الفيدراليون ورئيس الوزراء المالكي والدستور العتيد!
باقتراب موعد إجراء الانتخابات المحلية في المحافظات بدأت أحزاب الإسلام السياسي الشيعية نشاطاً محموماً في محافظة البصرة، التي يسيطر على السلطة فيها حزب الفضيلة منذ الانتخابات الأولى، في الدعوة لإقامة فيدرالية جديدة في المحافظة، وقد ركب هذه الموجه النائب عن البصرة السيد وائل عبد اللطيف في دعوته لقيام فيدرالية البصرة، ومباشرته لحملة جمع التواقيع لمشروعه الهادف لتمزيق العراق.وفي الوقت نفسه صعد حزب الحكيم دعواته بإقامة فيدرالية الجنوب والفرات الأوسط، التي تضم تسعة محافظات، رداً على مشروع حزب الفضيلة والنائب وائل عبد اللطيف لفيدرالية البصرة.
هكذا بكل بساطة تعد القوى الطائفية مشاريعها الهادفة لتفتيت العراق، ولعابها يسيل للثروة النفطية التي تزخر بها مناطق جنوب العراق، في الوقت الذي استطاعت فيه الأحزاب القومية الكردية بدعم ومساندة الحاكم الأمريكي السيئ الصيت [ بول بريمر] الذي مهد لهم السبيل بقانون إدارة الحكم في المرحلة الانتقالية، والذي صادق عليه مجلس الحكم الذي اختار أعضائه بريمر نفسه، والذي تمتعت فيه قيادات أحزاب الحكيم والبارزاني والطالباني بالأغلبية المطلقة فيه، ثم جرى تشريع الدستور من قبل نفس هذه القيادات التي فازت بأغلبية المقاعد في البرلمان الذي حرى انتخابه عام 2004 ، بعد مقاطعة الطائفة السنية للانتخابات، لتمهد لهذه القيادات الطريق لتشريع الدستور الذي جاء مطابقاً لدستور بريمر المؤقت مع إضافات طائفيه لأحزاب الإسلام السياسي الشيعية، وكان مشروع الفيدرالية الذي أوجده الحاكم الأمريكي بريمر في صلب الدستور الذي تم إقراره فيما بعد من قبل هذه الأحزاب التي هيمنت على البرلمان والحكومة معا.
لقد كان مشروع الفيدرالية الذي أقرته المعارضة العراقية في مؤتمراتها قبل الغزو الأمريكي للعراق يتعلق فقط بحل المشكلة الكردية المزمنة لكي يتمتع الشعب الكردي بالحكم الذاتي ضمن إطار الدولة العراقية، ولم يتم إقرار أي مشروع لتقسيم العراق إلى دويلات طائفيه.
لكن شهية قيادات أحزاب الإسلام السياسية الشيعية للسلطة والثروة بعد إسقاط نظام صدام الديكتاتوري باتت تطغي على الساحة السياسية، ولعب قادة هذه الأحزاب الطائفية بالتعاون والتعاضد مع الأحزاب القومية الكردية دوراً فاعلا في تضمين الدستور العراقي نصاً يدعو إلى تحويل العراق إلى اتحاد فيدرالي ، وتضمنت مواد الدستور صلاحيات واسعة للفيدرالية بحيث تجاوزت في كثير من الأحيان صلاحيات المركز.
وبدأت الخلافات بين فيدرالية كردستان والحكومة الاتحادية تظهر في العلن على وجه متصاعد بحيث باتت الفيدرالية في كردستان دولة داخل دولة، دولة تتمتع بكل مقومات ومتطلبات الدولة، لها دستورها وحكومتها وبرلمانها وجيشها وعلمها وحدود محدودة تضم محافظات أربيل ودهوك والسليمانية وأخرى مختلف عليها!!، كما ورد في نص الدستور البريمري العتيد تطالب القيادة الكردية المتمثلة بالرئيس الطالباني ورئيس الإقليم البارزاني، وتضم محافظة كركوك الغنية بالنفط ، وما يزيد على نصف محافظتي الموصل وديالى نزولا نحو الجنوب إلى بدرة وجصان!!.
كما تتمتع دولة كردستان بتمثيل سياسي في مختلف البلدان الغربية منها والشرقية، وهكذا لم يبقً لدولة كردستان إلا الإعلان الرسمي لقيامها بانتظار الظروف الدولية والإقليمية المناسبة.
واستمرت الخلافات بين الحكومة العراقية وقادة دولة كردستان تطفوا على سطح الأحداث، وتصاعدت لهجة قادة كردستان في ردها على حكومة نوري المالكي، ورد المالكي على تلك التصريحات في مؤتمراته الصحفية، وبدأت الاحتكاكات بين الجيش العراقي وميليشيات البيشمركة في كركوك وخانقين وجلولاء، وتتالت تهديدات البارزاني العلنية التي بثتها قناة الحرة بانطلاق الحرب الأهلية الحقيقية كما سماها البارزاني إذا لم تعد كركوك وبقية المناطق المختلف عليها إلى دولته العتيدة.
لقد أدرك المخلصون الحريصون على وحدة العراق أرضاً وشعبا ما انطوى عليه الدستور من مواد ذات أبعاد خطيرة على مستقبل العراق ووحدته أرضاً وشعبا، وحذروا أخطار الدعوات التي بدأت تتصاعد في الجنوب والتي تصدرها عبد العزيز الحكيم ، ثم تلتها دعوة حزب الفضيلة والنائب وائل عبد اللطيف لإقامة كيانات جديدة على غرار فيدرالية كردستان تستهدف تمزيق العراق كدولة وإنهائها، والاستئثار بالسلطة والثروة ، فمحافظة البصرة هي ثغر العراق الوحيد ، ويختنق العراق بدونها بكل تأكيد ، هذا بالإضافة إلى كونها غنية جداً بالنفط .
عند ذلك أدرك رئيس الوزراء السيد نوري المالكي مؤخرا خطورة ما انطوى عليه الدستور بعد أن لمس من خلال التطبيق مدى عمق التناقض والخلافات بين فيدرالية كردستان والمركز، ومحاولة تهميش دور الدولة المركزية، وتحدي قرارات وزير النفط فيما يخص العقود النفطية التي وقعتها حكومة كردستان مع العديد من شركات النفط ، وحول دور البيشمركة ووجوب كونها جزء من القوات العراقية المسلحة، وتتلقى أوامرها من رئيس الوزراء المالكي، في حين ترفض هذه الميليشيا هذا الالتزام، ولا تتلقى أوامرها إلا من حكومة البارزاني.
فقد أعلن السيد رئيس الوزراء نوري المالكي في حديث له أمام مؤتمر الكفاءات والنخب المثقفة المنعقد في بغداد قائلا:
إن هناك ضرورة لإعادة كتابة الدستور الذي كتب على عجل من جديد حيث إن المخاوف لم تكن موضوعية، وقد وضعنا قيودا ثقيلة كي لا يعود الماضي، ولكنها كتفت الحاضر وكتفت المستقبل، ولابد من إعادة كتابة الدستور بطريقة موضوعية، تمنح الحكومة المركزية الصلاحيات التي تمكنها من القيام بمهامها، وليست للحكومات المحلية.
وأضاف المالكي في المؤتمر:
{ إن الدستور كان قد كتب قبل ثلاث سنوات في أجواء كانت فيها مخاوف من عودة الدكتاتورية من جديد بعد إزاحة نظام صدام لكننا ذهبنا بعيدا في تكريس المخاوف وتكريس التطلعات، وأستطيع القول أن تلك المخاوف لم تكن موضوعية، جعلتنا نضع قيودا ثقيلة كي لا يعود الماضي، ولكنها كتفت الحاضر وكتفت المستقبل.
وركز المالكي على عملية إعادة النظر بالدستور العراقي حيث تقوم حاليا لجنة برلمانية بإعادة النظر بالدستور الذي شرع نهاية العام 2004 قائلاً:
لقد أصبحنا بحاجة إلى مراجعة الدستور بعد أن تمكنا من تأسيس الدولة وحمايتها من الانهيار، وأصبح علينا أن نتجه اليوم إلى بنائها وفق أسس وطنية دستورية واضحة تحدد فيها الملامح والصلاحيات.
وأضاف علينا أن نضع ما يضمن لنا ألا تكون اللامركزية هي الدكتاتورية مرة أخرى حيث باتت الفيدرالية هي التي تصادر الدولة اليوم.
وطالب المالكي بضرورة وجود صورة واضحة للنظام السياسي يعطي الصلاحيات للحكومة المركزية بالشكل الذي يحول دون وجود حكومات حقيقية متناحرة فيما بينها.
وقال يجب بناء دولة اتحادية قوية حكومتها لها مسؤولية كاملة في الأمن والسياسة الخارجية، وان تكون الصلاحيات أفضل للحكومة الاتحادية، وما عداها ينص عليه الدستور من صلاحيات الأقاليم والمحافظات، وما لا ينص عليه فيعود إلى الحكومة المركزية.
وطالب المالكي بتوزيع الصلاحيات الأخرى بطريقة تضمن عدم ولادة مركزية حديدية سواء للمركز آو للأقليم والمحافظات. وقال أن وجود فيدراليات وحكومات محلية دون وجود حكومة قوية قادرة على حماية السيادة والأمن أمر غير ممكن، وهو اتجاه غير صحيح.
ودعا المالكي أن تناط مسؤولية الأمن للحكومة المركزية قائلاً أنا أتحدث في ذلك عن تجربة لو لم تتصد الدولة المركزية للأمن لفلتت الأمور.
وقد جاء توجه المالكي نحو تعديل الدستور متوافقا الآن مع مطالبة الطائفة السنية، التي اعتبرت التحالف الشيعي الكردي وراء كتابته، من أجل تقوية الفدراليات على حساب الحكومة المركزية.
لقد أدرك وتلمس السيد المالكي محاولات التسلق على صلاحيات الحكومة المركزية من جانب حكومة كردستان، وتعكزها على الدستور في سلب تلك الصلاحيات وآخذ المزيد منه .
وتعتبر عملية تحديد الصلاحيات بين الحكومة المركزية وحكومات الأقاليم التي يتوقع تشكيلها جراء الانتخابات المحلية التي يؤمل إجراؤها في نهاية كانون الثاني القادم إحدى نقاط الخلاف الكبيرة بين العديد من الكتل السياسية حيث تطالب الكتل السياسية بمنح الحكومات المحلية الكثير من الصلاحيات على حساب الحكومة المركزية، وهو ما حذر منه المالكي.
إن الحفاظ على وحدة العراق أرضاً وشعباً هي مهمة وطنية ومسؤولية كبرى أمام الأجيال القادمة، وهي تقتضي إعادة كتابة الدستور من جديد ،
دستور علماني لا أثر فيه لأي توجه طائفي أو عرقي يؤكد على الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان التي نص عليها الإعلان العالمي الصادر عن الأمم المتحدة واحترام حقوق وحريات كافة القوميات والطوائف والأديان على قدم المساواة.
كما ينبغي أن ينص الدستور على كون الفيدرالية تخص المنطقة الكردية فقط مع تعديل العديد من المواد التي جعلت سلطة إقليم كردستان فوق سلطة الدولة المركزية.
كما ينبغي منح إدارة المحافظات صلاحيات الإدارة المحلية فقط على أن ترتبط بالمركز حفاظاً على تماسك النسيج الاجتماعي العراقي، وعلى وحدة الوطن من كل محاولات التقسيم والتفتيت التي يبشر بها البعض.