الهاتف الجوّال و فرص الاستثمار
يبدو أن الفوائد الاقتصادية لشبكات الهاتف الجوال لا تقل قيمة عن تلك الاجتماعية فبحسب بيانات البنك الدولي فإن عشرة هواتف إضافية لكل مائة شخص في البلدان النامية تزيد نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة ( 0.8 ) نقطة مئوية.و يكون ذلك عن طريق الفرص الاقتصادية التي توفرها هذه الشبكات للدول و الفرص التي تفتحها أمام مواطنيها إضافة إلى الوعي الصحي و التعليمي الذي يمكن أن تساهم في زيادته.
ففي دول نامية كأوغندة مثلا ً تمكن البعض من الاستفادة من الهاتف الجوّال في تأسيس مشاريع ساعدت في تمويل مشاريع أخرى لاحقا ً. فالسيدة التي كانت في السابق تؤجّر جهازها الجوّال لمساعدة أهل القرى على الاتصال بأهل القرى البعيدة مقابل مبالغ معينة تمكنت فيما بعد من إنشاء مشاريع أخرى و سداد ديونها .
أما الفلاحون فيحصلون على نصائح تخص مزروعاتهم و كيفية العناية بها. و يمكن يضا ً إرسال رسائل نصية يطرح من خلالها المزارعون أسئلة حول كيفية زراعتهم لمحصول معين أو حل مشكلة ما تبرز خلال عملهم.
كما يتمكن آخرون من رصد أسعار بعض السلع و المقارنة فيما بينها ليتمكنوا من تحديد السعر المناسب لبضائعهم. و تتوفر هذه الخدمة في أوغندة حيث تقوم مؤسسة Garmeenبالتعاون مع شركة الاتصال MTN و شركة Google .
أما في الهند فقد تمكنت شركات الهاتف الجوّال و بالتعاون مع شركة Reuters Market Lite من مساعدة المزارعين في التعرف على التوقعات الجوية الخاصة بحالة الطقس و الأنواء و أسعار المحاصيل من أربع إلى خمس مرات يوميا ً و ذلك مقابل مبلغ 4.20 دولارا ً كل ثلاثة أشهر.
و في الصين نجد هذه الخدمات أيضا ً متاحة فقد تمكنت شركة الاتصال الصينية بالتعاون مع وزارة الزراعة من إطلاق خدمة تسمى Nong Xin Tonh و هي توفر معلومات للمزارعين عن الطقس و الأخبار و كذلك الأسعار و هذا كله مقابل 0.30 دولارا ً شهريا ً . و قد أسست لذلك موقعا ً إلكترونيا ً يتم من خلاله إرسال 13 مليون رسالة نصية في اليوم و قد بلغ عدد المشتركين فيه قرابة 40 مليون مشترك.
أما في غانا فقد تمكنت شركة TradeNetمن جمع كل من المزارعين البائعين مع نظرائهم ممن يرغبون في الشراء .
و تقوم شركات الاتصال في بلدان أخرى بتقديم بعض الخدمات الصحية لمستخدمي شبكاتها و ذلك من خلال إرسال الرسائل النصية الخاصة بالوقاية من بعض الأمراض كالإيدز و غيره من الأمراض و سبل مكافحتها. في حين تستخدم بعض أجهزة الجوّال و بمساعدة تطبيقات خاصة من التقاط صور شعاعية لبعض حالات الكسور و إرسالها عبر( MMS ) للمشافي و الحصول على جواب سريع من قبل الأطباء المختصين حول أفضل الطرق لعلاجها مما يساهم في علاج سريع لبعض الحالات المستعصية و التي تحتاج إلى قرارات سريعة من دون الحاجة إلى نقل المرضى و توفير الجهد و المال.
كما تستخدم الهواتف الجوّالة أيضا ً في حملات التوعية الشعبية من خطر المخدرات مثلا ً و في تذكير المواطنين بمواعيد التلقيح الخاصة بأطفالهم حديثي الولادة و كيفية العناية بالنظافة. و هو أمر بدا غاية في الأهمية خاصة بالنسبة لمرض إنفلونزا الخنازير الذي انتشر في معظم بلدان العالم . و قد رأينا هذه الحالة في عدد من الدول العربية التي عانى فيها مواطنوها من انتشار سريع لمرض إنفلونزا الخنازير.
فالجوّال إذا ً لم يعد وسيلة للاتصال فقط و إنما عالم مصغر و متطور يمكننا أن نستخدمه لفائدتنا و بدء مشاريع كثيرة و متعددة و هو ذاته الجهاز الذي يسيء البعض استخدامه. إلا أنه في العديد من الدول النامية يصبح ملاذا ً لهؤلاء الذين حرموا من الاتصال مع المدن و البلدان الأخرى بفعل ظروف طبيعية أو سياسية و اقتصادية.
و يبدو أن أجهزة الموبايل ساهمت إلى حد كبير في تطوير العديد من الشعوب كما أنها مكنت من الوصول إلى بعض المواقع على الشبكة العنكبوتية (الانترنت) . فالشباب في العديد من الدول النامية تجد فيها بديلا ً عن أجهزة الكومبيوتر التي غالبا ً ما تكون مرتفعة السعر و تتطلب تجهيزات عدة. الأمر الذي دفع العديد من الشركات التجارية إلى بث إعلاناتها عن طريق هذه الهواتف كما أن عددا ً من وسائل الإعلام بدأت باستخدام البث عن طريق هذه الأجهزة و هذا بالطبع يوفر انفتاحا ً ثقافيا ً كبيرا ً بالنسبة لهذه الشعوب و يساهم في زيادة خبراتها و تطويرها إن استخدمتها بالأسلوب الصحيح.
الموبايل في العراق:
عندما سُئِل أحد الأطفال العراقيين عقب سقوط النظام البائد (ماذا تريد من العراق الجديد) كانت إجابته و بكل براءة الأطفال (أريد موبايل). و يبدو أن هذه الأمنية انعكست بشكل ملحوظ في الزيادة المتسارعة في شركات الهاتف العراقي و الأرباح الهائلة التي تحققها . فخلال خمس سنوات فقط وصل عدد المشتركين في شبكات الهاتف الجوّال في العراق إلى عشرين مليون مشتركا ً أي أن 67% من أبناء الشعب العراقي يمتلكون أجهزة الهاتف الجوال. و هو الأمر الذي دعى الحكومة العراقية إلى إصدار موافقة مبدئية لإصدار رخصة رابعة للهاتف الجوّال تكون عن طريق تأسيس شركة مساهمة مختلطة وطنية بقيمة ( 1.25 بليون دولار).
و يبدو هذا الرقم على الرغم من قيمته العالية متواضعا ً بالنسبة لسوق الهواتف الجوّالة في العالم، خاصة إذا ما عرفنا أن أكثر من أربعة بلايين هاتف جوّال (موبايل) تستخدم حاليا ًفي جميع أنحاء العالم و يستخدم ثلاثة أرباع هذا الرقم من قبل مستخدمين في الدول النامية.
و من أهم الأسباب وراء هذا الانتشار الكبير و الواسع لسوق الهاتف الجوّال في العراق هو محدودية شبكات الهاتف الارضية التي لا تتجاوز الخمسة بالمئة من سوق الهاتف في العراق و النقص الكبير في البيئة التحتية للألياف الضوئية محليا ً.
و يمتلك البعض أكثر من جهاز جوّال واحد يستخدم كل واحد منها في جزء من أجزاء هذا البلد الواسع الذي تبدو شبكات الهاتف عاجزة عن تغطية جميع أرجائه المترامية.
كما تعاني شبكات الهاتف الجوال في العراق من عدة مشاكل كارتفاع أسعار الخدمة المقدمة وأساليب التلاعب بقيمة الرصيد بطرق شتى مثل فقدان الرصيد وإنقطاع المكالمة السريع ولعدة مرات وإرسال نفس الرسالة لعدة مرات مقابل قطع الرصيد وغيرها. و لعل هذا ما دعى الحكومة العراقية إلى فرض غرامات على شركات الهاتف وصلت إلى (20 مليون دولار) لتحسين خدماتها المقدمة. لكن شركات الهاتف تعزو هذا العجز التقني الذي تعاني منه في العراق إلى أسباب عدة منها: اضطراب الوضع الأمني و ما يلقيه من ظلال ثقيلة على حرية هذه الشركات في التوسع و القيود القانونية المفروضة عليها إضافة إلى رداءة البنية التحتية و طبيعة المناخ الصحراوي في العراق و العواصف الرملية المتكررة التي تعيق بشكل أو بآخر تطوير هذه الشبكات.
و بالرغم من رداءة شبكات الهاتف في كثير من الأحيان و تنافسها المحموم للسيطرة على السوق العراقية تبقى هذه التكنولوجيا أمرا ً اساسيا ً في حياة معظم العراقيين. فقد أصبح الموبايل وسيلة تعزز من الديموقراطية في بلد لم يعرف معنى التواصل مع العالم الخارجي طيلة 25 عاما ً أو أكثر ، حيث خضع كل شيء للرقابة و منع أي تخاطب مع الخارج إلا بعد مروره على أجهزة المخابرات و الأمن آنذاك.
و يجد العراقييون في الجوال وسيلة لاستلام الرسائل النصية من الخارج و إرسالها . و هو أمر يهوّن عليهم آلام التشرد و الغربة التي يعيشونها في داخل الوطن أو خارجه. في حين يجد البعض الآخر في الجوال وسيلة للتنفيس عن أنفسهم من خلال تحميل بعض المقاطع الكوميدية الساخرة في حين و الناقدة لأوضاعهم المعيشية الصعبة في أحيان أخرى. و قد بات من السهل على أي إنسان التعرف على وضع المجتمع العراقي من خلال قراءة هذه الرسائل النصية التي تأثّرت بشكل واضح بالأجواء العامة في البلاد.فالزوج يقول لزوجته في إحدى الرسائل: (اهديك عبوة حنان وهاونات محبة وسيارة مفخخة بالاشواق ومئة قبلة موقوتة) و في مكان آخر تسخر إحدى الرسائل (المسيجات) من انقطاع الكهرباء فتقول: (تم بعونه تعالى افتتاح شركة هفّ بيدك محد ايفيدك للمكيفات اليدوية).
و قد استخدم الموبايل بكثافة في العملية الانتخابية التي جرت مؤخرا ً في العراق و ذلك من خلال الرسائل الدعائية لبعض المرشحين و التي روجت لهؤلاء و أرقام كياناتهم. إذا فالجوال بات وسيلة رائدة في التعبير عن الرأي و الحصول على الرأي الآخر في مجتمع لم يعرف إلّا رأيا ً واحدا ً و وجهة نظر واحدة طيلة عقود من الزمن.
إضافة إلى ما سبق يستخدم الهاتف الجوّال للقيام بتحويلات مالية تجري بين الأفراد بشكل سريع و سلس و ذلك من خلال تحويل أرقام الرصيد عبر رسائل و بيعه ثانية في مكان آخر و استلام هذه القيمة . و قد لقي هذا الأمر انتقادات كبيرة من جهات مصرفية و حكومية نادت بأن توضع ضوابط قانونية لهذه العملية التي تتم دون رقابة من قبل الدولة.
و من الطبيعي أن يكون لاستخدامات الجوّال في بلد كالعراق عانى و ما يزال من العنف نصيبا ً من الإرهاب. فالجماعات المسلحة تجد فيه مجالا ً واسعا ً لإرسال رسائل التهديد و تسهيل عمليات الخطف و القتل و السرقة و طلب الفدية على شكل أرصدة هاتفية بمبالغ عالية.
يقول أحدهم ساخرا ً من تدهور الحالة الأمنية و ارتفاع أعداد ضحايا التفجيرات في فترة سابقةً بأن أكثر ما كنا نستخدم الجوّال في العراق كان لمسح الأرقام من الهاتف. مشيرا ً بذلك إلى فقدان الأقارب و الأصدقاء في العمليات الإرهابية و بذلك يتوجب على العديد من مستخدمي هذه الهواتف مسح أرقام أحبائهم من أجهزتهم على الرغم من بقائها في قلوبهم و ذاكراتهم.
و كذلك هو الأمر بالنسبة لما بات يعرف بظاهرة الفساد المالي و الإداري المستشري في الكثير من مؤسسات الدولة و دوائرها. فقد تمكن بعض المرتشين و الفاسدين في بعض الدوائر الحكومية و العامة من تطوير طريقة تلقيهم للرشى مقابل تسهيل المعاملات و ذلك مقابل استلام رصيد هاتفي بمبلغ معين على هواتفهم.
أما في سوريا فقد قام برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة بتوزيع المساعدات على اللاجئين العراقيين عن طريق رسائل الجوّال النصية حيث يتم إرسال رمز معين للاجئ عبر رسالة نصية بالهاتف الجوّال ، وهي عبارة عن رقم رصيد معين مخصص لشراء حصة من المساعدة الغذائية التي تقدمها المنظمة، وبموجب الرقم أو الرمز يتمكن المستفيد من الحصول على احتياجاته من المواد الغذائية من مراكز معينة تابعة للمؤسسة العامة للخزن والتسويق التابعة لوزارة التجارة والاقتصاد السورية.
و بهذه الطريقة لن يحصل اللاجىء العراقي على مواد هو ليس بحاجة إليها، كما أنه يحق له شراء ما يحتاجه فقط ، سواء أكان ذلك مرة واحدة أو على عدة مرات إلى أن ينتهي الرصيد، وبعد كل عملية شراء ترسل إليه رسالة نصية تبلغه بالرصيد المتبقي.
إذا ً فقد تعددت استخدامات الهاتف الجوّال في العراق كأي بلد من بلاد العالم و ما يزال المجال مفتوحا ً أمام تجارب و استخدامات أخرى تكون إيجابية و بمنافع أكبر. فهل سوف يستفيد العراقييون من هذه الوسيلة التقنية في أمور تجلب لهم الرخاء و المستقبل المزهر أم أن قدرهم يبقى في الاطمئنان على ذويهم و أقاربهم من خلال الجوّال في أعقاب كل انفجار يحدث هنا و هناك ؟