Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

العراق ومخاطر المعاهدة الأمريكية المقترحة!

العراق اليوم يجتاز أخطر مرحلة في تاريخه الحديث ستقرر مصيره لأمد طويل، ويترتب على العراقيين أن يدركوا طبيعة هذه المرحلة، وطبيعة المخاطر المحدقة بمستقبلهم، حيث بات العراق رهينة المشاريع الأمريكية المتعلقة بمستقبل ما يسمى بالشرق الأوسط الجديد!.
فالجيوش الأمريكية ما زالت جاثمة على صدور العراقيين منذ عام 2003 وحتى اليوم، وليت أن الأمر انتهى إلى هذه الحال، لكن الذي جرى بعد إسقاط نظام البعث الفاشي كان عملية هدم وتخريب منظمة للبنية التحية العراقية وسائر أجهزة الدولة، لتترك البلاد فريسة سهلة لعصابات النهب والسلب والقتل والتخريب والتدمير، ثم لتنصب على العراق الدبلوماسي الأمريكي، وخبير ما يدعي بمكافحة الإرهاب بول بريمر حاكماً على البلاد، ليشيد لنا نظاماً طائفيا ًرجعياً كريها، ويضع اللبنات الأساسية لمشروع تمزيق العراق عبر دستوره الذي دعاه بـ [ قانون إدارة الدولة في المرحلة الانتقالية]، والذي اتخذ أساسا للدستور الدائمي الذي جرى تشريعه فيما بعد على أيدي قوى الإسلام الطائفي الشيعي بالاشتراك مع القوى القومية الكردية فكان من نتائج تلك السياسة الأمريكية الرعناء إيصال العراق إلى حالة من الصراع الطائفي والعراقي وصولا للحرب الأهلية الطائفية التي سادت البلاد. .
هذا هو حالنا الذي أوصلتنا إليه اليوم الولايات المتحدة بعد أن دمرت كل شئ، فهي لم تسقط نظام صدام فحسب ، بل أسقطت العراق بكل مؤسساته ، المدنية والعسكرية، فقد حلت جيشه ودمرت جانباً كبيراً من سلاحه، وأتاحت للسراق سرقة الجانب الآخر، وتركت العراق ضعيفاً بين الوحوش المحيطة به، إيران والسعودية وسوريا وتركيا والكويت والأردن وإسرائيل، لكي يقول حكام أمريكا للعراقيين أنكم مهددون من قبل جيرانكم، وأن وجود قواتنا في العراق أمر ضروري لحمايته.
يقال أن التاريخ لا يعيد نفسه، وإذا أعاد نفسه يوماً ما فعلى شكل مهزلة، وهذا ما يجري في بلادنا كما يبدو، فحكام أمريكا يفعلون اليوم نفس ما فعل الامبرياليون البريطانيون الذين احتلوا العراق خلال الحرب العالمية الأولى عندما أعلن قائد الحملة العسكرية التي احتلت العراق للشعب قائلا:
{ لقد جئنا لكم محررين}، لكنهم عملوا في بادئ الأمر على حكم البلاد حكماً عسكرياً مباشراً، واستمروا على تلك الحال حتى أجبرتهم ثورة عام 1920 على تغيير أسلوب حكمهم، حيث أقاموا ما دعي بالحكم الوطني، وجاؤا بالأمير فيصل ونصبوه ملك على العراق، يعاونه عدد من الضباط الذين خدموا في الجيش العثماني، وانضموا إلى ثورة الملك حسين بن علي ضد الحكم العثماني، و حكموا العراق من وراء الستار منذُ ذلك الحين وحتى وقوع ثورة 14 تموز ،1958 بعد أن نصّبوا حكومة موالية لهم، لا حول لها ولا قوة سوى الطاعة، وفرضوا على العراق المعاهدة الإسترقاقية الجائرة التي دُعيت بـ [ معاهدة عام 1922]، ومن بعدها معاهدة عام 1930، ثم تلاها عقد حلف بغداد عام ،1955 والتي جعلت العراق تحت الهيمنة البريطانية.
فقد جاء الغزو الأمريكي للعراق بدعوى [ حرب تحرير الشعب العراقي من نظام صدام الفاشي] فإذا بالمحتلين الجدد يطبقون نفس السياسة الاستعمارية التي انتهجتها بريطانيا العظمى آنذاك، احتلال مستمر، وضغوطات مستمرة على الحكومة التي نصبوها هم أنفسهم لتوقيع معاهدة طويلة الأمد تجعل من الاحتلال الأمريكي للعراق أمراً واقعاً بصورة رسمية، وحجة المحتلين هي الحفاظ على امن واستقلال العراق، فأي أمن حل في البلاد ، وأي استقلال وسيادة تلك التي يتحدثون عنها؟
إن الولايات المتحدة بعد كل الذي جرى على أيديها من خراب ودمار وتمزيق للبنية الاجتماعية العراقية، وشيوع الصراع الطائفي والعرقي في البلاد، وصولاً للحرب الأهلية التي أزهقت أرواح أكثر من 650 ألف مواطن برئ، وأقامت في البلاد نظاماً طائفياً مقيتاً، وفسحت المجال واسعاً أمام القوى القومية الكردية الشوفينية، وقوى الإسلام الطائفية الشيعية للسير في طريق تمزيق العراق من خلال إقامة الفيدراليات المشبوهة قد فقدت مصداقيتها لدى الشعب العراقي، وتلاشت الثقة التي وضعها البعض في الإدارة الأمريكية التي غزت العراق بدعوى إنقاذ الشعب العراقي من طغيان نظام الدكتاتور صدام حسين، وإقامة نظام ديمقراطي بديل، فقد تلاشت كل تلك الأحلام، وتلك الثقة التي وضعوها في الإدارة الأمريكية، بل لقد تحولت نظرة المواطنين العراقيين إلى الكراهية الشديدة للمحتلين الأمريكيين، وبدأ الشعب العراقي يحس بوطأة الاحتلال، وبرغبة الإدارة الأمريكية ببقاء الاحتلال جاثماً على صدور أبنائه إلى أمد غير محدود، وأصبح حلم العراقيين أن يشهدوا تحرر البلاد من الاحتلال واستعادة سيادته واستقلاله الكاملين، وانسحاب القوات الأمريكية المحتلة بأقرب وقت ممكن.
ولكون الوضع الأمني غير مستقر في البلاد ، وبسبب ضعف مستوى تسليح الجيش العراقي والأجهزة الأمنية، وتغلغل أعضاء الميليشيات الحزبية الطائفية والعراقية في صفوفه فإن انسحاب قوات الاحتلال الأمريكية من العراق في الوقت الحاضر بات يهدد الوضع الأمني الهش في البلاد، ويثير القلق في نفوس العراقيين بعد تلك السنوات القاسية التي عاشها في رعب شديد.
ولأجل تجنب انتكاسة الوضع الأمني من جديد، فإني أرى أن الحل الوحيد الممكن في الوقت الحاضر هو استبدال قوات الاحتلال الأمريكي بقوات تابعة للأمم المتحدة لفترة زمنية محددة يجري خلالها تشكيل حكومة تنكوقراط مشهود لأعضائها بالكفاءة والأمانة والإخلاص للعراق وحده، تتولى إعادة النظر في الدستور بما يضمن وحدة العراق شعباً ووطنا، وبناء المؤسسات الديمقراطية تمهيداً لإقامة نظام حكم ديمقراطي حقيقي يضمن الحقوق والحريات العامة للمواطنين على قدم المساواة بصرف النظر عن القومية والدين والطائفة، وتنظيم الحياة الحزبية في العراق على أسس ديمقراطية بعيداً عن الطائفية المقيتة والعرقية المتزمتة، وتعيد تنظيم الجيش والأجهزة الأمنية على أسس قويمة، وتنظيفها من سائر العناصر التابعة للميليشيات الحزبية دون استثناء، وتسليح الجيش بالأسلحة الثقيلة والطائرات الحربية بما يتيح له استعادة الأمن والسلام في البلاد، وحماية حدود العراق، والتصدي لأي عدوان على سيادته واستقلاله من دول الجوار.
وعندما يقف العراق على قدميه من جديد ويستعيد حريته واستقلاله سيكون على استعداد لعقد الاتفاقيات المختلفة مع الولايات المتحدة وسائر الدول الأخرى على قدم المساواة على أساس المنافع المتبادلة والمصالح المشتركة شرط احترام سيادة واستقلال العراق، لا على أساس غالب ومغلوب، أو قوي وضعيف، كما يجري اليوم لفرض معاهدة طويلة الأمد مع الولايات المتحدة تكرس احتلال العراق .
أن من يقرأ معاهدة عام 1922 التي فرضتها بريطانيا وأعوانها في السلطة بالقوة لا يرى في المعاهدة الجديدة المقترحة مع أمريكا، بما سربته الصحافة الغربية من بنودها ، سوى نسخة طبق الأصل لتلك المعاهدة المشؤومة.
إن من حق المواطنين العراقيين أن يرتابوا من سياسة الإدارة الأمريكية التي تدعي حرصها على سيادة واستقلال العراق، بعد أن أقدمت على حل الجيش العراقي وقواته الأمنية والاستعاضة بجيش وقوات أمنية عشعشت فيها ميليشيات الأحزاب الطائفيه والعرقية المتعددة الولاءات، ودون أن تسلح الجيش بما يحتاجه من الأسلحة كي يضمن قدرته على صيانة أمنه الداخلي وحدوده وحماية استقلاله؟
فبعد مرور 5 سنوات على الاحتلال، لا يمتلك العراق طائرة حربية واحدة ولا أسلحة ثقيلة يحمي بها الوطن، كما أن ترسانته الضخمة من الطائرات والدبابات والمدفعية والصواريخ قد جرى تدمير جانب منها، وتمت سرقة الجانب الآخر من قبل الميليشيات الكردية، وما زالت إيران تحتفظ بأكثر من 140 طائرة حربية ومدنية بعث بها دكتاتور العراق صدام إلى إيران إثناء حرب الخليج الثانية خوفاً عليها من التدمير.
وما زال العراق تحت طائلة البند السابع لغاية اليوم على الرغم من سقوط
نظام صدام، واحتلال العراق من قبل جيوش الولايات المتحدة، فهل ما زال العراق اليوم يهدد الأمن والسلام في المنطقة، وهو العاجز عن حماية نفسه، والتصدي للتدخل الفض في شؤونه الداخلية من قبل جيرانه الطامعين بثرواته؟
لقد بات العراق اليوم في مأزق حرج جراء السياسة الأمريكية، فلا هو قادر على حماية وضعه الداخلي، ولا هو قادرٌ على التصدي للتهديدات الخارجية المتربصة به بحيث أصبح خروج القوات الأمريكية من العراق يعرض فعلا أمنه الداخلي والخارجي لخطر كبير، وفي مقدمة الأخطار المحدقة به هو الخطر الإيراني، وخطر عودة نظام البعث إلى الحكم من جديد، وبذلك تحل بالبلاد كارثة أشد وأقسى.
لقد أوصلتنا الإدارة الأمريكية إلى هذه الحالة المفجعة، التي وضعت العراق أمام خيارين أحلاهما مرٌّ، فإما القبول بالوجود العسكري الأمريكي في العراق، وأما لينتظر الشعب المغلوب على أمره والمسلوب الإرادة، المصير الكارثي المحتوم.
إن على الحكومة العراقية الحالية أن تتحمل المسؤولية الوطنية تجاه شعبها وأن تعرض عليه بكل شفافية بنود المعاهدة المفروضة من قبل الإدارة الأمريكية ليكون على بينة من أمره، وعلى المخاطر المحدقة بمستقبله، وستجد في الشعب خير عون لها على الصمود أمام أطماع المحتلين، وبعكسه ستتحمل الحكومة والبرلمان والأحزاب السياسية المشاركة في الحكم وزر أي معاهدة تسلب سيادة واستقلال البلاد، فلن يغفر الشعب العراقي لمن يسعى لبيع الوطن للمحتلين مهما كانت التبريرات، ومهما طال الزمن، ولا بد أن يستعيد العراق حريته واستقلاله مهما غلت التضحيات.

حامد الحمداني
19/8/2008

Opinions