل هي تحريف للفظة عربية فصيحة، أم أنها من لغة سامية كالسريانية أو غيرها، أم أنها من السامي المشترك، أم أنها دخيلة أعجمية.
وإذا كنا لا نجاري الباحث عبد الرحيم في قناعاته بمصطلح "السامية" إلا اننا لا نتوقف عند ذلك، بل نعتبر هذه الدراسة في العامية اللغوية ذات شأن كبير في فهم مبادئ التطور النحوي والصرفي والفقهي للغة العربية الفصحى التي يؤكد الباحث ان كتابه هذا يسهم في خدمتها من وجوه عدة: أولاً، انه يشير عند شرح اللفظة العامية الى ما يقابلها من اللفظ الفصيح. وثانياً، انه يبين ما اعترى اللفظة الفصيحة من تحريف. وثالثاً، إن تحقيق الألفاظ الآرامية أو الأكادية أو البابلية الأصل، ونزع صفة الدخيل عنها يعود بالخير على العربية نفسها.
ويعترف الباحث عبد الرحيم، ان لغتنا العامية تحمل في سياق مفرداتها إرثاً لغوياً ضارباً في القدم يعود الى الأكادية والسومرية، وقد نسب المؤلفون والباحثون جملة من الفاظها الى لغات دخيلة مختلفة فجاءت الاكتشافات الأثرية الحديثة لتعيد نسبة الألفاظ الى أصحابها الحقيقيين.
ويتوقف الكتاب عند اخطاء العلماء قديماً في تأصيل اللغة، ويورد عدداً من هذه الأخطاء 1 ـ أخطاء مردها الى محاولة تفكيك الكلمة ودمجها بأسلوب النحت.
2 ـ حرص بعض العلماء على تأكيد سلامة ألفاظ القرآن من العجمة وعد النطق الإلهي مثلاً أعلى للفصاحة العربية.
3 ـ إغراق القدماء في إخضاع كل لفظ الى وزن عربي معروف مع الإقرار أحياناً بعجمة اللفظة أصلاً.
4 ـ عدم توفر الاطلاع على اللغات الأجنبية اطلاعاً كافياً وضمور المقارنة اللغوية، والأخذ بقاعدة أن كل ما أعربته فهو من كلام العرب على ما في هذا الإطلاق من اللبس.
ويسوق الكتاب كل ذلك ليخلص الى نتيجة هامة وهي أنه ليس المهم في البحث اللغوي تأصيل الألفاظ العامية وربطها كيفما اتفق بالفصحى ومنحها شهادات "نسب" تعلق في جيدها كما يفعل اصحاب الخيول الأصيلة بأفراسهم دون التحقيق والتثبت، بل المهم الفحص الدقيق واستخدام الطرق العلمية والمناهج الموضوعية للوصول الى حقيقة اللفظ إذا أمكن ذلك، لا سيما وان البعض اسرف في اللعب اللغوي إسراف أصحاب الفتاوى في عصور الانحطاط. إن تشابك العربية والسريانية القوي وكونهما لهجتين من لغة واحدة يجعل موضوع الفصل في نسبة الألفاظ أمراً جد دقيقاً.
وتتمثل صعوبة معرفة أصل الكلمات المشتركة وخاصة الألفاظ المتبادلة بين العربية والآرامية أو "وريثتها" السريانية لما بينهما من التداخل بحكم انتشار الآرامية على اختلاف لهجاتها في سورية الطبيعية، وقد رأى الدكتور جورجي كنعان "ان اللغة الآرامية ظلت اللغة السيدة في الشرق المتوسطي، بالإضافة الى بعض آسيا الصغرى ومصر وبلاد فارس منذ القرن التاسع ق.م الى القرن السابع ب.م مما يعني أنها ظلت اللغة القوية لسائر سورية الطبيعية نحو خمسة عشر قرناً... من هنا إن اللغة المحلية في سائر سورية الطبيعية قديمة تعود في أصولها الى اللس ان الآرامي". وقد أكد المؤرخ أحمد داود ذلك بالقول ان شبابنا اليوم "سوف يدهش حينما ينظر في معجم سرياني عربي ويفاجأ بأنه أمام لغة واحدة بفصحاها وعاميتها معاً، وأكثر من هذا، أنه سوف يجد أن جميع كلماتنا العامية إنما هي كلمات عربية سريانية حقيقية عمرها لا يقل عن خمسة آلاف عام". وفي ضوء هذا يمكن القول انه حتى الدخيل اليوناني انتقل في معظمه عن طريق السريان الذين احتك العرب بهم قبل اليونان ونستدل على ذلك بأن أكثر، ان لم نقل جميع المفردات اليونانية التي في العربية هي أيضاً في السريانية وان التحريفات والأغلاط التي نراها في المفردات اليونانية التي في لغتنا هي هي في السريانية أيضاً.
وفي الافتراض اللغوي بين العربية والسريانية يقول أحد الباحثين إن هناك الكثير من الألفاظ يتبدل فيها حرف السين شيناً في العربية وبالعكس. والجدير بالذكر ان هذا التناوب بين الأحرف في اللسانين العربي والآرامي يسري على الكنعاني أيضاً. والقاعدة التي يأخذ بها الباحث عبد الرحيم هي ما انتهى اليه ابن حزم في قوله "فمن تدبر العربية والعبرية والسريانية، أيقن أن اختلافها من نحو ما ذكرناه من تبديل ألفاظ الناس على طول الأزمان، واختلاف البلدان ومجاورة الأمم. وانها لغة واحدة في الأصل". وهذه القاعدة على صحتها تخضع لتدقيقين :
أولاً - خالط العرب السريان، وهم من مقدمة الشعوب الآرامية في الجاهلية والقرون الأولى للإسلام. فاقتبسوا منهم، الى العصر السادس بعد الهجرة مئات الكلمات المختصة بالزراعة والصناعة والتجارة والملاحة والعلوم.
ثانياً - إذا أخذنا كلمة "شلهوبة" ومثلها بالرغم من أنها ليست من الألفاظ الخاصة بالسريانية أو المتعلقة بالديانة النصرانية، إلا أنها مشتركة في مادتها بين العربية والسريانية، ولكن العرب لم ينطقوها بالتخصيص للدلالة على شيء وغرض معين ولم تحوها معاجم العربية بل نطق بها السريان واستخدموها للدلالة على شيء أو أمر معين (شلهوبة وتعني بالعربية اللهيب)، فهي إذن سريانية ولا ينتقص من سريانيتها كون المادة مشتركة بين اللغتين وانهما لغة واحدة في الأصل، كما لا ينتقص من عربية اللهيب كون مادتها مشتركة بين اللغتين ايضاً. يضاف الى الشرطين التدقيقيين اعلاه شرط آخر له شأن كبير في التدبير والنظر في أصل الكلمات وهي أن الكتاب في صدد الحديث عن عامية سورية من العالم العربي وليس البحث هنا في عامية مصر أو اليمن أو المغرب وكلها اقطار في العالم العربي ولغتها الفصحى هي العربية. وهذا الأمر الواقعي الموضوعي له شأن هام ينعكس في النظر والتقدير والتخريج والتعليل. وكون عامة سورية هم سوريون سريان في الأصل وكانت السريانية لغتهم ولغة آدابهم التي بلغت أوج الكمال في القرن الثالث الى الثامن وذلك قبل الفتح العربي، ذلك ي جعلهم يتابعون تراثاً لغوياً يكاد يكون متصلاً. إن كوننا عرباً أو غير عرب لا يقدم ولا يؤخر في كون هذه اللفظة أو تلك عربية أو غير عربية. يجب هنا أن ننتهي من المقاربات التي تتوكأ على الخالات والعمات ومصطلحات الأنساب وصِلات الرحم لننظر نظراً لغوياً وموضوعياً وهو ما شدد عليه المفكر انطون سعادة بالقول: ان "كل مجتمع يجب أن يكون له وسيلة أو وسائل، لغة أو لغات، لهجة أو لهجات يتخاطب بها أفراده ويتفاهمون ويتفاعل تفكيرهم وتزداد ثروتهم العلمية"، ويتابع سعادة بالقول "أن اللغة وسيلة من وسائل قيام الاجتماع لا سبباً من أسبابه، إنها أمر حادث بالاجتماع في الأصل لا أن الإجتماع أمر حادث باللغة".