المسطرة
المسطرة..غريبة هذه الاداة، اول لقاء كان بيني وبينها، منذ 25 عاما تقريبا، في سوق الشورجة، حيث باعة القرطاسية، ينتظرون بزهو، وبابتسامة تعلو محياهم، العام الدراسي الجديد، فهو موسم اخر يرتاد فيه الزبائن، لينفقوا فيه الكثير من مرتباتهم على اقلام الرصاص والمساحات (ام الريحة) والمقطاطات..و(الجلادات) بانواعها (السادة) و(المنقشة)، والدفاتر (ابو المية) و(ابو الميتين) بنوعيه الاحمر والازرق. التي كان الاقبال عليها كبيرا، وبعض دفاتر ( ابو التلاثين ورقة ) لدروس النشيد والقومية. وبالطبع دفتر رسم واحد لنرسم فيه افكارنا، واحلامنا، ورغباتنا. (المكبوتة) وبقوة. التي كانت تترجمها وتحصرها المعلمة لنا في اختيارين (منظر حرب) او (صور من المعركة).
وتختلف المسطرة، بحسب اختلاف القيمة النقدية، فهناك الشفافة التي لا تحمل سوى الارقام والسنتمترات، وهي الارخص، وتكون لينة قابلة للالتواء، وهناك المزخرفة والملونة، وهناك ايضا (ام الوجهين) والتي كانت تظهر صورتين مختلفتين بحسب تغييرك لزاوية الرؤية.
وتختلف قياسات المسطرة، باختلاف انواعها فهناك مسطرة ال 30 سنتمتر وهي الاشهر، ومسطرة ال 15 سنتمتر، و20 سنتمتر، وهناك العديد من المسطرات الاخرى والتي تتخصص في هندسة المعمار وتصميم الملابس وغيرها. وهناك مسطرات اخرى كانت تستخدم في مدارس العراق لاغراض اخرى، كالضرب على يدي الطالب المشاكس.
مسطرتنا
يولد الانسان منا شفافا، ورقة بيضاء، لا غبار عليها، لا تحوي مسطرته مقاسات او ارقام.. جاهزا طريا.. ومستعدا، لتقبل الحياة والعائلة والمجتمع. بالاعراف والتقاليد والمسموح والممنوع، ولتقبل مقاسات جديدة تضاف الى مسطرة حياته، وترسم صورة مسيرته..يبدأ سنتمترها الاول من الوالدين ويثنى بالديانة والايمان، ثم الاصول والعرق والحسب والنسب، فالسلوك الحسن (وان كان على حساب الطفولة)، والتفوق الدراسي وهكذا.
وطبعا لكل سنتمتر 10 ملمترات، وهذه الاخرى تُرسم، وان ببروز اقل.. .ولا تنتهي مقاسات تلك المسطرة الا بانقطاع نفس الانسان.. وهذا ما يثير الدهشة في رغبة الانسان في الحياة وتشبثه بها...فهو يبحث دوما عن الافضل، رغبة منه في الوصول الى الغايات السامية في الخلود وتقديم الافضل، والانتصار على الفناء ونبذ وسواس الشعور بكونه نكرة ، مهما كلف الامر، فكلكامش النهريني لم تقف مسطرة حياته ونجاحه عند الملوكية والسلطة، بل ازادها (برغبته) مقاسات جديدة من نوع جديد يصعب الحصول عليها، قدم في سبيلها اغلى ما (عايش) في احدى اعمق مراحل حياته، حياة صديقه انكيدو..والرغبات المشتركة بينهما.
وتختلف مقاسات مسطرة كل فرد وكل مجتمع نتيجة عوامل عديدة، تختلف هي الاخرى ( من زمان ومكان الى اخر) ، تحددها البيئة الاجتماعية التي ينشأ فيها الانسان. من عائلة (والدين واخوة واخوات) ، اقرباء، اصدقاء، مدرسة، شارع، عمل، سلطة وقوانين، دين وايمان، معتقدات واهداف، وهذه محصلتها مجتمع محدد، له أعرافه وتقاليده وعاداته، ومعتقداته..
ثم تتوسع تلك الدائرة لتكون ضمن مجتمعات اخرى ببيئة اجتماعية مختلفة.. وهكذا دواليك.. تنفرد كل منها بمقاييس مختلفة تحدد بها، نجاح الفرد ، ومستوى مسيرته الحياتية في المجتمع، فهناك على سبيل المثال:
1. مقياس الشجاعة والكرم ..وهذا يكثر في المجتمعات البدوية والقروية
2. مقياس النفوذ والسيطرة والسلطة، وهذه تكثر في المجتمعات القلقة (ان صح التعبير) والغير مستقرة.
3. مقياس المركز المالي..وهذا يكثر في المجتمعات الرأسمالية من جهة، والفقيرة من جهة اخرى.
4. التحصيل العلمي
5. المهنة والعمل.
6. الموهبة.
والكثير الكثير من المقاسات الاخرى التي يعتمدها الانسان، على مستوى الفرد والجماعة ، في الحياة، لبلوغ الشعور بنشوى ذاك النجاح التي لا تضاهيها نشوى.
فالسياسي الكبير، يقيس نجاحه كسياسي، اعتمادا على افكار وايديولوجيات زُرِعَت وزرعتها في عقله وفكره العوامل الانفة الذكر، وهكذا الموسيقار، وكذا الرياضي، والاكاديمي، والخ..
بل انه حتى الانتحاريين الذين يزهقون ارواح الناس بجسارة على عمل الله، يعتبرون عملهم نجاحا في سبيل معتقداتهم.
ومؤسساتنا؟؟
بما ان الفرد هو اساس المجتمع، وهو النواة في المؤسسة، فأن مقياس النجاح او (المسطرة) في مؤسساتنا بانواعها ، سياسية كانت، اجتماعية، ثقافية، خدمية (وهذه شبه مفقودة)، او حتى رياضية. تعتمد او ترسم وتحدد قياساتها، مسطرة القائمين عليها. ففكرة التأسيس وتحديد الاهداف والمشاريع والخطوات، هي نتاج لفكر مؤسسيها، والعاملين عليها، وما يحمله هؤلاء من عوامل وموروثات اجتماعية بيئية.
وأحد اكبر وابرز مقاييس النجاح في مسطرة مؤسساتنا هو (الرقم) او (العدد)..فبه تبدا مقاسات مسطرة بعض المؤسسات، وعنده تقف، وبه تنتهي ايضا..
والرقم هنا نقصد به، عدد المشاركين في النشاطات التي تقدمها تلك المؤسسة، فهو (لدى البعض) مقياس لنجاح تلك النشاطات، فكلما كان العدد اكبر كلما كان النجاح اسمى. دون الاخذ بعين الاعتبار ماهية الفكرة المقدمة لذلك العدد (ان كانت هناك اي منها)..
ولما لهذه المسألة من اهمية في النشاطات التي تقيمها (بعض) مؤسساتنا، وإعتبارها غاية لدى (المسؤولين) فيها (ربما)، فانها خلطت الحابل بالنابل، فالعدد مطلوب (في بعض النشاطات الترفيهية كالسفرات) ولكن ان نطبق هذه (الغاية) على جميع نشاطاتنا، كالاحتفالات القومية، والاحتفالات والتذكارات الدينية (الشهرا او الشيرا)، والمحاضرات، والندوات، ودورات التثقيف، وحتى المؤتمرات !!! فهذا شئ غريب (علي على الاقل). لا بل اننا اصبحنا نعتمد العدد مقياس لنجاح المؤسسة بكاملها، ومحور لنقد بقية المؤسسات ايضا !!!
يؤدي تقديس العدد هذا، واعتماده مقياسا لنجاح (بعض) المؤسسات ونشاطاتها، الى سير مؤسسات اخرى في ذات الطريق، تدخلهم معا في منافسات عددية، تكون اغلب الاحيان على حساب نوعية النشاطات ورغبة الاعضاء (ربما)، والتي (المنافسات) قد تنتهي بجدالات وخصامات يكون (جمع) العدد و(تقسيمه) سببا فيها.
ان اعتماد العدد مفتاحا ومقياسا للنجاح، يؤثر بشكل سلبي على ما تقدمه تلك المؤسسات لاعضاءها.. اذ انه يؤدي الى الشحة في تقديم المادة الفكرية والمغذية للروح والعقل البشري، والتي تزرع لدى بعض الافراد بذرة جيدة، تنمو فتنفع المجتمع، وهكذا فاننا لم نترك اثرا للقيمة الفكرية بيننا، او حتى اي تقدير لافكارنا وموروثنا ومبادئنا. وترانا اهملنا ما يعانيه ابناءنا، من مشاكل، نتغاضى عنها، هربا ربما..بنشاطات تعتمد الرقص والغناء، نتناسى بها ما قد يوخز ضميرنا تجاههم..
مقياس جديد..
كأفراد او مؤسسات، لنا ان (نغامر) ( بنجاحنا )، بأن نغير بعض الارقام البارزة في مساطرنا، المثقلة، لنعتمدها اساسا لرغباتنا ونجاحنا ومسيرتنا، بارقام ابسط منها واجمل، واكثر تأثيرا..مقاييس ليست كتلك التقليدية، مقاييس الخدمة.. والتضحية، مقياس التحمل والغفران، ومقياس الاخر..
فلنقيس مستوى نجاح نشاطاتنا، ومستوى فاعليتنا في المجتمع كمؤسسة، بما نبذله في خدمة المجتمع، وليس خدمة انفسنا.. بما يطلبه، يتمناه، ويرغبه..( الاخر)، وليس برغباتنا واهدافنا (نحن).. وما دمنا نتحدث عن القياسات والمسافات والسنتمترات، فلنقيس مستوى نجاحنا بطول الجسر الذي بنيناه بيننا وبين الاخر، وليس بحجم الهوة التي خلقناها بيننا وبينه..
مسطرتنا ( قد) تكون بحاجة الى (غسل) و (تنظيف) لازالة ما علق بقياساتها من شوائب الهجرة،..بانواعها المتعددة.. الفكرية والنفسية والبشرية.. وغسلها وتعقيمها بحاجة لمساحيق من نوع خاص، مساحيق تجعل منها مسطرة (ناصعة البياض)..تقف بزهو وطهارة بين زميلاتها..مساحيق موجودة بكثرة وبإنتظار من يستخدمها..مساحيق كلما استخدمناها..كلما اعطتنا بياضا ناصعا، يبهر الاخرين..هي مساحيق الكلمة..التي تخرج من فم الله.. فنحدد بها لانفسنا افرادا ومؤسسات، مقاييسا جديدة، بارزة..بها نتمكن من (العطاء)، وبها نشبع الجمع مهما كان كثيرا..
sizarhozaya@hotmail.com