القوات الأجنبية.. بين إشكالية التواجد وتداعيات الرحيل
واخيراً تبنى الكونغرس الاميركي مشروع قرار تمويل القوات الاميركية العاملة في العراق مشروطاً بوضع جدول زمني لانسحاب هذه القوات منهياً جدلاً احتدم منذ اللحظة الاولى لفوز الديمقراطيين باغلبية مقاعد مجلس النواب ومجلس الشيوخ ليبدأ فصل جديد وضجة واسعة حول وضع القوات الاميركية في العراق بعدما استعمل الرئيس الاميركي جورج بوش حق النقض الذي هدد به الديمقراطيين مراراً في حال اعتمادهم مثل هذا القرار. والحقيقة التي يعرفها الجميع ان السياسة الاميركية لم يسبق لها ان شهدت انقساماً حاداً على المستوى الخارجي خاصة عندما تكون جيوشها الوطنية خارج البلاد "الاّ هذه المرة وبهذا الشكل اللافت والحقيقة الاخرى ان هناك اصوات رسمية وشعبية من داخل الولايات المتحدة تطالب وبالحاح بسحب القوات الاميركية والخروج من العراق باسرع وقت ولكن بصورة تحفظ للولايات المتحدة هيبتها كقوةعظمى وهذا يتأتى من تحقيق النصر النهائي على الارهاب وتثبيت اركان الحكم الديمقراطي في العراق.فهل عجزت الولايات المتحدة عن الحاق الهزيمة بالإرهاب خاصة في العراق؟! ام انها تريد التنصل من تعهداتها التي قطعتها لبناء شرق اوسط جديد؟! ام ان الستراتيجية الاميركية تتطلب تحويل العراق الى ساحة جذب واستقطاب للمجاميع الارهابية وبالتالي ابعاد خطرها عن الولايات المتحدة واوربا والدول التي ترتبط معها بمعاهدات ومصالح مشتركة؟! اننا لا نشك لحظة واحدة في قدرة الولايات المتحدة على تحقيق النصر المنشود وبأقل من هذه التضحيات والسنين كونها تملك من القدرات العسكرية تجهيزاً وتسليحاً وتخطيطاً وافراداً ما لا تملكه اية دولة من دول العالم المتقدم، بحيث لا تتمكن الصمود امامها جيوش دولية منظمة فكيف تصمد زمر طائشة وشراذم متخلفة لا تجيد سوى التخريب والغيلة طيلة سنوات اربع؟!.
صحيح ان هناك تردد وخلل في بعض المواقف التي تتطلب المواجهة العنيفة والرد الصارم بما يتناسب مع حجم الهجمة الارهابية الشرسة، وصحيح ان القوات العراقية لا تمتلك القرار الكامل ولا التجهيز المطلوب في مثل هذه المواجهة لكن هذا لا يعني ان الولايات المتحدة تريد بقاء الحال على ما هو عليه الى ما لا نهاية او انها تخرج بهزيمة منكرة من هذه المعركة تاركة العراق لقمة سائغة للارهاب العالمي المنظم وعصابات الجريمة وبقايا السلطة السابقة. ومن هنا فان امام الولايات المتحدة خيارات عديدة -هي اعلم بها- ان هي ارادت الخروج من جدل الخلافات المحتدم بين الجمهوريين والديمقراطيين حول وضع قواتها في العراق وارضاء الاصوات المطالبة بخروج تلك القوات -المحلية منها والدولية- مع احتفاظها بقوتها وهيبتها، ولعل من ابرز هذه الخيارات:
- التدريب والاعداد والتسليح المتطور للقوات العراقية -بما يتناسب وحجم عصابات الارهاب العالمي المنظم وتمويلها المالي واللوجستي -منحها كامل القرار في التصدي الحازم الشامل لهذه الهجمة الشرسة.
- او الانتقال من حرب التطهير المحدودة المترددة الى حرب شاملة جادة تشترك فيها القوات المتعددة الجنسية مع القوات العراقية لتضع بذلك حداً لاستهتار ووحشية الزمر الارهابية المسعورة وايقاف نزيف الدم العراقي والتوجه الى مرحلة الاعمار والبناء. بعد انهاء فترة الفوضى والاضطراب واعادة الامن والاستقرار.
وربما كانت هناك خيارات اكثر فاعلية وجدية يعرفها الساسة والعسكريون الاميركان اكثر من غيرهم، بامكانها قطع دابر الارهاب ووضع الامور في نصابها اذا صدقت النوايا، وبذلك اخراج للادارة الاميركية من حرجها وسحب فتيل الازمات التي اتخذت من تواجد القوات الاميركية في العراق ذريعة وشماعة.
وعودة على قرار الديمقراطيين ومن ينادي معهم بضرورة وضع جدول زمني لانسحاب القوات الاميركية من العراق، فان وجود هذه القوات "متعددة الجنسيات" في العراق نص عليه قرار مجلس الامن الدولي المرقم "1546" والذي حدد دور هذه القوات ومنح الحكومة العراقية المنتخبة صلاحيات تمديد او الغاء تواجد هذه القوات دون الحاجة الى اصدار قرار اممي جديد.
وبما ان الاطراف العراقية بكل مكوناتها متفقة على ان خروج هذه القوات في الظرف الحالي لا يخدم العملية السياسية وقد يؤدي الى حصول المزيد من الفوضى والاضطراب، خاصة وان القوات العراقية لم تكن بالجاهزية المطلوبة، مع وجود مناطق توتر متعددة ومضطربة وحدود منفتحة لموجات الارهاب الوافد المدعوم وعصابات السطو المسلح التي تفشت خلال فترة غياب القانون وتقوت بفضل ما تغدقه عليها بقايا السلطة السابقة لاشراكها في اشاعة المزيد من الفوضى والتخريب لاسقاط العملية السياسية.
كما ان وضع جدول زمني -وباتفاق كل السياسيين والخبراء العسكريين- سيمنح قوى الارهاب العالمي فرصة لالتقاط انفاسها واعادة هيكلة خلاياها وتنظيم هجماتها.
لا يشك احد في ان العرقيين جميعاً وعلى اختلاف انتماءاتهم وتوجهاتهم واهواءهم ومللهم ونحلهم متفقون على ضرورة خروج القوات الاجنبية اليوم قبل الغد، لكن الاوضاع الجديدة التي ترتبت اثر دخول القوات "متعددة الجنسيات" وما صاحبها من تدهور امني واضطراب واختلاط الاوراق ادى الى ارباك العملية السياسية وتسبب في شلل مفاصل الحياة وتوقف مشاريع البناء والاعمار وتلكوء الحكومة الغارقة في تركة مشاكل الفترة السابقة وتداعيات سقوطها، هذه الاوضاع تجعل من انسحاب القوات مثار الجدل -في ظل الظروف الحالية- مجازفة محفوفة بالمخاطر مجهولة النتائج.