بنذير بوتو بين الشجاعة والمغامرة
كان مصرع السيدة بنذير بوتو الذي هز الشارع الباكستاني ودوى صداه في الأوساط الدولية مشهداً دراماتيكياً متوقعاً ، نظراً لحالة الإحتقان القصوى التي عمت البلاد واربكت اوساط النظام الحاكم ، ولحدة ردود الفعل عند القوى الإسلامية المتشددة وفي مقدمتها تنظيم القاعدة الذي استنفر قواه في وئد المشروع الذي حملته هذه السيدة الديمقراطية لتحريك الوضع الباكستاني باتجاه التغيير الديمقراطي في البلاد ، ووضع حد لنشاط القوى الإسلاموية التي طبعت باكستان بطابع الدولة الإرهابية وحطت من سمعتها بسبب تحولها الى حاضنة الإرهاب وزعمائه ومدارسه وانتشار فيها مراكز تدريب وتعبئة الطالبان وعناصر القاعدة وقيادتها .اصرت السيدة بوتو على لعب دور تاريخي في الدفاع عن الديمقراطية في بلادها عن طريق التعبئة السلمية ، لدحر النظام العسكري المتهم بتقاعسه وتماطله في التصدي للنشاط الإرهابي المستحكم في منطقة واسعة من باكستان . ومن أجل ذلك تحدت جميع التحذيرات والتهديدات بشجاعة وعادت الى وطنها المضطرب بعد غياب طويل ، لتواجه منذ أول خطوة فيه محاولة اغتيال ، عبر حادث دام استهدفها وكاد أن ينهي حياتها .. أجل حلت في وسط فوضى عارمة دون حماية تذكر ، رغم أنها طالبت بها من رأس النظام الحاكم الجنرال برويز مشرف ولم يلب طلبها ـ بحسب زعمها ـ طالبت بالحماية لأنها كانت على علم مسبق بأن مهمتها تلك محفوفة بالمخاطر . لكن ذلك لم يمنعها من الإقتحام بشجاعة وهي تزهو بوسط الآلاف من المناصرين لها ولمشروعها في التبديل الديمقراطي .. وجدت نفسها بين حشود كبيرة من الجماهير في كل جولاتها ، تلتف حولها في إعادة الديمقراطية التي يناضل مـن اجلهـا حزبهـا ( حزب الشعب ) الذي أوصل والدها ذو الفقار علي بوتو الى رئاسة الدولة ، عبر انتخابات ديمقراطية في سنة 1971 ليفتح عهداً جديداً بعد عقود من حكم الجنرالات ، لكن سرعان ما شعرت الإدارة الأمريكية آنذاك بخطورة وجود نظام ديمقراطي في بلد مثل باكستان وجدت فيه منطقة نفوذ مهمة لها في شبه القارة الهندية ، بعد قيام دولة الصين الشعبية واتسام الهند بسياسة ممالئة للإتحاد السوفيتي . في سنة 1977 تم الإطاحة بذلك الزعيم الديمقراطي على يد الجنرال ضياء الحق ذي النزعة الإسلامية ، ولم يكتف بتنحية بوتو ( ذو الفقار ) وإنما همَّ بملاحقته حتى برر إعدامه تحت ذرائع وتهم باطلة الصقها به للتخلص منه سنة 1979 حسب ما أملته سياسة امريكا في تلك الحقبة ، وتم التخلص بعد ذلك حتى من ولديه غيلةً بطريقة الإغتيال واحداً إثر الآخر .
مكَّنتْ الجماهير الشعبية بنذير بوتو من الوصول الى رئاسة الوزراء عن طريق الإنتخابات في سنة 1988 تم اقصاؤها بعد فترة وسجنها ، أعيدت للمرة الثانية في مطلع التسعينات ثم انتهت رئاستها أمام هجمة شرسة من المعادين ، وعلى اثرها تم ابعادها عـن منصبها والى خارج الوطن .
لا شك أن ما صممت القيام به الشهيدة بوتو ، كان من تخطيط الدوائر الأمريكية وفق ستراتيجية دعم وتفعيل القوى العلمانية في الشارع الباكستاني ، وتعبئتها تحت قيادة إمراة شجاعة تتمتع بمراس طويل في العمل السياسي ( الجماهيري والسلطوي ) في بلدها ، وتمت دعوتها لهذه المهمة بعد أن اظهرت اندفاعاً للقيام بها ، لتدارك تدهور الأوضاع في وطنها الذي استحال الى مركز تجمع القوى الإرهابية التي تلقى كل الدعم من الأحزاب الإسلامية المتشددة من داخل باكستان وخارجها .
لم تجد أمريكا حلاً آخراً غير هذا ، بعد أن خيّب الجنرال ( مشرف ) ضنها بما يبديه من الضعف في مواجهة الوضع المتردي في بلده ، بسبب تصاعد مد القوى الإسلاميـة ونشاطاتهـا الإرهابيـة ، المد الذي أثار مخاوف الإدارة الأمريكية من وصول هذه القوى الى مراكز القرار في دولة باكستان ووضع اليد على قوتها النووية . وتاتي المخاوف الأمريكية في مكانها إزاء تصاعد نفوذ القاعدة في تلك البلاد وازدياد انتشارها ، كما يدلل ذلك ظهور عناصرها للعيان عبر وسائل الإعلام المرئية ، وهي في حالة التواجد والإنتقال والسيطرة على مناطق ومدن في اقاليم القبائل الباكستانية ، وخاصة في منطقة وزيرستان . وهذا ما يولد شكوكاً بأن النظام الباكستاني من رئيسه والى قواته المكلفة بملاحقة عناصر الإرهاب طيلة الست سنوات ، لم يكونوا جادين بهذه المهمة ، مما ولد قناعة عند العديد في الأوساط الأمريكية المسؤولة بأن ( برويز مشرف ) نفسه لم يفِ بالتزاماته بعد تعهده بتصفية قواعد الإرهاب وتجمعاته في باكستان ، علماً بأنه كان قد تسلم تهديداً شديد اللهجة من الإدارة الأمريكية تنذره به ـ بعد اسقاط حكومة طالبان ـ من مغبة عدم التعاون معها في ملاحقة زعماء القاعدة وعناصرها المتلجئين للتمركز والإحتمـاء في بلـده . وقـد صـرح ( مشرف ) بذلك التهديد مؤخراً أمام الجمهور الأمريكي في احد لقاءاته مع الرئيس الأمريكي في واشنطن .
وتتسرب أرقام من بعض التقارير الأمريكية بمبالغ تقدر بمليارات من الدولارات مدفوعة من قبل الولايات المتحدة للرئيس الباكستاني ، لقاء تبنيه مهمة تصفية الإرهاب ، والنتيجة كانت الفشل الذي كَثُرَ عنه الكلام في الوسط الأمريكي حيث راح يلوِّح عن وجود تماطل واضح عند مشرف في هذا الشأن . وتذهب بعض المصادر المسؤولة في الحكومة الأمريكية الى تفسير موقف الرئيس الباكستاني بمحض مناورة لإدامة حالة الإرهاب ، من أجل إدامة استلام المبالغ بموجب الصفقة القائمة بينه وبين الأمريكان . والحق يقال بأن موقف الحكومة الباكستانية من مسألة ملاحقة الإرهاب ، قد تتداخل فيها مساومات عديدة قائمة على الإبتزاز للحصول على دفوعات كبيرة المبالغ من أمريكا او حتى من مراكز دعم وتمويل التنظيمات الإرهابية وصانعي عناصر الإرهاب ، كالمؤسسة الدينية الوهابية وسالكين نهجها . وإلاّ كيف تستعصي على نظام يرأسه جنرال ، تصفية البؤر الإرهابية التي تزيد انتشاراً ونشاطاً في بلاده وهو المسؤول الأول والأخير في اجتثاث شأفتها . إذ لا عذر له أمام العالم ببقاء بلده منطلقاً لإرهاب عام ، يهدد بتدمير الحضارة الإنسانية . ولا نتصور بأن السيد بوتو كانت تغالي فـي مقدرتهـا ـ التي اعلنت عنهـا ـ على تطهير بلدها من هذه الآفة .
ومن هذا التصور يُعزى سبب الرغبة الأمريكية في التغيير الديمقراطي في باكستان ، لترتيب الأوضاع بالشكل الذي يقوِّض النفوذ الإسلامي السياسي للوصول ، الى إنهاء ظاهرة احتضان قادة الإرهاب والقضاء على العوامل المساعدة لوجودهم ولإنتشار نشاطهم .
لما تكفلت السيدة بوتو بإنجاز المهمة الصعبة القائمة على ستراتيجية قلب الموازين في بلد كبير وذي تاريخ طويل من حكم الجنرالات ، لابد أنها كانت تُقدِّر خطورة المجابهة مع جبهة عريضة من المناوئين لمشروعها ابتداءاً من رئاسة النظام ذي الطابع العسكري ومروراً بالقوى الأصولية الشرسة في بلدها ، وحتى مع قوى إقليمية متمثلة ببعض الأنظمة الشمولية مضافاً اليها شرائح كبيرة من مجتمعاتها التي تدين بالولاء للعقلية السلفية الرافضين جميعاً لمبدأ اضطلاع إمرأة بمأثرة تاريخية في منطقة الأحداث الساخنة ، وطرح نفسها كنموذج في منطقة اسلامية لاتبيح للمراة الظهور بقدرات مثل هذه على المسرح السياسي ، وبنفس الوقت لا يروق لها قيام أي نظام ديمقراطي في بلد عنوانه الجمهورية الباكستانية الإسلامية .
كانت الشهيدة بوتو شجاعة في هذه المواجهة وكانت مؤمنة برسالتها ، ولا نظن شططاً في تعهدها أمام شعبها والعالم بقيادة التغيير ، وإنقاذ بلدها وتطهيره من براثن الإرهاب المتعشش فيه والذي اضر بسمعة باكستان الدولية ، ولعله يسبب لها ما لا تحمد عقباه . ورغم أنها كانت تقود ثورة سلمية لتحقيق مشروعها ، بيد أنها كانت في مأزق خطر تركب مـده بمزيـد مـن الثقـة بالنفس ، الأمر الذي جعلها غير آبهة بالمخاطر وبما كان ينتظرها . نستطيع أن نقول بأن بوتو استهانت بكيد الأعداء ، وإلاً ماذا يمكن أن يقال عن غفلتها التي سهلت استهدافها بذلك الشكل . لقد صرحت بنفسها أنها بدون حماية كافية ، ورغم ذلك كانت تتجول من منطقة الى أخرى مخترقةً الحشود وهي في سيارة مكشوفة محفوفة ببعض الحراس فقط . وبالتأكيد لم يكن لها اي جهاز استخباري يمشط أمامها المناطق التي كانت تؤمها ، وتلقي على الجماهير هناك خطبها النارية . ومن هذا المنظور يمكن القول بأن الشهيدة بنذير بوتو جمعت بين الشجاعة والمغامرة .