Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

الكنيسة والسياسة

كلمة أولى
مقدمة وايضاح
ان التغييرات السياسية التي حدثت في العراق بعد 19 ابريل 2003 أثرت بشكل مباشر على واقع الحياة فيه واحدثت تغييراً كبيراً في طبيعة العلاقة بين الاديان والقوميات المختلفة والاحزاب السياسية وأثرت على طبيعة علاقة بين الانسان وآخر. ولا يمكن استثناء الجماعة المسيحية والكنيسة من هذه التغيرات، لا بل يمكننا ان نقول، ان الكنيسة كانت الـحقيقة الاكثر تأثراً في ظل هذه التغييرات، وكان المسيحيون الشريحة الاكثر تضرراً من جراء هذا التغير. فقيام احزاب على اساس ديني وقومي واستخدامها للدين كغطاء لها أثّر بشكل مباشر أو غير مباشر على الجماعات الدينية الموجودة في داخل البلد، ودفع بالكثير منها الى أضفاء صفة المطلق على قراراتها ومواقفها. والاحزاب القومية التي اتخذت من المسيحية واستندت الى بعض السلطات الكنسية وجذبت الكثير من الناس اليها، هي الاخرى دفعت الكنيسة بشكل مباشر أو غير مباشر الى اتخاذ موقف بشأن هذه القضية أو تلك، لصالح هذه الجهة او تلك. ليس موضوعي هنا استعراض طبيعة العلاقة بين الكنيسة والاحزاب السياسية "المسيحية" في العراق خلال هذه السنوات الاربعة الماضية، مع أني أعتقد ان دراسة من هذا القبيل قد تكون مفيدة للكنيسة والاحزاب نفسها. ما أريده هنا هو توضيح بعض القضايا المهمة والنقاط الاساسية التي تحكم علاقة الكنيسة بالسياسة بصورة عامة وطبيعة هذه العلاقة في ظل التغيرات المجتمعية والسياسية الجارية.
فما هي العلاقة بين الكنيسة والسياسة؟ ومن أين تنطلق الكنيسة في تحديد موقفها من القضايا السياسية؟ وما معنى ان نقول ان الدين منفصل عن الدولة والسياسة؟ وهل هذا مسوّغ للسياسي ليفعل ما يريد دون وازع او رقيب؟ وهل للكنيسة الحق في قول رأيها بخصوص القضايا السياسية المختلفة؟ وما هي هذه القضايا السياسية التي يجب ان تتكلم عنها الكنيسة؟ هل موقف الكنيسة هو موقف خاضع للسياسة، أم ينطوي على نقد وفي بعض الاحيان، "الانتقاد" ايضاً لهذا الموقف او ذاك؟
كل هذه الاسئلة وغيرها سوف تشكل محوراً لمجموعة من المقالات القصيرة عن علاقة الكنيسة بالسياسة. بالتأكيد، لا يمكنني ان أجيب على هذه الاسئلة دفعة واحدة، لذا رأيت بانه من الافضل ان اكتب في مجموعة حلقات متواصلة عن هذه المواضيع المختلفة والمهمة ولا غاية لي منها سوى توعية أبناء شعبنا المسيحي وكنيستنا في العراق ايمانياً وانسانياً، وتوضيح بعض الحقائق التي يمكن ان تقودنا الى التزام اكبر بالحياة المسيحية والى أصالة اكبر في الشهادة للأنجيل ولرسالة المسيح القائمة على المحبة والسلام والحوار، والى بناء موقف مسيحي واضح يستند الى مبادى الانجيل وتعليم الكنيسة والقيم الانسانية العظمى.
اعتمدت لغة بسيطة وأساسية لكي ما تكون المفاهيم واضحة وأنطلقت من هويتي ككاهن كاثوليكي كلداني في صياغة الافكار الموجودة في هذه المقالة وقارنتها بالطروحات اللاهوتية المعاصرة. أريد ان أبدأ من موقف يسوع المسيح وعلاقته بالله الآب وتأثير هذه العلاقة على حياته الانسانية وعلى مواقفه من السلطة السياسية والدينية الدنيوية.

يسوع والسلطة السياسية
تتمحور حياة المؤمن حول حقيقة اساسية ومركزية وهي "ربوبية الله وسيادته على كل شيء وفوق كل شيء". هذا ما تُجسدُه أولى وصايا: "أَحبوا الربَّ إِلهكُم مِنْ كلِّ قلوبكُم وَنفوسكُم وقوتكُم" (تث 6/ 5). "محبة الله وسيادته على كل شيء" هي الحقيقة التي تستقطب كل افعال الانسان الحياتية وتحدد بشكل مباشر علاقته بالاخر المختلف سواء كان أنساناً، مجتمعا، أو عالم ككل. وهذا ما يقوله يسوع في جوابه لمعلم الشريعة: "أحب الرب الهك من كلّ قلبك وكلّ نفسك وكلّ فكرك" (متى 22/ 37). فالله يجب ان يكون مركزاً لحياتنا ولافعالنا، وعلاقتنا بالخالق تحكم وتنظم علاقتنا بالناس والعالم من حولنا. والوصية تحوي شطراً ثانياً اساسياً وهو: "أحب قريبك كنفسك" (متى 22/ 39). فالعلاقة مع الالهي مرتبطة اساسياً بالعلاقة مع الانساني، فالايمان الحقيقي هو التزام تجاه الله والقريب. ولايمكن لهذه الحقيقة ان تكون مجرد مبدأ "عام ونظري يحكم "جماعة ما" أو "شعب ما" فحسب، بل يصبح بالنسبة الى يسوع نفسه، قضية أساسية وشخصية؛ الكلام موجّه "شخصياً" الى كل انسان مؤمن وكل انسان مدعو شخصياً لكي ما يعطي جواباً حياتياً يشرح من خلال هذه الحقيقة الاساسية.
ان علاقة يسوع بالآب السماوي كانت محور حياته وتعليمه وافعاله، وجميع مواقفه من الآخر المختلف المتمثل بالانسان والمجتمع (السلطة الدينية والسياسية) والعالم. كلّ شيء، بالنسبة الى يسوع، يأخذ حقيقته من هذه العلاقة الشخصية بالله الآب (يمكننا ان نقول ان كل شيء يبدو نسبياً على ضوء علاقته بالمطلق الالهي، الله الآب). ومن هنا يمكننا ان نتكلم عن موقف يسوع من السلطة السياسية وطريقة تعامله معها والمواقف التي كان يبديها تجاه السلطة السياسية والدينية. فعلى الرغم من أن يسوع لم يعارض السلطة السياسية الموجودة في زمانه بصورة مباشرة ولم يقوم بتأسيس حركة سياسية لمعارضة السلطة الموجودة آنذاك (كما كان يفعل الغيوريون)، الا ان كلامه لم يخلوا من تعليم على طبيعة العلاقة بين الانسان المؤمن والسلطة المدنية.
من ناحية المبدأ، عارض يسوع سلطة الرؤساء المستبدّة على شعوبها فنراه في جوابه على طلب أم ابني زبدى يركز على أختلافها عن طبيعة السلطة في الكنيسة في هذا العالم: "تعرفون أن المعتبرين حكاماً على الامم يسودنهم، وأن عظمائهم يتسلطون عليهم، أما أنتم فلا يكن ذلك بينكم، وأنما من أراد ان يكون عظيماً بينكم، فليكن لكم خادماً" (مر 10/ 42-43؛ لو 22/ 25). فهذا الاعلان يتضمن رفضاً أساسياً لأي نوع من الاستبداد والغطرسة بين الرؤساء وشعوبها ويرفض صفة الاطلاقية التي يمكن منحها الى السلطة السياسية البشرية.
ففي مشهد مهم من مشاهد حياة يسوع قبل التسليم والصلب يقول قوله المشهور: "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله" (مر 12/ 13-17؛ متى 22/ 15-17؛ لو 20/ 20-26)، ويميز بشكل أساسي ومبدئي السلطة الالهية والسلطة البشرية ويعتبر ان أية عملية خلط بين السلطتين او توحيدها في واحدة بأي شكل من الاشكال مرفوضاً مبدئياً واساسياً. كما ويرفض بشكل جذري اي محاولة لتأليه السلطة الزمنية وينقد اية محاولة من قبل السلطة بأدعائها صفة الاطلاقية: فالله وحده هو القادر ان يطلب كل شيء من الانسان (تعليم الكنيسة الاجتماعي). ولكن في الوقت نفسه، يؤكد يسوع على ان السلطة الزمنية لها استحقاقات: فيسوع لا يعتبره شيئاً محرماً اعطاء الجزية لقيصر، وهذا ما يمكن ترجمته بالقول بالواجبات تجاه السلطة المدنية.
لقد حارب يسوع المسيحانية السياسية التي تتصف بالسيطرة على الشعوب (متى 4/ 8-11؛ لوقا 4/ 5-8)، فهو ابن الانسان الذي جاء لكي "يخدم ويبذل نفسه" (مر 10/ 45؛ قا متى 20/ 24-28؛ لوقا 22/ 24-27). لقد علم تلاميذه أن العظمة تكمن في الوداعة والتواضع وخدمة الجميع (مر 9/ 33-35)، وأن افضل طريق لأتباعه هو طريق الصليب (مر 10/ 35-40).

الكنيسة الاولى
انطلاقاً من الايمان بشخص يسوع المسيح القائم من بين الاموات عاشت الجماعة المسيحية الاولى دعوتها ورسالتها في المجتمعات وفي العالم، وحاولت ان تجسد قيم المحبة والسلام وتنشر رسالة الخلاص فيها.
يرى الرسول بولس ان خضوعاً ضميري، وغير سلبي، للسلطة البشرية الزمنية يتوافق مع ارادة الله ومع النظام المصمم من قبله: "لذلك فمن الضروري أن تخضعوا، لا أتقاء للغضب فقط، بل مراعاة للضمير أيضاً" (رو 13/ 5). لقد عرفت الكنيسة الاولى ان الخضعو للسلطة لا يمكن ان يكون مجرد خضوعاً سلبياً ئقوم على قبول كل شيء مهما كان كان معارضاً للقيم الانسانية والالهية، بل يجب ان يحكم الضمير الايماني والاخلاقي جميع ممارساتي للحقوق والواجبات المترتبة عليّ تجاه السلطة المدنية. يدعو الرسول أيضاً الى ضرورة دفع الضرائب للدولة، وهذا ليس لتبرير سلطة الحاكم، بل بالاحرى لمساعدة الجماعة المسيحية على عمل الخير "أمام جميع الناس" (رو 12/ 17؛ رو 13/ 17)، ويدعو السلطة السياسية الى ان تكون في خدمة الله من أجل خير الشخص البشري (رو 13/ 4؛ ا تيم 2/ 1-2؛ تي 3/ 1).
ومثل هذا الموقف يمكننا ان نراه عند الرسول بطرس، الذي يدعو المسيحيين الى الخضوع للسلطات الزمنية البشرية (1 بط 2/ 13)، وان يستخدم المؤمن الحرية المعطاة لهو من قبل الله بمسؤولية ويعمل على احترام السلطة التي تحقق العدالة وتعمل من أجل المصلحة العامة (1 بط 2/ 14-17).
لقد عاشت الكنيسة الاولى رسالتها المنفتحة على كل العالم في ظلّ الانظمة الحاكمة أنذاك، لم تخضع لهم خضوع العميان ولم تعترف بسلطتهم الالهية، بل حاولت دائماً ان تكوّن موقفاً ينطلق من ايمانها بالرب يسوع المسيح القائم من بين الاموات ومن حقيقت شخصه كرب ومخلص. فقدمت الالف من الشهداء بسبب رفضها الاعتراف بإلوهية الامبراطور او سلطته المطلقة على حياة ابناءها، عملت على ان يكون خضوعها محكوماً بمبادىء الانجيل وتعليم الكنيسة والرسل. فعندما كان السلطان البشري يستبد ويخرج عن الحدود التي وضعها الله له، اي يعمل على تاليه سلطته ويطلب الخضوع المطلق له، كان يصبح الوحش الذي يتكلم عنه سفر الرؤيا، الذي هو رمز للسلطة الأمبريالية التي يضطهد ويشرب "دم شهداء يسوع الذين قتلهم" (رؤ 17/ 6). فالسلطة التي تحاول ان تحكم من خلال روح الاستبداد والاضطهاد تمثل روحاً نبوياً كذاباً يقوم على الخداع والتضليل. ولكي تقاوم الكنيسة هذا النوع من السلطة، يقول الرسول يوحنا، فليس أمامها إلا "الشهادة من أجل الايمان": فبهذا الشكل يؤكد المسيحيون على ان السلطة هي فاسدة وشيطانية، وانها لا تملك اي سلطان عليهم. فعدم استخدامنا العنف تجاه الاخر وشهادتنا في سبيل المسيح هي اكبر ادانة للظلم والاستبداد.
تعلن الكنيسة ان المسيح، الذي غلب الموت، هو ملك الكون وفادي الكون بدمه. وملكوته يمتد في الزمن الحاضر ويختم بمجيئه من اجل الدينونة (1 كور 15/ 20-28). فالمسيح يكشف ويعطي السلطة البشرية معناها الحقيقي والاصيل من خلال اعتبارها سلطة في خدمة للانسان. فالسيادة هي لله.

خلاصة
1. لقد مييز يسوع تميزاً حقيقياً بين السلطة الالهية والسلطة البشرية الزمنية، الله وحده هو المطلق في حياة الانسان، واية سلطة زمنية هي مجرد واسطة مؤقتة ويجب ان تعمل بحكم طبيعتها الديناميكية المتغيرة على خدمة الانسان وتطويره وخيره العام وحفظ حريته (الدينية والاجتماعية والسياسية).
2. الاسلوب الوحيد للتغيير السياسي هو طريق المحبة والسلام واللاعنف القائم على قوة الكلمة (وليس على كلمة القوة) والحوار يجب ان يسود كل نقاشاتنا ومواقفنا والشهادة في سبيل الايمان تصبح قمة حياتنا المسيحية.
3. موقف ناقد من السلطة البشرية السياسية، يتمثل في عدم الخضوع السلبي لها، وذلك من خلال الوعي بالحقوق والواجبات المترتبة تجاه الحكم والسلطة البشرية والعمل بمسؤولية على معارضة ما يناقض ويشوه علاقة الانسان بالله والآخرين.



saadsirop@hotmail.com Opinions