العراق: من دكتاتورية العسكر إلى دكتاتورية الأفندية
قبل البدء بكتابة بقية مقالنا في الأسبوع الماضي (ماذا كان الدور الأمريكي المطلوب في العراق؟) أود أن أكتب كلمتين بالمناسبة الثالثة عشرة لرحيل الشاعر العراقي العظيم عبد الوهاب البياتي في 3/8/1999، الذي عرفنا العراق به في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، وليس بحزب البعث أو بصدام حسين. لقد كان البياتي صديقي المحب، رغم اختلافنا في التوجه السياسي والفكري. ولكنه كان يحتضنا ويحبنا نحن الشباب – آنذاك - رغم اختلاف أفكارنا ومشاربنا السياسية. عرفت البياتي شخصياً في عمَّان في بداية التسعينات من القرن الماضي. وقرأت أشعاره ودواوينه في الستينات والسبعينات. وزدت به حباً وشغفاً بعد قراءتي للدراسة النقدية الجادة التي كتبها الناقد والأكاديمي الفلسطيني الراحل إحسان عباس عن شعر البياتي (عبد الوهاب البياتي والشعر العراقي الحديث، 1955) وفيها توّج عباس (الناقد الفذ) الشاعر العظيم، بأنه أثمن ما في العراق الآن بعد بدر شاكر السيّاب (ولعباس كتاب نقدي مهم عن السيّاب "بدر شاكر السياب: دراسة في حياته وشعره"، 1969). ولكن هذه الجوهرة الشعرية الثمينة، قد أنكرها العراق الجديد الآن الذي انشغل فيه السياسيون على التسابق في نهب العراق، وسرقته، وعلى الصراع المحموم على السلطة، ولم يفطنوا إلى إقامة تمثال عظيم، أو احتفالية لائقة، في ذكرى رحيل البياتي العظيم في الماضي والحاضر. ولم يفطن لهذه الذكرى الشعرية الثمينة، غير الإخوة المصريين الكرام، الذين أصدروا بهذه المناسبة ديوان (المختار من شعر البياتي). وكانت مصر بذلك – كما هي دائماً – الحاضنة الأم، للثقافة العربية، في ماضيها وحاضرها، وما عداها زبد، وهبوب ريح.عود على بدء
قلنا في الأسبوع الماضي، أن الإدارة الأمريكية لم تكن تعلم ما هو العراق على الأرض؟ كانت تعرف صدام حسين فقط. وكانت تعلم ما هو البعث، وكيف يحكم في العراق، وربما في سوريا أيضاً. ولو علمت أمريكا ما علمه علماء الاجتماع العراقيين كعلي الوردي وحنا بطاطو وفالح عبد الجبار، وما علمه المؤرخون العراقيون كعبد العزيز الدوري، وجواد علي، وسيّار الجميل وغيرهم، لما ارتكبت أخطاءً عسكرية وسياسية وإدارية قاتلة.
وبيّنا في مقالنا السابق بأن غزو أمريكا للعراق كان من بين دوافعه، دوافع دينية مسيحية، وأن تلفّظ الرئيس بوش بعبارة "حرب صليبية" إشارة إلى غزو العراق لم تكن زلة لسان، كما تمَّ تفسير ذلك في وقتها. وسقنا الكثير من الأمثلة على لجوء الرئيس بوش إلى "الإلهام الديني المسيحي" في قراراته بشأن العراق، أكثر من لجوئه إلى "العقلانية الواقعية السياسية". وكان ذلك من الأسباب التي جعلت الرئيس بوش يستعجل في غزو العراق، بحجة نشر الديمقراطية الغائبة في العالم العربي انطلاقاً من العراق، الذي كان بعمقه الثقافي والاستراتيجي مهيئاً لأن يكون قاعدة انطلاق للديمقراطية في العالم العربي مع الحاجة للوقت الكافي والأخذ بالاعتبارات الجغرافية والتاريخية والسياسية.. الخ. التي لم تأخذ بها الإدارة الأمريكية عند غزوها للعراق وتحقيقها لحملة "حرية العراق". وتحويل العراق من صندوق مغلق على الآخرين، إلى عش لدبابير الإرهاب المنتشرة في العالم العربي قبل 2003، والتي وجدت في العراق بعد 2003 المناخ الملائم لعملياتها الإرهابية.
الدواء العنيف للجسم الضعيف
دعونا نجيب بسرعة على سؤال عنوان مقالنا (ماذا كان الدور الأمريكي المطلوب في العراق؟)
في البدء يحمد كثير من المثقفين العراقيين الليبراليين والمستنيرين للحملة الأمريكية على العراق. ويرون (عبد الخالق حسين مثالاً) أنه رغم أخطاء أمريكا الكثيرة القاتلة في العراق، إلا أنه لولا أمريكا لظل العراق يرزح تحت ديكتاتوريات مختلفة. وأن ما تم في العراق حتى الآن ومنذ 2003 "ليس بالإمكان أحسن مما كان". وأن العراق بواقعه الاجتماعي وبتركيب سكانه – الذي لا يختلف كثيراً عن تركيب سكان الجزيرة العربية خاصة – ما كان له أن يشرب كأس الديمقراطية جرعة واحدة. كما أن هذه الجرعة دفعة واحدة، غير صحية، لأية أمة وأي شعب، على غرار الشعب العراقي الذي هو جزء من الشعب العربي، الذي لا تتوفر فيه حوامل وروافع الديمقراطية من علم، ومعرفة، وتقدم اقتصادي، ونهضة صناعية، ونخب ثقافية علمانية، كما كان عليه الحال في اليابان 1945 مثلاً، والذي استنسخت أمريكا تجربتها هناك، وحاولت تطبيقها حرفياً على العراق، دون ملاحظة ومراعاة الفروقات المختلفة بين يابان 1945 وعراق 2003. فنجحت أمريكا في اليابان حيث فشلت في العراق. وحيث وضعت صيغاً ملائمة للواقع الياباني بينما لم يتم ذلك في العراق.
الغزو السياسي والثقافي بدلاً من العسكري!
سوف يسخر كثيرون، وخاصة جهابذة السياسة العرب من هذه الأفكار. ولكن لا بأس. فقد كان الدور الأمريكي المطلوب في العراق قبل غزوه عام 2003 أن تتم "حملة" سياسية وثقافية من الخارج قبل غزوه عسكرياً. فإسقاط الدكتاتور صدام حسين لم يكن يعني إسقاط الدكتاتورية المتأصلة في العراق. وكما شاهدنا بعد 2003 والآن، فإن كثير من السياسيين يطمعون إلى لعب دور صدام في دكتاتوريته. فقد مضى حتى الآن على الانتخابات التشريعية العراقية قرابة خمسة أشهر، ولم يتم تشكيل الحكومة العراقية بموجب الاستحقاق الديمقراطي.وستطول هذه المدة في ضوء الصراع المحموم الآن على السلطة.
كذلك كانت "الحملة" السياسية والثقافية الأمريكية المطلوبة من الخارج، هو أن تقوم أمريكا بوسائلها الخاصة بتكوين جيل من السياسيين العراقيين الديمقراطيين - حيث أفنى صدام ومن قبله النخب السياسية الليبرالية - وطرح أكبر عدد من نسخ الكتب التنويرية المترجمة الحاثة على النظام الديمقراطي، والمبينة للآثار المدمرة للدكتاتورية. فالشعب العراقي والنخب السياسية العراقية، شأنهم شأن بقية العرب الآخرين بحاجة إلى مزيد من التربية الديمقراطية والتدريب على ممارسة الديمقراطية. وهو ما نطلق عليه تهيئة الأرض الصالحة للزراعة الديمقراطية. أما أن تتم زراعة فسائل الديمقراطية في الصحاري القاحلة، دون رعاية وعناية وإشراف مباشر، فسيكون حال هذه الفسائل الموات السريع كما تم الآن في العراق، وكما نشهد من خلال إنبات العراق لدكتاتور جديد، بدل إنبات نخلة الديمقراطية الجديدة.
فهل كل ما فعلته أمريكا في العراق، انتقاله من دكتاتورية صدام العسكرية إلى دكتاتورية الأفندية الحالية؟