بنازير : ضحيّة الاعصار الاسود !
لا اريد التفكير بالمخاطر. اريد فقط التفكير بالفرصة المتاحة امام شعبي".بنازير
لقد كان الاعصار الاسود اقوى منها حقا .. فهوت بكل كبرياء من الاعلى وهي شامخة بين ابناء شعبها وعلى ذرات ترابها في راولبندي . لقد ذهبت بنازير ضحية ثمينة من اجل الباكستان اولا ، وقربانا من اجل المبادئ الديمقراطية ثانيا ، ومثلا رائعا من اجل الزعامة الحقيقية ثالثا .. رحلت مع الخالدين وهي تحيي شعبها الذي احبها من اعماقه .. رحلت وهي تبتسم للعالم كله بسمة الوداع .. رحلت بعز وشموخ وبارادة قلما يمتلكها غيرها من الزعماء .. لقد عاشت بنازير وماتت زعيمة امتلكت خصال الزعامة الحقيقية .
ربما يختلف الناس سياسيا معها قليلا او كثيرا ، ولكن لا اعتقد ان مصرعها غدرا لم يتألم له الجميع باستثناء القتلة الذين وجدوا فيها ما يهددهم ، ويحدد مصيرهم ، اذ كان امامها زمن يمكنها ان تقدم فيه الكثير من الابداع والعطاء لباكستان والعالم الاسلامي ، ولكن لا راد لقضاء الله ..
لقد تألمت جدا لرحيل بنازير المحزن بسبب معرفتي بها زميلة دراسة ببريطانيا مذ افترقتا قبل ثلاثين سنة بالضبط عام 1977.. وبسبب قناعتي بزعامتها التاريخية وقوة ارادتها السياسية وعشقها لوطنها وحبها لشعبها ، وانها وريثة ذلك الاب الذي اراد ان يصنع من باكستان شيئا متقدّما في هذا الوجود ..
اروع ما سيسجله التاريخ عنها انها ذهبت تخطو نحو حتفها بنفسها بكل شجاعة وجرأة نادرتين وهي تعلم كم الوضع متوتر وملتهب في بلادها .. في حين هرب غيرها من الزعماء في الجحور او في مناطق ملونة ! ربما صارعت بنازير كل قوى التحدي ولكنها عجزت ان تمضى في طريق حتى النهاية وكانت نهاية الطريق قصيرة جدا ويا للاسف الشديد .. ربما كانت بنازير وستبقى مثلا تاريخيا لكل الاجيال القادمة وهو يحكي ان التوحش ومسلسل التصفيات والتفجيرات والقتل الغادر لا يعرف ابدا لا المبادئ الوطنية ولا الدينية ولا الاخلاقية ولا الانسانية .. لو كانوا رجالا حقيقيين لما قتلوا امرأة بهذا الاسلوب المخزي ولا بأي اسلوب ابتدعوه لغة لهم بعيدا عن المنطق وعن الاخلاق .. ولا يمكن لنا جميعا ان نسكت الى ما لا نهاية على هذا المسلسل الغادر في عالمنا الاسلامي ، وهو ينهش في لحمنا كالوحش الكاسر !
كتبت في جريدة البيان الزاهرة يوم 24 اكتوبر الماضي مقالا عنوانه : " بنازير امرأة تقف بوجه الاعصار " تخوفت جدا من ان تتقدم بخطاها السريعة نحو الباكستان ، وهي بوابة مرشّحة للجحيم .. ويبدو ان الموت قد غدا نبراسا عند بنازير مذ تخطف والدها الزعيم الباكستاني الشهير ذو الفقار علي بوتو باعدامه ظلما وعدوانا ، لها ولافراد عائلته من بعده للنضال طويلا في قيادة حزب الشعب ضد الدكتاتورية وضد العسكر وضد الطغيان ..
لقد سجلت بنازير موقفا صلبا سوف لن ينساه التاريخ ابدا عندما مضت نحو وطنها وهي لا تريد التفكير بالمخاطر ـ كما قالت ـ .. ولكنها كانت تتطلع لبناء مستقبل جديد بالتفكير فقط بالفرصة المتاحة امام شعبها الذي يبكيها اليوم بعد ان استقبلها استقبال الابطال ووجدها ثابتة صامدة ازاء اول هجمة ارهابية طالت الجموع من حولها .. وقد قبلت التحدي ثانية بالاصرار على البقاء ، فكان التحدي الثالث اقوى منها فقتلها ..
لم تعرف بنازير الهزيمة طريقا الى قلبها في اي يوم من الايام .. كانت زعيمة حقيقية للباكستان وقد تصرّفت كزعيمة حقيقية حتى وهي تحت الاقامة الجبرية او منفية بعيدا وراء البحور ووراء الحدود .. لم تفكر بالانهزام والهزيمة وقد ذهبت الى الباكستان وهي تدرك ان البلاد قد اصبحت كرة ملتهبة تغلي كالمرجل .. لم تهن ولم تحزن ولم تتردد ولم ترسم امامها اي طريق للرجوع او النكوص او العودة ، بل رسمت طريقا واحدا قادها حتما الى السماء ..
ان بنازير الزعيمة التي رحلت هي غير بنازير الزميلة التي عرفتها منذ ثلاثين سنة .. كم كانت خجولة وترتاب من المجهول ؟ كم كانت اضعف من الاخريات ؟ كم كانت تعشق العزلة والبقاء تحت ظلال الاشجار الباسقة ؟ كم كانت تطيل التأمل في الاشياء ؟ كم كانت تخشى من الامتحانات ؟ كم كانت تهوى الخيال وقراءة اشعار محمد اقبال ؟ كم كانت تحب الازهار وخرير المياه ؟ كم كانت تعشق العصافير وهي تغني في الصباح الباكر ؟
وها نحن نراها تتلقى الرصاص وهي شامخة باسقة بعد ان علمها الزمن كل التحديات .. وها نحن وجدناها تعيد خطواتها من جديد لرسم مشروع جديد لباكستان ، وقد سبقها الموت ليسد الطريق عليها وعلى الباكستان امام التغيير المنشود .. وها نحن نراها وقد خبرت معنى الزعامة وها نحن وجدنا انها تمتلك ناصية كاريزما من نوع خاص .. وها نحن نكتشفها وكأننا نتعرف عليها للمرة الاولى .. وها هي قد صنعت مجدها بدمائها .. وها نحن نميزّها مثلا حيا ورائعا للمرأة التي اختارت الزعامة مهنة وحرفة لها في هذا العالم .. وها نحن ندرك مكانها بعد الرحيل ، كما ستدرك الباكستان قيمة بنازير في المستقبل .. كنت اخشى عليها من الموت ، وكانت ستأتي باعلى الاصوات كي تبدأ الباكستان مرحلة جديدة .. ولكن ؟
جاء اغتيال السيدة بنازير بوتو ليفتح الباب امام الباكستان على نار سعير قادم ، خصوصا اذا ما علمنا ان اعداء الحياة والانسان قد كثروا اليوم في عالمنا ، وما دامت الولايات المتحدة الامريكية جالسة في قلب الميدان ، فان الامور ستنتقل من سيئ الى أسوأ .. خصوصا وان برويز مشّرف يجلس عند خط النار . فمن يضمن الاستقرار في الباكستان اذا كانت التحديات اقوى بكثير من التمنيات ؟ هذا ما ستعلن عنه الايام القادمة .