بحث عن نسبية المفهوم القومي في الكنائس الابرشية الكاثوليكية، الكنيسة الكلدانية أنموذجا
nfhermiz@yahoo.comتقديم
يجدر ابتداءًا توضيح العنوان الذي قد يبدو مبهمًا، وهو: ان الكنائس الابرشية الكاثوليكية، وذات الخصوصية الجغرافية واللغوية وذات هيراركية بطريركية، او سينودس اسقفي محدد وثقافيا ولغويا، هذه الكنائس، تبين أنه من الطبيعي ضمن خطها الكاثوليكي، ان تتوجه نحو عدّ المفهوم القومي، حالة نسبية تصنف في الدرجة الثانية أو حتى الثانوية من أولياتها.
يتم في هذه الصفحات تسليط الضوء على موضوع المفهوم القومي لشعبنا السورايا، لكون جانب منه ينتمي الى الكنيسة الكلدانية، التي أعلنت موقفا قوميا محددا لعموم أبنائها. ولما سبق لي وأن كتبت في موقع عنكاوا وصحف اخرى، في عناوين تتسم بالخصوصية الاثنية للشعب السورايا من أبناء كنائسنا المشرقية الكاثوليك وغير الكاثوليك، وما يشترك لديهم من خصوصية قومية، فقد اخترت اليوم ان اكتب في هذا الشأن، كشخص كتب عنه من قبل، ليرسم اليوم ما يتهيأ له من ملامح في الأفق، على نطاق الشعب السورايا، كمؤمن مسيحي كاثوليكي وككاهن كلداني، ويجدر من هذا المنطلق أن يحدد اليوم موقفه في هذه الايام، حيث يتهيأ للبعض انه استجد جديد في الشأن القومي للشعب السورايا.
وما دام الحديث عن شعب يتفق الكثيرون على أنه يعرف لدى الغالبية بمفردة متداولة من السورث، اللهجة الدارجة للارامية، هذه المفردة هي الشعب السورايا، لا بد، إذن من تسليط الضوء ايضا عليها، فمن هو الشعب السورايا؟
انه الشعب الذي يتكلم السورث بمختلف لهجاتها، ويؤمن بالمسيح، ضمن كنائس وطقوس وانحدارات ثقافية تراثية متميزة. فهناك سورايي (جمع سورايا) في العراق وإيران وتركيا ولبنان وسوريا ومصر تجمعهم هذه العناصر. وكما ينبغي الاهتمام بالمشترك، إلا أن التميز له ايضا ما يبرره، وليست اللغة وحدها هي التي تجمع عرقيا شعوبا واثنيات تتكلمها. وسنعطي مثلا مقاربا في أوربا:
من الاوربيين نميز المسيحيين الكاثوليك او غيرهم، ممن يتكلمون الفرنسية ولكنهم سويسريون وفرنسيون وبلجيكيون. وقد يجتمعون على شرائح متباينة غير مرتبطة ببعضها، في مؤتمر مسيحي، وآخر كاثوليكي، او في لقاء سياسي أو اجتماعي أوربي، او في لمة ثقافية لغوية. لكن الكنيسة في كل من هذه البلدان تتبنى الثقافة والخصوصية واللغة والتاريخ المشترك لأبنائها، ومع أنها بهذا التبني لا تفرض عليهم كانتونات مستقلة ضمن ثقافة وجغرافية المكان الذي تنطلق منه تلك الكنيسة، إلا أنها تترك لهم شأن التحرك الاجتماعي الثقافي اللغوي السياسي وما يرونه من تحالف ستراتيجي، بدون ان تكون بينهم وبين الكنيسة، في هذه المجالات أي جار أو مجرور.
إجماع متفرد كلدانيا ومفهوم مسكونيا
اعلن السينودس الاسقفي الكلداني، الخصوصية الكلدانية القومية لابناء الكنيسة الكلدانية، داعيا الى اعتمادها في الدولة كما في الدين. ولما كان الاعلان على مستوى مجمع اسقفي، أي غير فئوي أو انفرادي، فلا يمكن والحال هذا أن يندرج الامر في اطار الاجتهادات الشخصية. فأن يكون الامر بشبه اجماع مصف الاساقفة، وفيهم غير واحد يشار اليه بالبنان ويحسب له الحساب تاريخيا وشخصيا وكهنوتيا، فهذا ما يجعلني كإنسان مؤمن بانتمائي المسيحي الى الكنيسة الكاثوليكية المبشرة ببشرى الانجيل الى بقاع الارض، أن افتش بإيمان عن تفسير ذلك والتعامل معه بواقعية عقلانية وبطاعة واعية، وكشخص مؤمن بخط الكنيسة المبشرة الجامعة.
مع استرجاع للاحداث، لعله يتبين للكثيرين، ان الرسالة الموجهة الى حاكم الاحتلال بول برايمر، عدت في حينها فئوية بل شبه شخصية، بشأن حقوق الكلدان، في حقبة ما بعد 2003، لكننا اليوم يمكننا ان نتبين انها لم تكن رسالة ارتجالية ناتجة عن ضغط مرحلي و"احتقان سياسي"، حسب العبارة الرائجة في هذه الايام. فقد جاء الاعلان المجمعي لآباء الكنيسة الكلدانية، في هذه الايام ايضا منسجما مع تلك الرسالة المدوية التي كنت حينذاك ممن تلقوا خبرها بتبلعم وصمت.
إن الاعلان عن القومية الكلدانية لأبناء الكنيسة الكلدانية، إذ حظي في مصاف الاساقفة الكلدان من الجهات الاربعة للعراق والمسكونة، باجماع غير ذي بأس، ان لم يكن شبه مطلق، فإن هذا يمكن أن ينظر إليه ضمن التوجه المسيحي لرسالة الانجيل الخلاصية، المبشرة لكل الامم والشعوب في عنصرة متجددة، يفهم بها كنه الرسالة المسيحية كل واحد بحسب لغته وثقافته.
من هذا المنطلق، يمكن النظر الى التميز القومي الذي أرادته الكنيسة الكلدانية، وباتجاه محورين، القومي والمسكوني، ويلحق بهما المحور العلماني:
1- المحور القومي
لا يدخل الامر، بنحو تلقائي وحتمي، في محور تهويل يدعو الى التطير من حالة سلبية. فعندما يعلن أساقفة الكنيسة الكلدانية أن قومية ابناء كنيستهم هي الكلدانية، فهذا أمر لا يدعو الى التطير وإلى عدّ الامر موقفا تعصبيا اقصائيا. ذلك إن المفهوم القومي لدى الكنائس الابرشية الكاثوليكية، لا يتخذ منحا شوفينيا راديكاليا. إنما يحتاج الأمر إلى استقصاء الدواعي والمسببات إلى جانب طبيعة التنظيرات المؤدية إلى هذا الإعلان.
توجهات لا يمكن ان تكون إقصائية أو حصرية
إن توجهات الكنيسة الكلدانية، وبالتحديد فيما يتعلق باعلان الخصوصية القومية لابنائها، لا تلغي توجه غير الكلدان من أبنائها، الذين يتصلون في تراثهم وتاريخهم بالانحدار العربي أو الكردي أو الاشوري وغير ذلك. كما ان اعلان الكلدانية كسمة قومية لمجمل أبناء الكنيسة الكلدانية، لا يلغي مجال التحرك ضمن الحيز السوسيولوجي الجغرافي أو السياسي لجانب آخر من ابنائها ضمن خط القومية الاشورية، كحالة معروفة لدى قسم منهم، مثلا في ايران وجوانب في شمال العراق، او ابرشيات امريكا الكلدانية. كما لا يلغي الامر في الوقت عينه، تمتع قسم آخر من ابناء الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية، بخصوصية ثقافتهم العربية أو الكردية او سواها، حتى وان كان قسم كبير منهم ينادي بالخصوصية الكلدانية.
بحثا عن الاسباب
ما هي إذن الاسباب التي تستشف من هذا الاعلان؟ الجواب لن يكون مختصرا، وهو ضمن استقصاء شخصي بحت، وبدون أن يكون لسان حال، يدخل ضمن تنظيرات مرتبطة بجملة عوامل منها:
- الخصوصية الثقافية والراعوية وحتى الطقسية المتراكمة منذ عودة أبناء الكنيسة الكلدانية، كقسم من أبناء كنيسة المشرق، الى حضن الكنيسة الام الكنيسة الجامعة، سواء في القرن السادس عشر أو بعده.
- الاستناد الى طروحات عدد من الباحثين في الخصوصية القومية لابناء الكنيسة الكلدانية الكاثوليكة أو المنادين بها، وهؤلاء يمكن تصنيفهم كالآتي:
+ الذين تأرجحوا في أبحاثم وطروحاتهم واعلاناتهم، لمراحلة متباينة، بين الخصوصية الاشورية، ثم الكلدو اشورية قبل ان يستقروا باقتناع باد في الخصوصية الكلدانية.
+ الذين كانوا لمدة لا يرون الربط بين الخصوصية الاثنية والرسالة المسيحية ويختارون ما يناسبهم في الوسط والظرف السياسي، فباتوا ينضمون الى موجة السنوات الاخيرة، في اعتناق خط قومي محدد واستقر جانب منهم على الخط الكلداني.
+ الذين توجهوا، منذ السابق، وطبقا لحرية الوسط الذي عاشوا فيه، نحو الخصوصية الكلدانية، بمعزل عن أي فرضيات علمية اثنية ومناهضين لأي مسار وحدوي مسكوني مسيحي إذا كان يندمج مع خصوصية غير كلدانية. ودرجوا منذ عشرات السنين على تثبيت هذا الخط، بمختلف الطرق، في تعصب واضح يقارعون فيه الصاع صاعين او اكثر، تجاه انواع التعصب المماثل، ولا يهمهم أن يستندوا حصرا على حالات ازدياد النفوذ المالي والاجتماعي والكتلوي سواء في الجماعة الكلدانية او الاكليروس.
الكنيسة الكلدانية على غرار عدد من الكنائس الابرشية الكاثوليكية الاخرى
من المعروف أن المفهوم القومي لدى الكنائس الابرشية الكاثوليكية، يأتي أصلا في المرتبة الثانية من الاولوية بعد الحياة الراعوية الروحية الانجيلية للرسالة المسيحية الشاملة. وثمة امثلة عديدة سيأتي التطرق بشأنها في هذا المضمار. فمع الملاحظة الدقيقة، نجد بنحو طبيعي مفهوم كاثوليكيا، بقاء هذه السمة: وهي التعامل النسبي شبه الثانوي تجاه الخصوصية الاثنية اللغوية التراثية القومية، فهذه السمة ليست ملازمة لخصوصية الكنيسة الكلدانية. بل نجدها طبيعية في ذات الاتجاه، في الكنائس الابرشية الكاثوليكية، على سبيل المثال في الكنيسة المارونية (الكاثوليكية) مع اضطراد استقلال ابنائها عن الخصوصية العروبية لصالح الخصوصية اللبنانية، او الاقباط الكاثوليك او كنائس الارمن الكاثوليك. ولدى الأرمن الكاثوليك يمكننا ان نلاحظ ذلك حتى من الاسماء التي يحملها أبناء كنيسة الارمن الكاثوليك، كالعربية مثل: جمال، رمزي... او الاسماء العائلية العربية المنتهية في مفردة التسميات الارمنية بـحروف (يان) مثل: قصابيان، طباخيان... على حساب الاسماء الارمنية العريقة، وكذلك تبني اللغة المحلية السائدة على اللغة الأرمنية.
التعامل بواقعية مع إشكالية اللغة
بلسان عربي فصيح، وبخاطب جلي مبين جاء البيان المجمعي أننا كلدان. فكان الاعلان بهذه الطريقة والفصاحة، على نهج الانفتاح الثقافي على الحضارات الذي نهجته الكنيسة الجامعة لما بعد المجمع الفاتيكاني الثاني، في التعامل مع الوسط المحيط، بلغة مفهومة، خصوصا وان لغتنا الام الارامية الفصحى، لم يعد لها جمهور واسع متفهم بالكيفية عينها في الاماكن المتباينة. وقد حدث مثل هذا مع تحرر الجزائر، في مطلع الستينات، وكانت اللغة السائدة الفرنسية لغة المستعمر، فجاءت تصريحات بن بيلا الرئيس الجزائري الشاب آنذاك قائلا : (Nous les Arabs) مؤكدا بلغة فولتير على الانتماء العروبي لشعب الجزائر.
وبخصوص الكنيسة الكلدانية، من الملاحظ، وبرغم الجهد الذي بذل في المراكز ذات النفوذ خارج كرسي البطريركية إن صح التعبير، بقيت سمة التعامل الضعيف مع اللغة الارامية، هي السائدة بالنحو المعتبر طبيعيا لدى أي كنيسة ابرشية كاثوليكية. وكم جرت محاولات تعليم اللغة ولكن بدون جدوى تذكر، باستثناء بعض النجاحات في القراءة الصحيحة لبعض الخورنات، مثل خورنة الصعود في بغداد، كمثل لتبنى اللغة الطقسية في وسط ذي لغة آخرى سائدة. ونرى بنحو عام ان المهتمين في الخدمة الليتروجية للقداس، والتراتيل بالسورث قلما يبذلون الجهد لتعلم ذلك باللغة الارامية وحروفها، فيلجأون الى القراءة الكرشونية، بالحروف العربية لكلمات السورث.
يقودنا الحال إذن ملاحظة التعامل المنطقي والواقعي مع اللغة في الكنائس الكاثوليكية وفي الكنيسة الكلدانية ما درج على تسميته باللغة الام التي لم نتفق بعد على اسمها. إنها لغة جميلة حقا ومبعث على الاعتزاز، خصوصا وان ديمومتها محفوظة في الكتاب المقدس والادبيات الليتورجية مما لا يغنى عن موقعها العلمي والتاريخي لدى الجامعات العالمية. أجل، هذه اللغة الجميلة، تكلم بها المسيح في مرحلة سادت خلالها في المنطقة الثقافة الارامية، ولم تكن الارامية لغته الام غير أنه، تبارك اسمه، تبناها لانها كانت اللغة المفهومة لدى الغالبية. لكن، في كنائسنا الابرشية المتحدة بروما، والمنفتحة على ثقافة المحيط للتفاعل معها في نقل بشرى الانجيل، لم يعد ضمن محاذير (التابوه) عدم تعليم ابنائنا لغة لا يتداولونها، أو فرض تعليم شمامستنا لغة طقسية لم يعد الناس يفهمونها. وقد بقيت لمراحل متعددة مقادير طقوسنا واحتفالاتنا الليتورجية رهنا ببعض الشمامسة لا يعرفون سوى قراءة اللغة آرامية لا يحسنون كتابتها ولا يفهمون ما يقرأون، وكل امتيازهم انهم يحسنون التغريد بها، ولكن هذا لم يعد كافيا، اذا اقتضى التعامل مع طقوسنا على ذلك فحسب، بعيدا عن روحية مشاركة الشعب بتفاعل وتفهم.
ومع ذلك، فإن حدث بصحوة ما، ان يقوم لدينا شمامسة يقرأون ويكتبون ويتداولون بآرامية منتشرة في البيوت والتلفاز والراديو، فخيرا سيكون، لكن ذلك لن يكون، على ما أعتقد، مطلبا ايمانيا عقائديا للكنيسة الجامعة ولتوجهنا الكلداني الكاثوليكي.
الكنائس الابرشية الكاثوليكية غير معنية عقائديا بتطوير ارثها الثقافي واللغوي
يمكننا أن نستخلص ايضا، أننا إذا عولنا فقط على الكنائس الكاثوليكية الابرشية، للحفاظ على ارثنا القومي، فإن ذلك لا يكفي، بل ان محدودية التوجه القومي لدى الكنائس الابرشية الكاثوليكية، من شأنه ان يؤدي الى فقدان الخصوصية الاثنية شئنا أم أبينا، كلما انصهرنا مع المجتمعات الاكبر، يجمعنا معها الخط الكاثوليكي كما يجمعنا معها تبنينا للغتها وثقافتها.
وعليه فإن الارث الثقافي الاثني، إذا أريد المحافظة عليه، فإن المؤسسات القومية والثقافية والفنية العلمانية بما يمكن ان تمتلكه من امكانات وتقنيات وقدرات استقطاب للشعب هي التي من شأنها أن تنمي هذا الارث. وعندما يكون الامر كذلك، فإن الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية يمكنها ان تتبنى ثقافة أبنائها، باستقلالية وبطريقتها الخاصة في التعامل معها. وهذا هو الحال مع سائر الكنائس الابرشية الكاثوليكية.
الوضع المتململ للكنائس القومية غير الكاثوليكية
بعد الذي سبق ذكره عن الكنائس الابرشية الكاثوليكية، لنا أن نعرج الآن على الكنائس القومية غير الكاثوليكية. فإن الوسائل والتقنيات المتطورة إياها جعلت المؤسسات العلمانية في موقع المنافسة على ريادتها للثقافة القومية، سياسيا أدبيا وفنيا، وإذا بلغت المؤسسات العلمانية شأوا مناسبا، من الناحية السياسية أو الثقافية، تبقى الكنيسة مرتكنة كما يفترض الى موقعها الروحي الديني، ولا ينتظر منها اكثر من ذلك. واذا تململت الكنيسة في مجال التنافس، فإنه يطلب منها بوضوح الركون الى اختصاصها. وهذا ما حدث في أرمينيا، عقب اعلان الدولة الارمنية.
وهذا يمكننا منذ الان مشاهدته بأم اعيننا على الشاشات التلفازية الاشورية خارج البلاد، التي بدأ يتناقص فيها حجم الظهور الديني، او يلجأ إليه ليخدم غرض التبعية للجانب القومي.
نستخلص من جملة العناصر المذكورة، ما يدفعنا إلى الاعتقاد أنه عندما اجتمعت امام الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية الكثير من العوامل ووزنتها امام الرؤى الراعوية، وما تراه من أمور تفرغ أبناءها من التوجه الروحي وتعرضهم الى التشتت باتجاهات يختلط فيها الروحي بالسياسي، بل يطغي عليها السياسي على الروحي، فنرى أن ذلك وغيره، قد يكون استحق اجماع الاساقفة لاعلان الخصوصية الكلدانية، لا سيما ان هذه الخصوصية من المفترض ان تكون في المرحلة الثانية من الاهمية، طبقا للرسالة المعروفة عن الكنائس الكاثوليكية. أي أن تكون التقت لدى أصحاب السيادة، الحالة القومية الكلدانية للمتمسكين بها بعنفوان، مع الحالة الكاثوليكية الشمولية، لمن يولون القومية درجتها الثانية أو الثانوية، فقبلوا ذلك، كما نعتقد، للمزيد من الاعتبارات من المذكورة في هذه الصفحات، التي شجعت خيارهم.
قرار مبدئي حاسم ولكنه لا يلغي المرونة
من ناحية أخرى، قلما يحتمل أن تعلن الكنيسة الكلدانية، في يوم ما خصوصية قومية أخرى، بشكل آخر أو بشكل معاكس تحديدا، عندما تتوفر ظروف ضاغطة أخرى. واذا حدث فسيكون الحكم النهائي بزوال الخط القومي في الكنيسة الكلدانية عن بكرة أبيه. إلا أن هذا الافتراض، لا يمكن الغاؤه من وارد محتمل لاي تبريرات او تنظيرات أو ضغوط معينة، وذلك ايضا بسبب استقلالية الرسالة المسيحية الشاملة عن الخصوصية القومية. على أن اقصى احتمال يمكن ان تواجهه الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية، فهو ظهور نظام شوفيني دكتاتوري آخر. فعندئذ تعود إلى التزام الصمت، ويختار أبناؤها ما يرونه لصالحهم اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، مقتنعين كمسيحيين مؤمنين، ان كنيستهم لن تحرمهم بسبب ذلك، من الاسرار المقدسة، مثل سر العماذ ومسحة المرضى وغيرها من الاسرار الكنسية المقدسة.
مع استخلاص العوامل آنفة الذكر، يمكننا ان نفهم القرار الصادر عن سينودس الكنيسة الكلدانية، وبما يرى فيه مصلحة ابنائها، وعدم انجرافهم نحو تيارات لا تنسجم مع الرسالة المسيحية الشاملة الموحدة، وبما يحميهم، من التشتت كمسيحيين نحو اتجاهات تحمل الطابع المسيحي ولا تقرها الكنيسة، ومن توزع الولاءات لمختلف المصالح الستراتيجية والسياسية، وهذا بحد ذاته من شأنه ان يصون لديهم الدعوة المسيحية المنفتحة الشاملة. خلاصة القول، إن كلدانيتهم لا تلغي ان يكون من بينهم من هو كلداني من انحدار قبطي، او ماروني او آشوري أو أي خصوصية قومية أخرى، وأن يصل الى المرتبة الاسقفية بكل جدارة، ويقول بصوت جهوري على الشاشة الفضية: نحن الكلدان.
من كل ما سبق، من وجهة نظري الشخصية وغير الرسمية، التي كما ذكرت لا تمثل لسان حال احد، لا داعي أن نتباكي على ما حصل وكأن الداعين الى وحدة الشعب السورايا فقدوا جزءا كاملا من هذا الشعب. فالنظرة المسيحية الكاثوليكية لا تلغي الشعور الذاتي الاثني الثقافي لكل واحد من ابنائها، وان يتحرك اجتماعيا ثقافيا لغوية وسياسيا بموجب ذلك، على ان لا يرتبط ذلك بحيث يحمل الغطاء الكنسي لتوجهات قد لا تقرها الكنيسة.
ولكن، ان كان الامر كذلك، لماذا اعلنت الكنيسة الكلدانية موقفا خاصا بالانتماء القومي؟ هذا ما سنسعى الى استخلاص اجابته، ضمن الخط المسكوني للكنائس الكاثوليكي، وهو ما سنراه في المحور الآتي.
2- المحور المسيحي المسكوني
موقف الهيراركيات غير الكاثوليكية من المسار المسكوني
كانت في السابق، قد تمحورت مقالات الكثير من الداعين الى وحدة الشعب السورايا، ومنهم كتابات المتكلم، نحو كوننا مسيحيين، قد نختلف عن بعضنا البعض بالطقوس والمذاهب، لكن هناك الكثير مما يجمعنا كشعب سورايا، يتحدث بالسورث، ويمتلك عناصر تاريخية مشتركة عديدة، مما يعد امتيازًا مهمـًا يسهم في مسيرتنا المسكونية، بكل ما نشترك فيه تراثيا لغويا وثقافيا وسواه.
من جهة أخرى رأى الملاحظون أن جانبا من الاكليروس في السلطة الكنسية المشرقية غير الكاثوليكي، لا يقاسمون الكنائس الكاثوليكية المفهوم عينه بشأن الوحدة المسكونية، وبخاصة إذا رأوا أن الطروحات لا تتطابق مع توجهاتهم (الاومثانية) القومية البحتة. كما أنهم غذوا تصورا مختلفا وخاصا بهم عن تاريخ الكنيسة الجامعة وشركة الكنائس مع بعضها حول القديس بطرس هامة الرسل، وحول كنيسته في روما، وكونه خادم خدام الرب في المحبة، وما يتصل بهذا الموقف بخليفة بطرس، وأولوية البابا، وموقع ابرشيته في روما.
من هنا نفهم موقف جانب من اكليروس الكنائس الشقيقة غير الكاثوليكية، في الاتجاه الوحدوي مع الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية، وأن وحدة الكلدان معهم مشروطة باعلان الخضوع والولاء لهم، وترك الانتماء الى الكنيسة الجامعة وخليفة بطرس. ونفهم ايضا ما تهيأ للكثيرين أنهم كانوا السباقين الى الاسهام مع منظريهم القوميين في اجهاض الخطوات الوحدوية لرموز في الرئاسات الكنسية البطريركية بعد منتصف التسعينيات. ففي أعقاب تلك المرحلة اليتيمة المنصرمة، التي اتسمت لحين، بحمية السعي الوحدوي واحساس ان الشركة الكنسية والاوخارستية دانية القطاف، وكادت تحسب في عرف الكثيرين، أن تكون قاب قوسين بل أدنى في تلك اللمة المسيحية الروحية الوحدوية المشتركة الجماهيرية العظمى التي جمعت لمناسبة اليوبيل الألفين للمسيحية رئيسا الكنيستين الكلدانية والآشورية.
في تلك الحقبة، كان قد أخذ علي وعلى غيري، أحد أولئك رجال الدين، عندما نهجت نهج راحلنا الكبير الاب يوسف حبي، في التفعيل المسكوني لعبارتـَي كنيسة المشرق الاشورية وكنيسة المشرق الكلدانية (الكاثوليكية)، إذ أفهمني بصريح العبارة أننا (في الكنيسة الكلدانية) لا نمتلك الحق في أن نحمل تسمية كنيسة المشرق، اي أن كنيسة المشرق هي آثورية وكفى. وليست كنيستان، آشورية (آثورية رسولية) وكلدانية كاثوليكية، وأننا بصفتنا من الكلدان، انسلخنا (قوميا أيضا) عن ارتباطنا التاريخي بكنيسة المشرق وبأبنائها. وفي هذا خلط تاريخي، لمن لا يربط ماضي (الكلدان) مع ماضي (الاشوريين) ضمن كنيسة المشرق الواحدة، سواء حمل الاسم الكلدانية أو الآشورية.
فماذا لو شاء الرب، ولئن كره الكارهون من المتعصبين من اي جانب، ان يخرج بطريركان ملهمان مسكونيان، يتفقا على الوحدة المسكونية، فتؤول رئاسة الكنيسة الموحدة على الثاني بعد وفاة الاول؟ الجواب، لن أنساه، قاله لي، أحد المعارف الاشوريين، في جلسة بمنطقة كراج الامانة، ولم يكن أمامه سوى قدح إذ قال: إذ حدث واتفقوا على الوحدة المسكونية بين الكنيستين الشقيقتين (ولئن كره الكارهون - المحرر) فدعهم يسموننا باسم هذا القدح، أي اسم.
بين القومية والانفتاح الى بشرى الانجيل
ولئلا يفهم القارئ الكريم، ان كتابة الصفحات التالية هي ابنة يومها في هذا الاتجاه الذي سعيت الى التعمق فيه، ما بين الانتماء المسيحي والخصوصية القومية، أنتقل بشكل عابر، الى استذكار سؤال بقي ديدني في المنحى عينه، كنت وجهته إلى مسؤول في كنيسة من الكنائس الارثوذكسية القوميةِ ، فقلت له: ماذا لو كانت جماعة منكم في افريقيا، وانجذب أحد ما الى رسالة الانجيل وطلب منكم الاعتماذ والانتماء المسيحي. فالتزم الصمت في الاجابة. وعندما وجهت السؤال عينه، إلى أحد أتباعه من طلاب كلية بابل وتضم مختلف الانتماءات الطقسية والمذهبية المسيحية، أجاب: نحن نعمذهم ونتبناهم في كنيستنا وعندما يصيرون جماعة غير ذات بأس نوجههم بأن يؤسسوا لهم كنيستهم الخاصة. وضرب لي بذلك مثل اهتداء جورجيا، على يد الارمن.
تأثير الخلط بين الاثني والديني على السلامة العقائدية والمسيرة المسكونية
إستنادا إلى ما سبق عرضه، لاحظ الكثيرون، أن الكلدان باتوا يجدون أنفسهم في محيط من الكنائس الشقيقة ممن، على مستوى الرئاسات "الروحية"، انعزل بنحو مضطرد عن الروح الوحدوية المسكونية، بانصياع باد لتوجهات قبلية عشائرية مختارية، وبصمت محير تجاه منابر تخاطب الامة وتحرف الايمان المسيحي، وتنادي بأن يطغي صوت الداعية القومي على صوت الراعي الكنسي. وزادوا بأن خلعوا على الله اسم آشور كواحد من اسمائه تعالى في مختلف اللغات: الله، غاد، ديو، ياهفي الخ... وان في الثقافة الاشورية تلك، تعد الاسماء الالهية عشتار وشمش وسواهما، صفات من صفات الله.
وتشير مؤشرات الظرف الراهن إلى إحجام لدى الكنائس الشقيقة، عن سبل الوحدة المسكونية فتسلك المسار الروحي الانجيلي، وقد ينظر إلى كونه بالضد من اي نداء من الروح القدس. على أن المسار يبقى مفتوحـًا للحوار الروحي المعمق، ما دمنا نعيش في العالم. لكنه للأسف فان أطرافا من الكنائس الشقيقة، باتت كما يفهم، ترتهن بتنظيرات قوميين يفضلون أي شيء على الوحدة مع الكنيسة الجامعة، وبما يعرض الرسالة المسيحية، إلى ان تكون حاضنة لبدع تدعي حمل التسمية المسيحية وحسب، وتروج باسم المسيحية الاشوري من منابر اعلامية لمفاهيم بعيدة عن رسالة الإنجيل. وهذه بعض الامثلة الكاشفة:
- كبح التوجهات الوحدوية، فقد ظهرت رهبانية ناشئة منفتحة على الخط المسكوني، سرعان ما كتمت انفاسها، بإصرار من داخل العراق وخارجه.
- كتم اصوات تعالت، في السنوات الاخيرة، من التي مع رغبتها الاحتفاظ بالاصالة والخصوصية الاشورية تمحورت نحو الايمان بالكنيسة الجامعة، وغير ذلك من التوجهات الوحدوية التي كبتت، وسال بسبب ذلك وسواه نهر من الحبر الالكتروني وغيره.
- ظهرت انشطة ثقافية ذات توجه وحدوي، نذكر على سبيل المثال لا الحصر، ترجمة السورث للكتاب المقدس المصور وتسجيله على قرص ليزري بأصوات متنوعة اللهجات سعت جميعها نحو نسيج مشترك في اللفظ المقبول لدى الجميع. وما ان وصلت النسخة الى اسماع احدى الرئاسات الكنسية، حتى عزفوا عنها مصرحين انها ليست لهجة انحدار تلك الرئاسة الكنسية.
ضبابية الخلط بين الانتماء الايماني والهوية القومية
ويأتي تكريس التسمية الكلدانية القومية الخاصة بهذا الجانب من كنيسة المشرق الذي عاد قبل قرون إلى الشركة مع الكنيسة الجامعة، بما يوحي بتحرير ابناء هذه الكنيسة الكاثوليكية من ضبابية الخلط بين الانتماء الايماني والهوية القومية، وبينهما فوضوية الخطاب السياسي لتوجهات حزبية مختلفة ذات بؤر نفوذ وتأثيرات متفاوتة. وهو تكريس من شأنه، كما يفترض، أن يفرغ السبيل الى التمحور نحو الرسالة المسيحية الشاملة، ويترك العمل السياسي وفقا لاختيار الفرد وما يقتنع به من انحدار اثني، بدون تداخل للجانب الكنسي أو الديني في هذا الشأن.
كما يأتي إعلان الكلدانية من الناحية القومية لأبناء الكنيسة الكلدانية، كحالة يعتقد انها من حالات انهاء الجدل، بين الاتجاه الكلداني والاتجاه الاشوري، وما اكتنف ذلك من تحرك سياسي طالما اشتبه فيه التأثير على الجانب الروحي واستغلاله بشكل منحرف، خصوصا لدى وضع الكلدان في عصارة الخلط الكلداني السرياني الاشوري ، وبما يجر الكنائس الطقسية التي تحمل هذه المسميات القومية، الى مسارات لا ترضاها جميعا بالطريقة اياها، وهو بالتأكيد يأتي في الكنائس الابرشية الطقسية الكاثوليكة على حساب التوجه الروحي الانجيلي. فجاء خيار الكلدانية لجانب من ابناء الارومة الواحدة مقابل الخط الآشوري للجانب الآخر منهم، الذين يستخلص من محصلة خطابهم، اكان الاسم اشوريا او سورايا، يصرّون عل أنهم الاصل وأن جانبهم هو الوحيد الاوحد الذي يجمع الجميع.
كما ينظر الى الاعلان، كقرار جاء لوضع حد للتلاعب بمشاعر السورايي، تحت ذريعة الوحدة، وجرهم وجر كنائسهم معهم، وفي الاقل جر الكنيسة الكلدانية، الى املاءات سياسية واقليمية، بعيدًا عن أي مسار روحي معمق في الوحدة المسيحية المسكونية الشاملة.
ولعل الرغبة في تثبيت اسم الكلدان، الذي قد يعده غير واحد من بين التسميات المثيرة للجدل ولم تحظى بالالتفاف الشامل، جاءت لوضع حد لهذه المراوحة التي استغرقت الكثير من الوقت واستهلكت العديد من الطاقات، علاوة أنه كان يعرقلها نفور من الوحدة الكنسية من اطراف عدة. وأنه قد تم التعبير عن هذا النفور بأنواع عديدة وأشباه شتى، من انماط التضارب الجغرافي والسياسي من جهة، أو التباين بشأن الوحدة المسكونية، برغم كونها في نهاية المطاف يتطلع اليها كل مسيحي اصيل، من الجهة الاخرى. وبذلك يمكن ان ينظر الى هذا الاعلان، كتنقية للمسار الروحي المسيحي المسكوني لكنيسة نحو اخرى، بغض النظر عن تسميتها القومية، وحريتها في الاحتفاظ بها.
فمن الناحية الكنسية المسيحية، فقد لوحظ ان أي كنيسة، كلما انعزلت عن الخط المسكوني للكنيسة الجامعة، تراها بحسب الشواهد التاريخية، تعيش مراحل ضعف متراكم، ما يجعلها ترتمي في أحضان العشائرية والمناصب الوراثية، فتفرغ من الروح وتمسي تابعة للشوفينية القومية. فكلما كانت كنيسة قومية بحتة، كلما اتجهت لأن تكون كنيسة بالاسم، كنيسة تقليد طقوسي وتراثي فحسب.
انسجام مع الرسالة الشاملة للكنيسة الجامعة
من ناحية آخرى، إذا لاحظنا ما تحتضنه الكنيسة الكلدانية من اثنيات متعددة، عربية، كردية، فارسية، نجد أن التعددية الاثنية ليست بغريبة في حضن الكنائس الابرشية الكاثوليكية، ما دام الابناء مقتنعين برسالة الكنيسة الشاملة، فلا بد على مر العصور ان الكنيسة المبشرة تحتضن ابناء من مختلف الانحدارات الاثنية ممن يستجيبون الى نداء المسيح. وهذا كان الحال، مع الاقوام التي اعتنقت المسيحية وكانت اللغة الطقسية الآرامية هي اللغة السائدة آنذاك ، سواء في الشام او الهند او الصين، وعليه فإن الافراد والعوائل الذين عمذناهم في المهجر والشتات، أو صلينا على اكليلهم الزوجي بعد العماذ، من دليميين وجنابيين ومن الخالص ومن كربلاء، بحسب الطقس الكلداني، سيبقون محتفظين بانحدارهم الخاص ومتمسكين بكنيستهم الكلدانية. فكيف الامر بي ان كانت سلالتي آشورية، وابناء عمومتي اشوريين، واعتنق اجدادي الكثلكثة ضمن الكنيسة الكلدانية، قبل اقل من قرنين، فليس لي الا ان اقبل بالتسمية الاثنية المزدوجة بصفة كلداني من اصل آشوري، على غرار الجنسية المشتركة لاقوام منحدرين من اثنيات لا تحصى. لا سيما ان ذلك، جاء بإجماع اسقفي، وما دامت كنيستي سائرة تحت خيمة خليفة مار بطرس، وما دمت أقتنع ان مسيحيتي نابعة من الرسالة الانجيلية الشاملة لكل الشعوب والامم، وأن لكل قادم ان يتبنى اللغة الطقسية للكنيسة التي اختار الانتماء اليها.
استقلالية القرار عن المصالح الاستراتجية السياسية والاقليمية
إنها مجرد مقترحات شخصية، بدون ان تكون لسان حال. هل يعيد التاريخ نفسه بشأن المواقف بين أشقاء باتجاهات قومية وسياسية متباينة. بعد ان اتضح المسار وانجلت الصورة، لا غرو ان يكون احترام الخيارات الحرة للاخرين، كما نطالب به لخيارنا، المتنفس الوحيد للتعامل بين الاشقاء على تباين اختياراتهم المذهبية واتجاهاتهم القومية والسياسية، وبما يكفله القانون المعاصر وحقوق الانسان وواجباته.
وتبقى الخيارات مفتوحة أمام المتطلعين إلى عيش إيمانهم واكتشاف رسالة الانجيل وندائه في قلوبهم. ذلك أنه لم يعد الاطلاع العلمي على المذاهب والروحانيات والتاريخ مقتصرا على أحد أو فئة. فكل شيء مطروح على الشبكة العنكبوتية، والقنوات الفضائية والمطبوعات السخية. وهناك تساؤل يستحق المواجهة وهو:
إلى أي مدى أقبل باعتناق الخط الروحي الذي ولدت وترعرعت عليه وحاز على اقتناعي الصميم؟ وهل أقبل أن أغلـّب عليه، خيارًا ضيق الافق متحددا بخصوصية اثنية قومية؟ لعل الجواب الذي يحظى بالغالبية أن الرسالة المسيحية الانجيلية ترجح الخيار الاول. وإذا كانت تشجع استثمار الارث الثقافي والتقليدي واللغوي والاثني، لكن على ألا يتحول هذا الاستثمار لنا ديانة أخرى أو مذهبا منفصلا.
ولعل ما حدا بآبائنا في مجمعهم المقدس الى الارتكاز على التسمية الكلدانية، علاوة على المسببات المذكورة، كان له ما يبرره من اعتبارات انجيلية مذهبية وسلوكية. وقد يكون عنصر الاختيار المسيحي الاصيل، اذا اراد التاريخ ان يعيد نفسه، أن يكون ذاته مهمازا لاختيار الاستجابة لرسالة الانجيل حيثما يجد المؤمن في نفسه التفاعل مع عمقها وواقعيتها وتأوينها، أكان في حضن كنيسة تسمى الكلدانية، وذات ثقافة قريبة من مشاربه الشرقية او الاشورية او سواها، أو كان ذلك في حضن اي كنيسة كاثوليكية أخرى. أما أن يتم اللجوء إلى تحريم شخص مع من يلتفون حوله، لمجرد كونه انتمى الى الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية، فتلك ليست مشكلة المتحول الى الكنيسة الكاثوليكية، فهو يتأثر بإجراء الكنيسة التي اختار الخروج منها، لأنه أصلا تركها لصالح الكنيسة الجامعة، ولأن نداء الاستجابة لرسالة الانجيل لا يغلب عنده على الخصوصية الاثنية، مهما كانت تسمية هذه الكنيسة مختلفة عن خصوصيته الاثنية.
واذا كنت استفيض في هذه الطروحات، فذلك لتثبيت موقف الولاء من كنيستي الكلدانية الكاثوليكية، خشية عد تعاطفي السابق مع التسمية الاشورية ومع انحداري الاشوري، فكنيستي الجامعة، وبضمنها كنيستي الكلدانية فوق التسميات وأم وراعية للخصوصية الاثنية، لا تكتمها ولا تكبتها، ولكن في الوقت عينه لا تستعبد لها.
تباشير التقارب بين الكنيستين الاشوريتين الشقيقتين
إنها أخبار سارة، سمعناها عن التقارب بين الكنيستين الشقيقتين: كنيسة المشرق الاشورية، الكنيسة الشرقية القديمة، مما سيقوي جانب الاكليروس، تجاه الجانب العلماني النزعوي بتطرف الى القومية، كما ان هذا التقارب، من شأنه أن يذلل العقبات، وضمن سيناريوهين لا يحتملان ثالثا:
الاول: عندما تندمج الكنيستان عقائديا، وكلاهما يحمل الاسم القومي الواحد، وعندما يترسخ الخط العلماني غير الاكليروساني لدى الداعية القومي الاشوري باستقلالية صحية عن الكنيسة، وعندما تستقل الكنيسة بدورها، بعيدا عن ان تكون خادمة مطيعة للخط القومي على حساب الرسالة المسيحية، وعندما يستيقظ لدى ربابنتها نداء الوحدة المسكونية، ربما ستتجه الى الوحدة ككنيسة آشورية كاثوليكية، ذات شركة مع خليفة بطرس خادم خدام الرب في المحبة.
السيناريو الثاني، قد تتجه الى الوحدة مع الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية، بشركة عقائدية، وتنهل مما يجمع ابناءها من تاريخ وتراث ولغة وثقافة، ، لتتخذ عندئذ الكنيستان، الاشورية والكلدانية، الاسم الذي يمليه واقع الحال المتفق عليه، خارجا عن ضغط القوميين المتعصبين من أي جانب، وسيكون عندئذ شأن أبنائها، الرقص للتسمية المشتركة بمناديل السعد والحبور.
لكن متى يـُتوقع أن يتم هذا؟ قد يقتضي الوقت الكثير، وقد لا يحصل إلا في الفردودس، حيث الوحدة المسكونية، لا تحدها حدود ثقافية لغوية، آشورية كانت أو كلدانية أو سواها. ولنمضي الان في البحث عن مستجدات الاعلان.
على أن الكنيسة الكلدانية، برغم التزامها أساسا خط الكنيسة الجامعة المبشرة المنفتحة على الثقافات العالمية وأن الخصوصية القومية والتسمية تأتي في المرحلة الثانية، قد تواجه التساؤل التالي: ما هو الموقف مع كنائس غير آشورية، من الشعب السورايا كاثوليكية كانت أو أرثوذكسية.
الحديث عن علاقتنا بالسريان، وروابطنا بهم من الانحدارات الاثنية الثقافية اللغوية المشتركة ، فهذا حديث متشعب وتمثل أمامه جملة من المؤشرات:
من بين الاخوة السريان من المذهبين الكاثوليكي والارثوذكسي، هناك من يرى أنه عربي عروبي للعظم، وأن السريانية هي لغة طقسية لكنيسته. وفيهم من هو من القرى والأرياف من الذي تكلموا السورث أبا عن جد، وإذا صح انحدار العرب من جلدة عربية، وبلغة طقسية سريانية، فإن أولئك السريان الذين لغتهم هي السورث، هم ايضا يستطيعون الانحدار مع ما يجمعهم من شعب لغته السورث، الشعب السورايا.
ولكن ما الحيلة والكنائس الطقسية والمذهبية تخلت عن الخصوصيات الاثنية لصالح الخصوصية المذهبية: فماذا يا ترى يقول السريان الارثوذكس والكاثوليك في لبنان وسوريا؟ وما طرح مؤخرا عن المطالب بكيان قومي مستقل ينسجم مع هذا التطلعات والاحتياجات، والتعامل مع واقع الحال.
أما عن المشترك في الاقل بين السريان والكلدان الكاثوليك، فهو كبير بينهم في العراق، لغة واحدة مذهب كاثوليكي واحد، ارض واحدة تاريخ مشترك. لكن المصالح الادارية للكنائس بقيت تحول دون التوأمة الفاعلة بين الجانبين. وكانت التجربة الخلاقة الرائدة في قيام معهد مار يوحنا الحبيب، وما انجب من ابناء متآلفين طقسيا اجتماعيا اخوية ومذهبيا، كهنة أو قدامى التلاميذ، فحدث ما حدث بشأن غلق هذا المعهد. وفي المنوال البشري الاداري الستراتيجي ذاته، كان قد طولب كاهن من السريان الكاثوليك في الاردن، حيث كان آنذاك خالية من كاهن كلداني، طولب بحزم أن يعزف عن خدمة الجماعة الكلدانية هناك، وفي المنوال عينه استقلال السريان بمعهد اكليريكي، مستقل عما درج على تسميته بـ (صلما دكلدان).
إلا انه في نهاية الامر، يصح لدى السريان الكاثوليك أو الارثوذكس، في نهج الوحدة المسكونية، ما تم تناوله بشأن احتمال توجه الاشوريين نحو الوحدة مع خليفة بطرس، في توجه السريان الكاثوليك والارثوذكس نحو الوحدة المسكونية مع خليفة بطرس كسريان كاثوليك، أو الاتجاه الوحدة مع الكنائس الشقيقة الكلدانية الاشورية عند اتحادها حول الاسم المتفق عليه، ثلاثيا، بدل أن يكون الاتفاق ثنائيا.
وفوق كل هذا يبقى المبدأ أن امنية المسيح في الوحدة، هي أمنية نابعة من الآعماق. وتبقى دعوة كل مسيحي، للوحدة الروحية مع الذات ومع الاخر، لا يقف في سبيلها عائق قومي أو اثني أو سياسي، وهي مسيرة روحية لا ترتبط جدليا بتوحيد الاعياد ولا الاتفاق على التسميات، ولا التظاهرات الوحدوية القومية.
المحور العلماني: دور التحرك العلماني ومسؤوليته
قبل التطرق إلى هذا الدور، لا بد من خلاصة لتقديم المفهوم الذي نراه عن موقف الكنيسة الكاثوليكية من التحرك العلماني.
في الوضع الحالي، يطلق العنان لمرجعيات طائفية مذهبية ودينية، تتحكم في اقدار البلاد، ما انزل الله بها من سلطان، تحتكم بافتضاح إلى املاءات طائفية لدول الجوار، وصارت الديمقراطية كابوسا لعينا بقدر ما يبدو عليه كمطية للمصالح التوسعية الطائفي والمذهبية، على عكس الديمقراطيات المتحضرة في العالم المعاصر، وحتى لدى الدول التي تحتل قواتها عراق الرافدين. لا يمكن والحال هذا، في هذه المرحلة تحديدا، التمشدق بطلب عدم تدخل الرئاسات الكنسية في السياسة. إنما هناك فرق بين ابداء الرأي حول قضية سياسية تخص عموم ابناء الرعية لهذه الكنيسة او تلك، وبين ان تكون الهيراركية من الاكليروس في الانتظام وراء جبهة سياسية أو العمل باسم حزب سياسي معين. وقد يصل الامر، بالقدر المطلوب من الحكمة، الى اتخاذ موقف مبدئي غير مداهن في الاقل، من حالة الاحتلال وحالات العمالة والنفاق السياسي، الا ان الحكمة والصبر مطلوبان من باب أولى في ظروف اختلط فيها الخيط الاسود بالابيض.
في نهاية سلسلة من المقالات عن الشأن القومي في إحدى الصحف لشعبنا السورايا، في بحر عام 2004 كنت قد ختمتها بعنوان يحتوي مضمونه انه حان للخط العلماني ان يضطلع بدوره في الشأن القومي. وآراني اليوم اختتم هذه الصفحات في الاتجاه عينه. وأدرح جملة نقاط تؤشر حاجتنا الى طبيعة التحركات العلمانية:
- خط علماني يتحرك قوميا باسم الشعب السوريا، تحت نطاق مشروع سياسي تنموي لا يرتبط بمحور طائفي.
- تحالف كيانات سياسية قومية متحررة، عن النفس الطائفي يخدم مصالح ومستقبل الشعب السورايا.
- انشطة ثقافية تجمع شرائح شعبنا بصرف النظر عن انتماءاتهم الحزبية وانحداراتهم الطائفية.
- حركات فنية تتناول الموضوعات الوجدانية والجمالية بطريقة محببة وتستقطب الكافءات من كل حدب وصوب مستقلة عن غطاء سياسي أو طائفي.
مثل هذه الانشطة وغيرها، لا تحتاج الى وصاية كنسية في جانبها الحزبي والى الى اشراف طائفي او حزب في جانبها الثقافي والفني.
الحاجة الى قيام شخصية قيادية فذة ذات كاريسما يحظى بالتفاف والشعب، ويقف مواقف حاسمة نضالية، لصالح الشعب السورايا، ويكون متحررا من التبعية لوصاية دينية دون غيرها، مع الحفاظ على قيم الدين وكرامة الاكليروس، ولا يكون محدودا بالاملاءات الاقليمية الستراتيحية، لصالح التعبئة للوحدة القومية لشعبنا السورايا.
وللاسف، كلما بانت في الافق ملامح مشجعة لمثل هذا الكاريسما، حتى يتم اجهاضها، بنحو مباشر او غير مباشر. ولكن هذا الشعب المعطاء لا يمكن ان يبخل رحمه بمثل هذا الحلم الجميل.
هكذا سنجد انفسنا أمام مسارين متحاذيين غير متقاطعين: مسار الوحدة المسكونية للكنائس غير متأثرة بإملاءات سيساسية أو قومية، وهذا المسار هو مسار الحياة المسيحية على الارض وقد لا يكتمل الا في السماء.
مسار للشعب السورايا يتوحد تحت خيمة ثقافية فنية، وبمشاريع سياسية وطنية وحدوية على المستوى القومي، ومتآلفة مع النسيج الوطني على مستوى البلد الذي تعيش فيه شرائح هذا الشعب، مع الوعي بأن العلمانية لدى الشعب السورايا هي قيم متشربة من الديانة التي نشأ عليها أبناؤها، وأنها في الوقت عينه (العلمانية) تحرك انساني فني ثقافي قومي وطني وحدوي، لا يتحمل وصاية طائفية، ولكنه يحترم توجه أي من أبنائه، روحيا كنسيا طائفيا.
وإذ كنا نتعامل مع مفردة القدر، بمعناها المجازي، الخاص بالمصير والمستقبل والخيار الافضل، فإن ما يريده الشعب من حياة لا بد ان يستجيب له القدر، وعندما يتوجه الشعب السورايا نحو قدر الوحدة، بمنحاها المنفتح الايجابي الفني والثقافي والقومي الوطني، فلنا ثقة بأن أصحاب القداسة والغبطة والنيافة لن يكونوا إلا في موقع المباركة لهذه الوحدة.
الاب نويل فرمان السناطي
26 مايس 2009