( المجاملة والنقـد )
المجاملة :هـل هي فـنٌّ أنعَـم الله به عـلى البعـض لكـسب ودّ الغـير ، أم هي نفاق مبطـّن لا يُراد منه الخـير ؟ هل هي ( بالعاميّة ـ تـَلـَوُّ ﮒٌ ) لترضية المقابل ، أم هي إبتـذالٌ وضعـفٌ عـند المجامِل ؟ هل هي إعجابٌ نزيه بالصديق ، أم هي خـدعة عـنـد وقـت الضيق تـُـعَـبَّـرُعـلى الرفـيق ؟ ومَن يدري فـقـد تكون إمتحاناً ، تـُكـتـشف به شخـصية الثاني مجاناً ، وفي كل الأحـوال إنها إقـرار العاطل بما هـو باطلٌ ، ينـتـعـش لها الجاهل ، ويستهـجـنها الأبيٍّ العاقل الذي نكـُنُّ له إحـترامنا بالمقابل . وفي مقالنا هـذا سنركـّز عـلى الجـهلة القـلائل ، ونـنير زقاقهم الضيق بالمشاعـل ، عـسى أن نستـنـهض وعـيَهم الخامـد الغافل .
تسحـبني الذكـريات إلى مطلع عام 1974 في الكـوت وأنا مقـيم في فـنـدق متوسط المستوى بإجرة ثـلاثة دنانير شهرياً متـفـق عـليها سواءاً نـمتُ في سـريري أم لا ، وفي الغالب كـنـتُ أسـتـخـدمه خـمسة ليال في الأسبوع بسبب سـفـري إلى بغـداد مساء كل يوم خـميس ورجوعي صباح السبت ، ويقضي العِـرف الإجـتماعي والقانوني أنْ لا يُستـخـدم فـراشي لغـيري طالما إني أدفع أجـرته الشهرية كاملة ، ثم أنّ إقامتي كموظف في فـندق بسيط هـو فـخر لصاحـبه ودعاية له . وذات ليلة جـمعة شتائية ممطرة فـضـّلتُ الرجـوع ليلاً تحَـسُّباً لأيّ تأخـير صباحي عـن الدوام فوصلتُ الفـندق في الساعة الواحـدة والنصف بعـد منـتصف الليل (السبت) وفـتح العاملُ البابَ وإتجـهتُ إلى غرفتي ، وحـين هممتُ بالدخـول إليها تـفاجأتُ حـين رأيتُ رجلاً نائماً في سريري ، فـخـرجتُ منها لأكلـِّمَ العامل الذي أفادني بأنّ سريري مشغـول بأمر من صاحب الفـندق ، وعـرض عـليّ أن أشغل سريره الخاص كي أرتاحَ فـرفـضتُ وشكرتـُه ثم خـرجـتُ في تلك الليلة الباردة أطرق أبواب الفنادق لأجـد مكاناً أنام فـيه ليلتي حـتى حـصلتُ ، وصارَ هـو محل إقامتي للسنوات التالية حـتى إنـتقالي إلى بغداد . وبشأن المفاجأة المذكـورة ، رجعـتُ من دوامي نهار ذلك اليوم ، وقـبل أن أذهـب إلى الفـندق الأول حـيث كتبي ومستلزماتي اليومية رآني صاحـبه في الطريق وقال لي : هـيّا نجـلس في المقهى لنشرب أي شيء ، فـقـلتُ له : شكراً أنا مشغـول ، فـقال : أراك تـفهمني بأني أجاملكَ ؟ فـقلتُ : وهل هناك ما يتـطلب ذلك ؟ قال : إنّ موضوع ليلة البارحة كان خـطأ منا ونحن نعـتـذر ، قـلتُ : إنّ الذي فات مات وعـلينا بالآتي ، إنسَ الموضوع . سألتُ نفسي عـمّا يعـنيه إعـترافه بمجاملته لي قـبل إعـتـذاره ؟ ما هذه المراوغة وما هـذا الجـشع ، كـيف يتظاهـر بودّه لي وفي غـيابي يستغلني ؟ وحـين ذهـبتُ لنقل حاجاتي البسيطة طلب مني بإلحاح البقاءَ فـلم يفـلح معي فإستأذنـتُ بالخـروج ، مما أثار حـقـده عـليّ وصرتُ أسمع لاحـقاً كلامَه المسيء عـني مما أكـد لي نفـسيته ( لا الضعـيفة ) بل المريضة ، وعـلمتُ أن أمثال هؤلاء أصحاب ضمائـر ميتة ، فـتركـتـُه وأنا أتـذكـر قـول المسيح : ( دع الموتى يـدفـنون موتاهم ) ، حـقاً إنّ للمجاملة ثـلة واطئة مِن رجالها ، وغـيرُهم لا يُجـيـدونها .
إن الخـبرة الإجـتماعـية تـزوّدنا بمصفاة للوجـوه والنـفـوس وبالتالي تـُعَـلـّمُـنا أن شبـيه الشيء ينجـذب إليه مما يجـعـلنا أمام قـطبَـين : فاعلٌ خامل عـدّته فـرشاته ودهـنه ، والآخـر مفعـول به يتـخـذ مِن لمعان كسائه ذريعة لكـينونـته ، بإنشراح خادع وغـبطة فارغة يعرفها الطرفان ، والأنكى من ذلك أنّ المتـقـبّلَ يسلك ذات السلوك فـيُحاكي صاحـبَه الأول بالأصباغ نـفسها وكأنهما ثـعـلبان توأمان يدرك أحـدهما حـيلة الآخـر ، إنه مشهد رائع لدُمىً تـتـحرك أمامنا وتـتحاور بسيناريو فـيلم كارتوني أشبه بـ توم & جـيري نستمتع به وقـت الفـراغ .
كان كارل ماركس عـلى عِـلم بطبائع بعـض أفـراد المجـتمع ، خـمول وإتكالية متـفاعلة مع الحـسد والغـَيريّة التي تـقودهم إلى الغـدر المبَطـّن والخيانة البشرية ، ولم يـبق معهم من عُـملة لكـسب الرضى أو شراء الذمم سوى هـزّ ذيولهم أمام أمثالهم فـيـبتعـدون عـن الحق مقـتربـين إلى الباطل ضالـّـتهم . و(حَـﭽـي بـيناتـنا) فإن كارل ماركس هـذا مخـتبـِـر المجـتمع كان يدري بـِرَداءة هـؤلاء الذين يكـيلون المديح للأردأ منهم بُغـيَة إسـترضائهم والحـصول عـلى كلمة ( عـفـرم ) منهم عـسى أن يغـطي أحـدهم إرتجاف الآخـر في أيام البرد من شـتائهم ، لذلك كـتب رسالة مخـلصة إلى صديقه الحـميم قال فـيها : إذا مدَحـك أحـد فإعْـلـَمْ أنك عـلى خـطأ .
نحـن أمام معـضلة إجـتماعـية ثـنائية القـطبَين تـنـدرج ضمن الأمراض النفـسية ، قـطب يحمل ﭭايروساته ، وقـطب ثان يتشرنق بها ويأويها في بـيئـته ، وفي الحـقيقة إنها داءٌ ينـتـشر بينـنا وليس فـينا مَن يداوينا ، فأين الطبـيب الذي يُـشفـينا والصيدلاني الذي يعـطينا دواءنا ؟
الـنـقـد :
وما أدراك ما النـقـد ، إنه يُـبكِمُ الأفـواه ويَصُـمّ المَسامِع ، يقـضّ مضاجع (الموتى) في كل المواقع ، ينـْصُبُ الموانع فـيعرقل مسيرَ الأحـياء في الشوارع فـترتـجـف الأصابع ، ينبش السهول القاحـلة فـيحـوّلها إلى مقالع ويسبب الفـواجع ، وما أدراك ما النقـد ثانية ، إنه كارثة يومية ، يُـنغـّص حـياة الغـد قـبل الأيام الحالية ، ويرسم طرقاً مستقـيمة فـيُحـرج سالك الممرات الملتوية . إنه يُـعمي بؤبؤ عَـينيه والشبكية في وضح النهار والشمس سمتية ، فالخـطوات الأمامية يراها خـلفية ، والصروح المضيئة العالية تبـدو أمامه سراديـب مظلمة تحـتية ، والآن يا إخـوانـنا نكـتـفي بهذا القـدر من السجَـعـية ، إلى مناسبة أخرى قـوية ، تـحَـفـزونـنا بالدّرَر اليومية ، لا شـفـهية ! بل عـلى هـذه الصفحة التحـريرية .
فالنقـد فـن آخـر غايته إصلاح الفـرد قـبل الشعـوب ، يُـظهـِر العـيوب للترميم وليس لزيادة دقات القلوب ، يسعى إليه الناقـد بنيّة صافـية وإخـلاص دؤوب ، في مواقـع العـمل ومقاهي المَـلل أم في الدروب ، فلا يَهابُه إلاّ أصحاب الذنوب .
ومثـلما يقـول المخـتصّون أن أمراضاً غـريبة عـضوية ، تظهر بعـد كل حـقبة زمنية ، فإن النفـسَ الأمّارة بالسوء تبتـكـر أنماطاً من عـقـد في المسالك النفـسية ، لم تكـن في السابق موجـودة أو مرئية ، سببها فـراغ وعـجـزٌ ـ غـيرة وحـسدٌ ـ كـبتٌ ويأسٌ ـ في حـياتـنا اليومية ، عَـلِمَ بها الرب المسيح قـبل ألفي سنة حـين قال : " تـُقـفِـلون ملكـوتَ السماوات في وجـوه الناس ، فلا أنتم تـدخـلون ، ولا الذين يريدون الدخولَ تدعـونهم يدخلون " متى 23 : 13 ، إنّ تفـسير الآية الإنجـيلية القـيّمة المذكـورة شيءٌ ، وما أريد قـوله شيءٌ آخـر ، فـقـد لا يرغـب أحـدهم بزيارة الملكـوت للترحـيب بساكـنيها ولكـن ! لماذا يمنع البعـضُ غـيرَهم ( لابل يعاتبونهم ) على زيارتها لأداء التحـية إلى داخليها ؟ أبهـذا يفـتخـر المخـتار بحـكمته الوهـمية وخـيالها ؟ وإلى اللقاء مع السلام في كل آن وأوانٍ .