Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

بداية ربيع الشعوب في الدول العربية وبداية النهاية لقوى الإسلام السياسي

عند متابعة نضال شعوب الدول العربية بمختلف قومياتها في منطقة الشرق الأوسط ومنذ سقوط الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى, ثم مروراً بفترات الانتداب والحرب العالمية الثانية وعقود النصف الثاني من القرن العشرين حتى الوقت الحاضر يتعرف المتابع لأحداث هذه الحقبة الطويلة من الزمن على أربع مراحل شهدت صعوداً وهبوطاً في النضال الوطني والديمقراطي وإنجازات ومكاسب وانكسارات وهزائم مريرة شملت جميع الدول العربية دون استثناء. ويمكن الإشارة إلى هذه المراحل بما يلي:

1. تمتد المرحلة الأولى من سقوط الدولة العثمانية ووقوع الدول العربية في منطقة الشرق الأوسط تحت الاحتلال والانتداب البريطاني أو الفرنسي وتصاعد النضال الوطني لفئات من المجتمع للخلاص من الاستعمار والهيمنة الأجنبية والتي امتدت إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية, حيث تشكلت في هذه الدول الحديثة التكوين حكومات تجسد مصالح طبقة الإقطاعيين وكبار الملاكين وشيوخ العشائر والتجار الكومبرادور التي تحالفت بصيغ ومستويات مختلفة مع الدول الاستعمارية وعبرت عن مصالحهما المشتركة واستمرار وجودهما المشترك.

2. وفي المرحلة الثانية تصاعد النضال الهادف إلى انتزاع الاستقلال والسيادة الوطنية ووضع خيرات البلاد بيد شعوبها والخلاص من العلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية والأبوية المتخلفة وإقامة العلاقات الإنتاجية الرأسمالية ومن أجل انتزاع الحرية والديمقراطية وحقوق ا\لإنسان. وهي الفترة التي أعقبت سقوط الفاشية في الحرب العالمية الثانية وانتعاش مبادئ الحرية والحياة الديمقراطية على الصعيد العالمي وصدور اللائحة الدولية لحقوق الإنسان في العام 1948. وقد تتوجت هذه الفترة بتفاقم الصراع بين النظم الرجعية الحاكمة والشعوب والقوى والأحزاب المعارضة المتطلعة للحياة الجديدة. ورغم قوة وتطور الحركات لشعبية في الدول العربية, فإنها عجزت عن إقامة نظم ديمقراطية في البلاد, مما دفع بقوى في الجيش بتنظيم الانقلابات العسكرية والاستيلاء على السلطة, كما حصل في سوريا ومصر والعراق وفيما بعد في اليمن والسودان. وعبر هذه الانقلابات العسكرية ذات الوجهة الوطنية العامة المعادية للاستعمار وصلت فئات من البرجوازية الصغيرة ذات الأهداف الوطنية والقومية العامة إلى الحكم. ولم تؤسس هذه القوى الحكم على مبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان, بل فرضت نظماً سياسية مستبدة وغير ديمقراطية وأصرت على البقاء في السلطة وعدم العودة إلى ثكناتها العسكرية. وقد عاشت شعوب الدول العربية مداً قومياً مناهضاً للاستعمار وغير ديمقراطي في آن واحد جر خلفه الملايين من البشر بشعارات ديماغوجية مع تشويه وتزييف في وعي الكثير من البشر. ويمكن أن يتلمس الإنسان في هذه الفترة تفاعلاً واسعاً وتبادلاً في التأثير بين شعوب هذه المنطقة عموماً وحركاتها الوطنية المناهضة للهيمنة الأجنبية, كما في فترة نهوض الشعب الإيراني في الربع الأول من العقد السادس من القرن الماضي.

3. وفي المرحلة الثالثة شهدت شعوب الدول العربية انتكاسة شديدة في حركاتها النضالية الديمقراطية وانحساراً شديداً في دور القوى الديمقراطية واليسارية منذ أن تسلطت القوى القومية والبعثية اليمينية على زمام الأمور في بعض الدول العربية, في حين تواصل في بعضها الآخر وجود حكومات رجعية مناهضة لمصالح شعوبها, سواء أكانت ملكية أم جمهورية, إذ تبين زيف دعوات كل تلك الحكومات للديمقراطية والنضال ضد الإمبريالية وفي سبيل الوحدة العربية. وعجزت وهي في السلطة عن تحقيق التقارب في ما بين نظمها السياسية وما بين قواها المتعددة في العديد من الدول العربية الأخرى, بل شارك كل منها في التآمر على بعضه الآخر. ويفترض تأكيد حقيقة أنها لعبت دوراً كبيراً جداً في قمع الحركات والقوى الديمقراطية واليسارية وسعت إلى إخضاعها لها وتحت خيمتها الفكرية الواحدة وتصفيتها وتصدت بعنف شديد للمناضلين في سبيل إقامة مجتمع مدني ديمقراطي علماني يستند إلى دستور ديمقراطي وحياة دستورية وبرلمانية تعددية.

بدأت هذه الانتكاسة منذ نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات في العراق وسوريا ومصر من القرن العشرين وتفاقمت مع اندحار الجيوش العربية في الحرب ضد إسرائيل في حرب الأيام الستة 1967. وقد تلقت الحركات اليسارية والديمقراطية في العراق وسوريا والسودان ومصر والجزائر وتونس وغيرها ضربات قاسية من حكام تلك الدول وقمعت المطالب القومية العادلة والمشروعة للقوميات الأخرى وزج بأتباعها والمدافعين عنها من القوى الديمقراطية واليسارية في السجون والمعتقلات أو تمت تصفية الكثير من المناضلين في سبيل الحرية والديمقراطية والحقوق القومية العادلة والتقدم الاجتماعي بصيغ مختلفة.

ثم زاد الأمر سوءاً دفاع دول "المنظومة الاشتراكية" عن هذه النظم الشوفينية والقمعية ومساندتها لها لدعائها مزيف بالنضال ضد الاستعمار, في حين أنها كانت تعمل بكل ما أوتيت من قوة في قمع الحركات والقوى الديمقراطية وخاصة القوى اليسارية منها. وقد نشأ هذا التأييد لهذه النظم من مواقف براغماتية للدول "الاشتراكية" في صراعها مع الدول الرأسمالية وتحريها عن حلفاء لها في منطقة الشرق الأوسط حتى لو كانت هذه النظم مستبدة وجائرة تحت ذريعة أنها قوى من البرجوازية الصغيرة الثورية ومجموعات من الضباط الأحرار التي يمكن أن تسير صوب البناء "اللارأسمالي" أو تتجه صوب "بناء الاشتراكية" حتى لو كانت في البداية غير ديمقراطية ومستبدة وتمارس القتل وتصفية الأحزاب الشيوعية واليسارية والقوى الديمقراطية في بلدانها! ولم يكن هذا الأمر مقبولاً بل مرفوضاً من جانب القوى الديمقراطية والتقدمية وسكوت على مضض من جانب الكثير من الأحزاب الشيوعية في المنطقة أو مسايرة الموقف. وقد خلق هذا الموقف ازدواجية وعدم مصداقية لدى الأوساط الشعبية والكثير من المثقفين الديمقراطيين. لقد تغافلت تلك المنظومة "الاشتراكية" بدولها العديدة, وخاصة الاتحاد السوفييتي, عن قصد انتهازي صارخ بأن التوجه صوب الاشتراكية لا يمكن أن يتم دون الالتزام الفعلي بمبدأ الحرية الفردية والحياة الديمقراطية والتعددية الفكرية والسياسية وبناء الحياة الدستورية البرلمانية والالتزام الفعلي والكامل بحقوق الإنسان. ولم يكن غريباً أن تسقط تلك النظم السياسية "الاشتراكية" تحت تأثير وفعل ذلك الانفصام الفعلي النظري والتطبيقي بين مفهوم ومضامين الاشتراكية (العدالة الاجتماعية) ومفهوم ومضامين الحرية والديمقراطية في واقع الحياة الفكرية والسياسية والاجتماعية وسيادة البيروقراطية والانتهازية ومن ثم الشمولية في الفكر وفي ممارسة الحكم . ولا شك في أن هذا الفكر قد وجد تعبيره في الغالب الأعظم فيب جميع الأحزاب الشيوعية في الدول العربية دون استثناء, مما تجلى في الإدعاء بتمثيل الطبقة العاملة وليس السعي لذلك أو في تصور امتلاك الحق والحقيقة كلها وبطلان الرأي الآخر أو بادعاء أفضلية الشيوعيين في النضال بالمقارنة مع بقية المناضلين ...الخ. وهو مرض لم تتخلص من بعضه الأحزاب الشيوعية في الدول العربية ولدى الكثير من الشخصيات الشيوعية واليسارية عموماً, أو بقاء قادة الأحزاب الشيوعية سنوات طويلة على رأس أحزابهم وكأنه ملك طابو لا يجوز امتلاكه إلا في حالة الموت أو لا يوجد أفضل منه لقيادة هذا الحزب أو ذاك. وهو مرض ورثناه من الكنيسة الكاثوليكية والديانة اليهودية ومن الخلافة الإسلامية. وهو مرض عضال لا بد من مكافحته بهدف التجديد والتحديث وتطوير المبادرة والإبداع.

دخلت القوى اليسارية والديمقراطية في الدول العربية في أزمة فكرية وسياسية واجتماعية ثقيلة بسبب انهيار النموذج الذي كانت تروج له الأحزاب الشيوعية وأغلب القوى اليسارية وتبتعد عن انتقاد سياساته ومواقفه على الصعيد الداخلي والدولي وتسعى إليه, وبسبب عجز الأحزاب الشيوعية واليسارية الأخرى عن ممارسة الاستقلالية في التفكير وتكوين الرأي السياسي المستقل عن الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي والحركة الشيوعية العالمية في القضايا الدولية والإقليمية وأحياناً كثيرة المحلية, وبسبب ضعف مستواها الفكري وقدرتها التحليلية المستقلة, إضافة إلى عجزها عن احتواء الأزمة الفكرية والسياسية وإجراء تحديث وتجديد في الفكر والممارسة في جميع الدول العربية دون استثناء كجزء من الحركة الشيوعية واليسارية على الصعيد العالمي. وقد أثر كل ذلك على الشعوب العربية وعلى نضالها وتواصل هذا الانحسار طويلاً. ومنذ الثمانينات من القرن الماضي حتى نهاية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين واجهت الشعوب في الدول العربية طوال خمسة عقود تجلت فيها الظواهر السلبية التالية:

1. حالة تقهقر شديدة في سلوك القوى القومية والبعثية صوب الأسوأ, سواء أكانت في الحكم أم خارجه, ومارست بسلوكها وسياساتها نشر الإحباط في صفوف الشعوب في الدول العربية تحت شعارات قومية زائفة أو الهروب إلى الخلف مرة وإلى الأمام مرة أخرى دون أي شعور بالمسؤولية إزاء مصائر تلك الشعوب وعواقب سياساتها. ورغم وقوع الكثير من الأحداث الخطيرة والتحولات الهائلة على الصعيد العالمي فهي ما تزال ثابتة على خطابها السياسي القديم وشعاراتها السياسية المتخلف والمزيفة والمرفوضة من أوساط شعبية واسعة, وهي فرحة بهذا الجمود الفكري والتخشب السياسي. ويقدم المؤتمر القومي العربي ببياناته السنوية إلى الأمة نموذجاً حياً لهذا الجمود والتقوقع العدمي.

2. المحاربة الشديدة من جانب النظم الحاكمة في الدول العربية لكل القوى والأحزاب الديمقراطية واليسارية ومن يدخل ضمن مفهوم التيار الديمقراطي في الدول العربية من جهة, وسقوط دول المنظومة الاشتراكية وانهيار مؤقت لحلم الخلاص من الاستغلال لدى الكثير من الناس من جهة ثانية, ومصاعب التجديد والتحديث والعجز الواضح عن وعي التحولات الجارية على الصعيدين العالمي والإقليمي التي عانت منها كل قوى اليسار في هذه المنطقة من العالم وعلى الصعيد العالمي من جهة ثالثة, إضافة إلى تفاقم البطالة والفقر والحرمان في صفوف فئات واسعة في الدول العربية رغم غنى المنطقة وتفاقم التمايز الطبقي والمعيشي بين طبقات وفئات الشعب من جهة رابعة. كما لا بد من الإشارة إلى انحسار ملموس في الطبقة الوسطى الصناعية والزراعية والطبقة العاملة أيضاً.

3. وفي مقابل هذا لعبت النظم القومية والرجعية دوراً كبيراً باتجاهات ثلاثة قادت إلى تعزيز مواقع قوى الإسلام السياسية في صفوف الشعوب وزيادة تأثيرها الفكري الديني المتخلف والسياسي الرجعي. وقد ساهمت الدول الرأسمالية الكبيرة بدور مباشر وأساسي في هذا الجهد المناهض للتقدم والديمقراطية:

أ‌. التنافس معها بذريعة سحب بساط الدين من تحت أقدام القوى الإسلامية السياسية مما ساهم في تكريس الفكر الديني الرجعي والمتخلف في أذهان المسلمات والمسلمين. وقد تبلور هذا في المساجد والجوامع المتعاظم عددها وفي المدارس الحكومية, إضافة إلى المدارس الدينية ونشر الكتب والمجلات والدعايات الدينية على أوسع نطاق ممكن تباع بأسعار رخيصة جداً أو توزع مجاناً.

ب‌. دعم القوى الإسلامية السياسية المتخلفة والإرهابية في مكافحة القوى الديمقراطية واليسارية والحركات الشيوعية بدعوى مخالفتها للإسلام, وخاصة بعد أن شكلت لها ميليشيات مسلحة لتحارب وجود السوفييت في أفغانستان والتي سمحت فيما بعد بانتشارها على صعيد الدول العربية والإسلامية وبين المسلمين في الدول الأخرى.

ت‌. السياسات الاقتصادية والاجتماعية المعبرة عن مصالح الطبقات والفئات الحاكمة وتفاقم البطالة والفقر في هذه البلدان واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء بحيث حولت الكثير من بنات وأنباء هذه الدول ضد حكوماتها المستبدة والظالمة وغير العادلة.

ث‌. السياسات المناهضة للديمقراطية والمجتمع المدني والحياة الدستورية وممارسة الاستبداد في مواجهة قوى المعارضة السياسية وزجها في السجون والمعتقلات وتعريضها للموت, إضافة إلى اضطهاد القوميات الأخرى ومناضليها وسلب حقوقها بذريعة تهديد وحدة الوطن وأمن المجتمع إلى الخطر.

ج‌. وتوجهت كافة الدولة العربية إلى خوض سباق التسلح وصرف المليارات من الدولارات الأمريكية على شراء أو إنتاج الأسلحة بذريعة مواجهة إسرائيل أو عدوان الدول المجاورة في حين أن بعضها هو الذي بدأ الحرب ضد جيرانه, كما كانت عليه سياسات النظام البعثي في العراق مثلاً.

4. ونتيجة هذا الواقع تسنى للقوى المناهضة للديمقراطية استثمار وضع التقهقر في مكانة ودور وقدرات الحركة الديمقراطية واليسارية, ومنها الأحزاب الشيوعية, في الدول العربية على النضال لمواجهة القوى المضادة في تشديد الاستغلال والاضطهاد والقمع الفكري والسياسي والقومي والطائفي أيضاً, إذ امتلأت السجون بالمناضلين والمناضلات في جميع الدول العربية دون استثناء وتم التجاوز الفظ فيها على مبادئ شرعة حقوق الإنسان وكرامة الفرد, امرأة كانت أو رجلا.

5. وتحالفت القوى الحاكمة بصيغ مختلفة وأكثر من السابق مع العالم الرأسمالي بعد انهيار النظم "الاشتراكية" وتراجع دور الأحزاب الشيوعية والعمالية في تلك الدول إذ ساهمت مجتمعة في خلق المزيد من الإحباط المصحوب بحالة من التمرد على الواقع القائم. إلا إن جزءاً من هذا التمرد الشبابي والشعبي لم يكن منظماً وواضحاً واستثمر باتجاهات خاطئة وشريرة من جانب قوى إسلامية سياسية وبدعم من حكومات في العالم الرأسمالي وفي الدول العربية والإسلامية وبشكل خاص في فترة الصراع بين الدول الرأسمالية والدول الاشتراكية وارتكاب الاتحاد السوفييتي خطيئة التدخل العسكري والسياسي في أفغانستان واحتلالها الذي ساعد على نشوء تحالف واسع بين الدول التي تدعي الإسلام (السعودية ودول الخليج وباكستان وإيران) على سبيل المثال لا الحصر وقوى إسلامية سياسية فيها, وفي الدول الرأسمالية المتقدمة ضد الاتحاد السوفييتي. وسعت الدول الرأسمالية, وخاصة الولايات المتحدة وبريطانيا, إلى تنشيط قوى الإسلام السياسية بكل فصائلها وخاصة المتطرفة منها ومدها بكل ما يساهم في تعزيزها وتوسيع قاعدتها ودورها السياسي والعسكري لمحاربة الاتحاد السوفييتي في أفغانستان من جهة, وكافة الحركات والقوى اليسارية والديمقراطية في الدول العربية وبقية دول المنطقة من جهة ثانية. وكان لسقوط النظام الشاهنشاهي في إيران وسرقة الثورة من جانب قوى الإسلام السياسية الشيعية المتطرفة دورها البالغ والبارز في الدعوة إلى تصدير الثورة الإسلامية الشيعية والتي اشتدت أثناء وأعقاب الحرب العراقية الإيرانية وانهيار الدول "الاشتراكية" وتعزيز الوجهة الإسلامية المتطرفة في الدول العربية.

ومنذ بداية العقد الأخير من القرن العشرين انتعش ونما دور القوى الإسلامية السياسية بسبب قمع القوى الديمقراطية والسياسية وأزمتها الذاتية وبروز ضعفها الملموس في النضال المباشرة في الكثير من الدول العربية نتيجة الأخطاء الفادحة في سياسات الولايات المتحدة الأمريكية وبقية الدول الرأسمالية مما فسح في المجال إلى تعاظم دورها وجرها فئات جديدة إلى جانبها. وفي هذا المجال لعبت عوامل الاضطهاد وغياب الحريات الديمقراطية والبطالة والفقر والتمييز والشعور بالمظلومية من سياسات الغرب إلى تنامي قاعدة هذه القوى واستخدمت الجوامع والمساجد والأموال السعودية ومن دول عربية وإسلامية وشخصيات أخرى (وخاصة دول الخليج) المزيد من الأموال والدعم لأغراضها في الدعوة إلى الإرهاب وممارسته بذريعة مكافحة الاستعمار والكفار في الدول العربية والإسلامية والعالم. وأعطى الإرهاب الإسلامي السياسي المتطرف والدولي في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001, وبوجود قوى اللبرالية الجديدة في السلطة في الولايات المتحدة وبريطانيا, دفعاً جديداً مؤذياً لشعوب هذه الدول والحركة الديمقراطية وقواها الأساسية.

وفي نهاية العقد الأخير من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين انتشرت هذه القوى في دول مثل الجزائر والسودان والسعودية واليمن والمغرب والعراق ولبنان وفلسطين, وكذلك في باكستان وأفغانستان وبعض دول جنوب شرق آسيا, إضافة إلى قوى إسلامية أخرى تحت اسم القوى الإسلامية "المعتدلة" لتمارس ذات الأهداف ولكن بدون عمليات إرهابية مباشرة, ولكنها ذات دعاية إسلامية ومضامين فكرية تنطلق من فكرة "الحاكمية لله وحده" و"الإسلام هو الحل"!

إن المرحلة الثالثة تقترب من نهايتها لتبدأ مرحلة جديدة, المرحلة الرابعة مع بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. إنها مرحلة العد التنازلي غير القصيرة لقوى الإسلام السياسية التي عاشت فورتها ومدها الرجعي الدموي خلال السنوات العشرين المنصرمة وحتى الآن, وساء أكانت في السلطة أم خارجه وعبر الأساليب الإرهابية الفاشية والدموية والقتل الجماعي. فما هي مؤشرات المرحلة الجديدة وما هي القوى الحاملة لهذه المرحلة وما هو الدرب الذي ستسلكه؟

إن تحليل المعطيات المتوفرة في الدول العربية في منطقة الشرق الأوسط والتحولات الجارية في السياسات والمواقف على الأصعدة الدولية والإقليمية والمحلية تؤكد بدء مرحلة جديدة هي المرحلة الرابعة التي سوف تستغرق وقتاً غير قصير لتتبلور مكوناتها الأساسية وعوامل بروزها والمهمات التي يمكن إنجازها فيها, ومن ثم تكريس خصائصها وطبيعتها الجديدة.

ويبدو لي بإن العوامل الداخلية والخارجية المحركة لها والمتفاعلة في ما بينها تتحرك اليوم في حقل مليء بالألغام نشرتها كل القوى الداخلية والخارجية المناهضة للتغيير والمعرقلة لعملية الدفع باتجاه الحرية والديمقراطية والمجتمع المدني الديمقراطي العلماني, أو التي تريد وضع مصدَّات لمنع حصول تحولات عميقة وجذرية, وهي قوى ليست قليلة ولها خبرة في مكافحة قوى التقدم الاجتماعي والديمقراطية وحقوق الإنسان على الأصعدة المحلية والإقليمية والدولية.

إن بداية المرحلة لا ترتبط بقتل قائد منظمة القاعدة الإسلامية السياسية المتطرفة والإرهابية الدولية أسامة

بن لادن على أيد الفرقة العسكرية الأمريكية, على أهمية هذا الحدث, بل بسبب فشل الحركات الإسلامية السياسية المتطرفة والمعتدلة في السير ولو خطوة واحدة إلى الأمام على طريق تحقيق الأهداف التي بشرت بها حتى في الدول التي وصلت فيها إلى السلطة, إيران, السودان, السعودية, أفغانستان, بل هي في تراجع مستمر وانحسار لدورها وتأثيرها على الأصعدة المختلفة. كما إنها عجزت وفشلت فعلياً في إقناع شعوب الدول العربية بأنها قادرة على تحقيق ما تسعى إليه الشعوب عبر تطبيق الشريعة الإسلامية وفرض حاكمية الله وحده, كما هو الشعار الذي ترفعه أغلب الأحزاب الإسلامية السنية, وعبر ولاية الفقيه, ولي الله والإمام المنتظر في الأرض لدى الأحزاب الإسلامية الشيعة, بل كل ما فعلته هو نشر الإرهاب والقتل الأعمى والموت لمزيد من الناس الفقراء والمعوزين والعلماء والأطباء والنقابيين وكثرة من حملة مشعل الثقافة والفنون الإنسانية وحيثما وجدت لها تنظيماتها وقوى إرهابية دموية. وقد تجلى هذا الواقع في عدد من المؤشرات السياسية المهمة التي نشير إلى أبرزها في الآتي:

1 . إن النظم الإسلامية السياسية التي أقيمت في بعض الدول العربية أو في دول أخرى في منطقة الشرق الأوسط قد برهنت على عجزها الكامل عن تحقيق طموحات هذه الشعوب في التمتع بالحرية والحياة الديمقراطية الحرة أو تأمين العلاقات الإنسانية بين القوميات المتعددة الموجودة في تلك الدول. وكل الدلائل المتوفرة تشير بما لا يقبل الشك إلى إنها مارست سياسة الاضطهاد والقمع وفرض خيمة الفكر الواحد, إيديولوجيا "الإسلام هو الحل" على "الرعية", ومصادرة حرية وحقوق أتباع الديانات والمذاهب الأخرى أو الفكر الآخر وكذلك أتباع القوميات الأخرى. إن تنفيذ أحكام الإعدام أو القتل أو الجلد في الشوارع أو زج الناس بالسجون وتعريضهم للتعذيب الجسدي والنفسي بأبشع صوره أثار ويثير الشبيبة وشعوب تلك الدول ويدعوها إلى مناهضة تلك النظم والقوى التي تمارس هذه الأساليب المتعارضة مع مبادئ ومضامين شرعة حقوق الإنسان وكل العهود والمواثيق الدولية.

2 . وأن قوى الإسلام السياسية التي برزت في دول عربية أخرى وفي منطقة الشرق الأوسط عموماً مارست أساليب العنف والإرهاب في مواجهة أتباع الديانات والمذاهب الدينية الأخرى وكذلك أتباع الفكر الأخر. وقد قتل على هذا الطريق عشرات ألوف الناس الأبرياء في الكثير من الدول العربية والإسلامية, سواء تم ذلك عبر العمليات الانتحارية أم السيارات المفخخة أم العبوات الناسفة أم الاغتيالات المباشرة بكواتم الصوت وغيرها أم الهجوم المسلح على الفنادق والهيئات الدبلوماسية والبنوك وقتل وحرق المزيد من البشر البريء ...الخ. فأفغانستان وباكستان والعراق, على سبيل المثال لا الحصر, تقدم نماذج شريرة لممارسات قوى الإرهاب \لإسلامية السياسية المتطرفة. ولم يعد يشعر المواطن والمواطنة بالأمن والاستقرار في بلاده بل يمكن أن يتعرض الجميع إلى خطر الموت أو الإصابة والتعويق بسبب تلك العمليات الجنوبية المجرمة التي تمارسها قوى الإرهاب.

3 . ولم تقدم تلك القوى الإسلامية السياسية الحلول العملية لمشكلات شعوب هذه الدول والتي تتلخص في التخلص من واقع التخلف الاقتصادي والاجتماعي والحضاري والمكشوفية الشديدة على الخارج والبطالة الواسعة, سواء أكانت مكشوفة أم مقنعة, وكذلك الفساد المالي والإداري الذي لم يرحم حتى الناس الفقراء والعائلات المعوزة. وفي هذه الدول اتسعت الفجوة الدخلية والحياتية بين العائلات الفقيرة والعائلات الغنية بجلاء كبير وأصبحت لا تطاق. وتقدم إيران نموذجاً صارخاً لمثل هذه الدول, وكذلك السعودية.

4 . وفي مثل هذه النظم فقدت المرأة القليل من الحقوق التي كانت تتمتع بها في بعض الدول العربية, وأصبحت تعاني من فقدان حقوقها الإنسانية وإنسانيتها بفعل الأساليب الرجعية والمتخلفة والمتوحشة أحياناً كثيرة التي تتعامل مع المرأة. كما تعاني المرأة الشابة لا من البطالة والفراغ القاتل فحسب, بل ومن سلبهن حقوقهن المشروعة حتى في اختيار الزوجد أو يفرض عليهن الختان أو البقاء في البيت. فالمساواة بين المرأة والرجل حلم يبدو وكأنه بعيد المنال بالنسبة للملايين من النساء في الدول العربية.

تحت وطأة هذه العوامل تعيش النسبة العظمى من نساء الدول العربية وتتعرض إلى شتى المضايقات والإساءات والأضرار الصحية والنفسية والعصبية. ويمكن أن نتصور حالة المرأة في السعودية التي تمنع من سياقة السيارة وتعتقل لهذا السبب في حين أن أختها المرأة في غالبية بقاع العالم تمارس النشاط في جميع مجالات الحياة العامة وتقود الطائرات وتصعد إلى الفضاء وتمارس شتى الميادين الرياضية.

5 . وفي هذه النظم وما يماثلها اتسعت قائمة المحرمات على الإنسان بحيث فقد الكثير من حقوق المواطنة الاعتيادية والمشروعة وحريته الفردية وحقه في ممارسة الكثير من الأفعال الاعتيادية. فقد قدمت المرأة في السودان إلى المحاكمة لأنها ارتدت السروال الاعتيادي الطويل لأنه يثير غريزة الرجال وجلدن لهذا السبب, كما جلدت المرأة في إيران أو حتى رجمت بالحجارة لتهمة الزنى وغيرها, أو الجلد والسجن لمن يتعاطي تناول الخمور, وهو حق يفترض أن يكون مكفول لكل إنسان, أو منع المرأة من مغادرة البلاد دون أن يكوم رجل من أفراد عائلتها معها. لقد ضاق الشباب والشابات ذرعاً بهذه المحرمات وخاصة في الفترة الراهنة التي ازداد إصدار الفتاوى البائسة والغبية من شيوخ دين جهلة بالحياة وبالدين وبطبيعة الإنسان وحقوقه.

إن ربيع الشعوب في الدول العربية لم يأت عبثاً ولا صدفة, بل هو نتاج طبيعي وتحول كيفي لفعل تراكم عوامل كثيرة حصلت خلال العقود والأعوام المنصرمة, إضافة إلى نضال قوى التقدم والديمقراطية. وهي البداية الفعلية أو العد التنازلي الفعلي لمد وهيمنة الحركات الإسلامية المتطرفة على الشارع في الدول العربية وتأثير قواها المعتدلة التي تريد إقامة دول إسلامية متجبرة.

إن المرحلة الرابعة, التي نحن في بداية تكونها, ستحتاج إلى وقت غير قصير للتبلور وتكامل العوامل الفاعلة فيها والمؤثرة عليها, وبدايتها كانت سلمية وديمقراطية ثورية تجلت في الانتفاضات الشبابية والشعبية التي تفجرت تحت قياد شباب وشابات تميزوا بالحيوية والجرأة والصلابة في الموقف والأسلوب والهدف ورفضوا الواقع المر الذي عاشوا أو ما زالوا يعيشون تحت وطأته وعذاباته جرح كرامتهم. إنها المرحلة التي تستوجب منا جميعاً وعي طبيعتها وأسباب نهوضها والنتائج التي يمكن أن تصل إليها خلال هذا العقد والعقد القادم.

إن المخاطر التي تتهددها الأتي من جانبين:

الجانب الأول: سوف ترفض قوى الإسلام السياسية وكل القوى المساندة لها والتي تعود لعلاقات إنتاجية متخلفة وظالمة ترك الساحة السياسية بسهولة, بل سوف تبقى تتشبث بالحكم أو بالتأثير الذي حققته خلال العقدين المنصرمين. إلا إن الدلائل تشير إلى تراجع دورها وتأثيرها الفكري والسياسي رغم ما ستمارسه من أساليب قمعية وقهرية وما ستتسبب به من كوارث دموية ضد الإنسان أثناء تراجعها عن مواقعها السياسية في الحكم أو خارجه. إن الخسائر البشرية ستكون غالية وكبيرة رغم الطابع السلمي والديمقراطي للانتفاضات الشبابية والشعبية, إذ أن ممارسة العنف يأتي من جانب قوى الإسلام السياسية, كما لوحظ ذلك في كل من تونس ومصر, أو كما يجري اليوم في كل من اليمن وليبيا وسوريا, أو أسلوب القمع الذي مارسته الحكومة العراقية ضد المظاهرات الشبابية والاتهامات الباطلة والجائرة التي أطلقتها وعبأت قواها وكتابها ضد القوى الراغبة في الإصلاح والتطوير والتغيير الديمقراطي.
الجانب الثاني: ستمارس الولايات المتحدة, وكذا الكثير من الدول الغربية, دوران في خضم الأحداث التي لم تكن تتوقعها ولا عرفت بها ولم تستطع أجهزتها الأمنية الواسعة الانتشار إدراك طبيعة قواها والمغزى الإنساني وراء هذه الانتفاضات الشعبية. وهي اليوم تقف بين "حامة ومانة", بين مدينتي نعم ولا, بين مؤيد خشية فقدان ما تبقى لها من رصيد في المنطقة, وبين مهادن لقوى الإسلام السياسي والقوى الرجعية خشية انفلات الوضع وفقدان مصالحها في المنطقة. وهو نفس الموقف الذي اتخذته وما تزال تمارسه كل من روسيا والصين الشعبية إزاء انتفاضات الشعوب في الدول العربية انطلاقاً من مصالحهما وصراعهما حول نفوذهما في المنطقة على حساب مصالح شعوب المنطقة والدول العربية على نحو خاص. فهي تدرك أن القوى القديمة والإسلامية السياسية لم تعد مقبولة وتُرفض يوماً بعد آخر, وبالتالي فالحركات الشبابية الشعبية الحديثة تتطور وتحرز تقدماً في التعبئة الشعبية وفي رفع سقف مطالبها العادلة والمشروعة, وهي مجبرة بالتالي إلى تأييدها بالقدر الذي تعتقد إنها تستطيع السيطرة النسبية على وجهتها. ولكنها في الوقت نفسه تخشى من إفلات الحركة من تأثيرها ودور المؤيدين لها, فتسعى إلى الحد من قوة اندفاعها وأخذ زمام المبادرة بالحوار والتفاوض مع الحكام من جهة, ومع من تطلق عليهم بقوى الإسلام السياسي المعتدلة مثل جماعة الأخوان المسلمين في مصر, على غرار ما جرى في العراق في المساومة مع قوى الإسلام السياسي الشيعية من جهة أخرى, كما تحاول الاحتفاظ بعلاقة طيبة مع قوى الانتفاضة أو شرائح منها من جهة ثالثة.
إن مشكلة الإدارة الأمريكية تخشى على مصالحها من قوى لم تعرفها من قبل ولا تعرف أهدافها ومراميها ولا مواقفها من سياسات الولايات المتحدة في المنطقة, وهو ما يحيرها ويجعلها تتخبط في مواقفها وسياساتها التكتيكية في المنطقة. ومن هنا تنطلق أهمية التفاعل بين قوى الانتفاضات الشبابية والتنظيمات الديمقراطية المعارضة بهدف تنظيم حركتها وتطويرها والتصدي لمحاولات قمعها أو أضعاف مهماتها في التغيير العميق المنشود لصالح شعوبها والتقدم الاجتماعي والديمقراطية والسلام في المنطقة.

14/7/2011
كاظم حبيب

Opinions
الأرشيف اقرأ المزيد
المهندس عمار الكهية : لقاء رئيس الوزراء نوري المالكي مع الدكتور اياد علاوي لا يؤثر في تغير المعادلة السياسية شبكة أخبار نركال/NNN/ صرح المهندس عمار الكهية عضو ائتلاف الوطني العراقي لجريدة الاصلاح الوطني قائلا : في يوم البيئة العالمي :عدم وجود نسب رسمية للتلوث البيئي في العراق وعدد المواقع الملوثة تقدر بالمئات سانتا ميخائيل أكد مستشار وزارة البيئة د. رعد محمد صالح عدم أمكانية تحديد نسبة التلوث في والعراق , لعدم وجود الاجهزة الخاصة بذلك . في حين أوضح المهندس لؤي المختار من قسم تقدير الاثر البيئي في وزارة البيئة وجود العديد من المناطق الملوثة في العراق و انفجار عبوة ناسفة في ساحة بيروت بوسط بغداد نركال كيت/ انفجرت عبوة ناسفة ثانية مساء هذا اليوم في شارع فلسطين قرب ساحة بيروت مما ادى الى اصابة عدد من المواطنين وزارة المالية تطلق 30% من الموازنة الاستثمارية للمحافظات شبكة اخبار نركال/NNN/ بغداد-المركز الخبري(المجلس الاعلى)/ أوعز وزيرُ المالية ِباقر جبر الزبيدي باطلاق ِثلاثين بالمئةِ من الموازنةِ الأستثماريِةِ للمحافظاتِ بهدفِ
Side Adv2 Side Adv1