Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

تذكار الإنجيليين الأربعة

القراءات الطقسية: القراءة الأولى: أعمال الرسل 5 / 12 _ 32 وكان يجري عن أيدي الرسل . . .

القراءة الثانية: 1 قورنتس 4 / 9 _ 16 لأني أرى أن الله أنزلنا نحن الرسل . . + 2 قورنتس 1 / 8 _ 14 فإننا لا نريد أيها الأخوة أن . . .

القراءة الثالثة: متى 9 / 35 _ 38 وكان يسوع يسير في جميع المدن والقرى . + متى 10 / 1 _ 15 ودعا تلاميذه الاثني عشر فأولاهم . . .



1_ الإنجيلي متى: متى من الاسم العبري " مثتيا " الذي معناه " عطية الله ". وهو أحد الاثني عشر رسولاً وكاتب الإنجيل الأول المنسوب إليه، وسمي لاوي ابن حلفى. وكان في الأصل جابياً في كفر ناحوم.[1]

كان الرسول متى من الجليل نظير الرسل، ما عدا يهوذا الإسخريوطي. ولم يكن صياداً على مثال بطرس وأندراوس ويعقوب ويوحنا، أعني من عامة الناس الذين لا شأن لهم في المجتمع الإسرائيلي الراقي، بل كان أحقر من ذلك بكثير لأنه كان عشاراً. وكان العشارون بكثير جباة رسميين يعملون لحساب الرومانيين الفاتحين، لذلك كانوا ممقوتين عند الشعب، ومعدودين خطأة في نظر الناس وأمام الشرع الإسرائيلي. إلا أنه كان أمام الله إسرائيلياً مستقيماً، على مثال زكا العشار زميله في الوظيفة. وكان بلا ريب من أولئك العشارين الذين كانوا يتراكضون إلى سماع أقوال يسوع ومواعظه، لأنهم كانوا يجدون فيها ندىً سماوياً وتعزية روحية لقلوبهم المسكينة المتألمة، المتعطشة إلى الحق والحياة.

وبعد أن شفى يسوع المخلع في كفر ناحوم وغفر له خطاياه، ترك البيت الذي كان فيه وخرج: " فرأى رجلاً جالساً عند مائدة الجباية اسمه متى، فقال له اتبعني. فقام وتبعه ". إن يسوع نظرا إلى متى فوجد فيه ضالته، ورأى بسابق عمله رسولاً غيوراً، وإنجيلياً سماوياً، وشهيداً مجيداً، فدعاه إلى الانضمام إليه. ففي الحال ترك متى كل شيء وتبعه.

ولكي يظهر له شكره على ذلك الشرف الأثيل الذي خصه به يسوع. صنع له عشاءً عظيماً ودعا إلى ذلك العشاء الكثيرين من زملائه العشارين، ومن أولئك الخطأة الشرعيين. ولكي يظهر الفادي الإلهي رضاه عن ذلك الاجتماع، وانشراحه من وجوده بين أولئك الخطأة، أخذ ينتصر لهم ويدافع عنهم أمام الفريسيين، الذين أخذوا يتذمرون عليه بقوله: " لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب، لكن ذوو الأسقام. فأذهبوا وأعلموا ما هو. إني أريد رحمة لا ذبيحة، لأني لم آتِ لأدعو صديقين بل خطأة ".

ومن بعد حادث الوليمة لا نجد لمتى الرسول ذكراً خاصاً به في الأناجيل الأربعة. بل كانت حياته مع الفادي الإلهي حياة سائر الرسل، فإنه لزم الرب يسوع نظيرهم، وسمع أقواله ورأى عجائبه، وفرح بمشاهدته من بعد قيامته، وامتلأ من الروح القدس يوم العنصرة، وبدأ بشارته في أورشليم مع الرسل، واحتمل معهم الإهانة والضرب والسجن لأجل اسم الرب يسوع.

وكان مغتبطاً مثلهم بتلك الإهانة وذلك العذاب. فلما حان الوقت دعاه فيه الرب إلى نشر الإيمان في أقطار الدنيا، فقبل مغادرته أورشليم وبلاد اليهودية، وضع إنجيله الشريف ليبقى ذكراً ودستوراً لأبناء قومه من اليهود والمتنصرين. هذا رأي افسافيوس نقلاً عن القديس اكلمنضس الإسكندري، وهو رأي القديس ايريناوس أيضاً. ومن بعد ذلك قام يطوف بلاد الله الواسعة ويبشر بكلمة الرب.

ومنهم من يقول أنه بشر في بلاد العرب، وآخرون يقولون أنه طاف في بلاد فارس وبلاد البرتيين، وغيرهم يقول أنه وصل إلى بلاد الحبشة، وهدى تلك الشعوب الطيبة إلى الإيمان بالمسيح. ويقول القديس اكلمنضس الإسكندري في كلامه على فضائل الرسول متى، أنه كان كثير العبادة والصيام. وأنه لم يكن يذوق اللحم مطلقاً، بل كان يغتدي بالأعشاب والحبوب. وأنهى القديس متى حياته بالاستشهاد في بلاد الحبشة.

وضع القديس متى إنجيله لأجل العبرانيين المتنصرين. وربما وضعه باللغة الآرامية التي كان يتكلمها أهل فلسطين، ثم نقله إلى اليونانية خدمة للشعوب التي مر بها مبشراً ومعلماً. ولم تكن غايته من وضع ذلك الإنجيل أن يسرد حياة يسوع وتعاليمه وعجائبه بنوع تاريخي منظم ومرتب، بل أن يورد بعض الحوادث وبعض المواعظ، ويبين للعبرانيين أن يسوع هو المسيح المنتظر، وأنه هو الملك الحقيقي، وهو المشترع الأكبر، وهو النبي الأسمى، وهو الحبر الأعظم.

والإنجيلي متى يقابل دائماً بين ما كتبه الأنبياء عن المسيح، والأحوال التي ظهر فيها الرب يسوع على الأرض، ويبين للذين كانوا لا يزالون مصرين على عنادهم أنهم في ضلال. ولقد أجمع المفسرون الكاثوليك على أن إنجيل متى هو الأول بين الأناجيل الأربعة، وأن الرسول متى كتبه بلا ريب قبل السنة السبعين، بل حول السنة الخامسة والأربعين.[2]



2_ الإنجيلي مرقس: مرقس اسم لاتيني يعني " مطرقة ".[3] يرجح أن مرقس كان من أورشليم وهو من أهل الختان. وكان لأمه مريم بيت في تلك المدينة، حيث كان المؤمنون في بادئ أمرهم يجتمعون فيه للصلاة وكسر الخبز.

ولقد جاء في أعمال الرسل أن بطرس الرسول لما أطلقه الملاك من السجن، ذهب يطلب من المؤمنين مخبأ له في بيت مريم أم مرقس. واختلف الباحثون الكنسيون في هل كان مرقس من تلاميذ المسيح السبعين أم لا. وحوالي سنة 42 رافق مرقس الرسولين بولس وبرنابا في السفرة الرسولية الأولى إلى جزيرة قبرص وإلى نواحي بمفيليا، وشاركهما في الأتعاب والأثقال والتبشير. لكنه ما لبث أن تركهما وعاد إلى أنطاكية. ولما عولا على القيام بالسفرة الثانية وأراد برنابا أن يستحبا مرقس نسيبه ثانية، عارض بولس ذلك، فوقع بينهما مشاجرة حتى فارق أحدهما الآخر. فأخذ برنابا مرقس وأقلع إلى قبرص. وقد أصر برنابا على أن يرافقه مرقس، لأنه كان يعرف غيرته وحسن خدمته وثقافته وفطنته. إلا أن بولس عاد فتصالح مع مرقس، وقبله في رفقته، وصار يعتمد على تفانيه. ولقد ذكره مراراً في رسائله بكلام محبة وإطراء وتقدير. وقد رافقه مرقس إلى رومة. ثم لزم مرقس هامة الرسل بطرس في رومة، فكان له كاتباً لأقواله ومدوناً لبشارته. حتى أن بطرس يدعوه ابنه: " تسلم عليكم الكنيسة المختارة في بابل، ومرقس ابني ". ولقد اتفق المفسرون على القول بأن إنجيل مرقس لم يكن سوى خلاصة بشارة القديس بطرس. وقد كتب مرقس إنجيله باليونانية، لأنها كانت اللغة الشائعة في كل أقطار الدنيا، حتى في رومة وفي جميع أنحاء المملكة الرومانية.

ويقول القديس ايريناوس وهو من آباء القرن الثاني ما يلي: " أن مرقس تلميذ القديس بطرس ومدون أقواله بدأ إنجيله هكذا: بدء إنجيل يسوع المسيح ".

أما اكلمنضس الإسكندري الذي تجول في إيطاليا وبلاد اليونان وسوريا وفلسطين، يقول أنه أخذ عن الأقدمين بشأن إنجيل مرقس ما يأتي: " لما بشر بطرس الناس جهاراً في رومة، رغب كثيرون إلى مرقس أن يدون لهم تلك البشارة بالكتابة، لأن مرقس كان قد لازمه زماناً طويلاً، وكان يذكر كلام ومواعظ معلمه. فوضع مرقس إنجيله ودفعه إلى من كان قد طلبه منه. فلما علم بطرس بذلك لم يشجعه على عمله، ولم يمنعه عنه أيضاً ".

ويلخص القديس ايرونيمس جميع ما كتبه الآباء من قبله في هذا الموضوع بقوله: " والإنجيل الثاني هو لمرقس الذي دون بالكتابة بشارة القديس بطرس، وأضحى الأسقف الأول على مدينة الإسكندرية ". ومن بعد ذلك ذهب مرقس إلى مدينة الإسكندرية ليبشر هناك بالمسيح، فكان أول أسقف عليها. ونجح في عمله بين الشعوب العديدة، التي كانت تملأ شوارع ومتاجر ومسارح وملاهي تلك العاصمة اليونانية المصرية العظيمة.

إن الشعب المصري شعب عريق في المدينة، ولوع بعلوم الفلسفة التي سبق اليونان إليها. وكان كهنته لهم فيها أساتذة، فاهتدى إلى الإيمان بالمسيح على يد مرقس عدد كبير من اليونان والمصريين واليهود. حتى تنبه عبدة الأصنام إلى ما يداهمهم من الأخطار بسبب ذلك المبشر الجديد القدير. ففي ذات يوم إذ كانوا يحتفلون بأحد أعيادهم، تفرقوا في طلب الأسقف مرقس، فوجدوه يقيم الذبيحة الإلهية. فقبضوا عليه وربطوه بالحبال واخذوا يجرونه في شوارع المدينة، ممزقين جسده الضعيف الذي أضنته الأسهار والأصوام والأسفار. أما هو فلم يكن ينطق بكلمة توبيخ أو تنديد أو تذمر. بل كان يسبح الرب يسوع الذي وجده أهلاً لأن يتألم من أجله. وأعادوا الكرة عليه يومين متوالين، ففاضت روحه الطاهرة وهو في ذاك العذاب الأليم، وذهبت لتشاطر المسيح أفراح النعيم. وكان ذلك سنة 68 للمسيح. ومن بعد موته أحرق أولئك الآثمة جسده، ولكن ليس كله. فجمع المؤمنون أعضاءه الكريمة وجعلوها في قبر. وأضحى ذلك القبر مزاراً عظيماً للمؤمنين يأتون لزيارته والتبرك به من مشارق الأرض ومغاربها.[4]



3_ الإنجيلي لوقا: لوقا اسم لاتيني ربما كان اختصار لكلمة " لوقانوس " أو " لوكيوس ". ويدعوه بولس الرسول في رسالته إلى أهل قولسي " الطبيب المحبوب ".[5] هو ثالث الإنجيليين وواضع كتاب أعمال الرسل. وهو رفيق بولس الرسول في أسفاره، وشريكه في رسالته وأتعابه، وشهيد المسيح نظير سائر الرسل القديسين. خرج لوقا من أنطاكية. كان طبيباً ولم يكن يهودياً بل كان يونانياً من عبدة الأوثان. وأقتبل الإيمان على أيدي التلاميذ الذين نزحوا من أورشليم وأتوا أنطاكية، واخذوا يبشرون باسم يسوع نحو سنة 35، أي عقب الاضطهاد الذي أثاره اليهود على الكنيسة فقتلوا إسطيفانوس رجماً بالحجارة.

ولقيه بولس في سفرته الثانية في مدينة ترواس، فوجد فيه ضالته وأحبه واتخذه رفيقاً له. ولكن يظهر أن لوقا رافق بولس إلى مقدونية وإلى فيلبي ومكث هناك. وفي أواخر سفرة القديس بولس الثالثة يتقابل الرسولان معاً في فيلبي أيضاً. ومنذ ذلك الحين يعود لوقا إلى ملازمة بولس، وبقي برفقته ربما حتى آخر أيام هذا الرسول العظيم. فعاد معه إلى أورشليم ولبث بالقرب منه في قيصرية مدة سنتين، فكان يخدمه ويؤاسيه ويأتمر بأمره، ويكتب تاريخ أعماله بكل غيرة وتجدد وتفان.

ثم أقلع معه إلى روما لما ذهب إليها مخفوراً، واحتمل معه شدائد الزوابع في البحر، وبقي بقربه في روما مدة الأسرين الأول والثاني. إلا أن لوقا لم يسجن مع بولس نظير أرسترخس، بل بقي حراً طليقاً، وكان الخادم الأمين والصديق الوفي الحبيب. أما عن بقية حياته فلا نعلم شيئاً. وهذا دليل كبير على ما اتصف به ذلك الرسول من الفضائل السامية، وأخصها الغيرة الرسولية المقرونة بالتواضع العميق. " وهناك أساطير لاحقة جعلت من لوقا شهيداً، وأساطير أخرى أقرب في الزمن جعلت منه رساماً، وقد يعود ذلك إلى صفاته التلوينية في فن الرواية ".[6]

فمع أنه كتب الإنجيل الثالث، ووضع كتاب أعمال الرسل، وذكر ببعض الإسهاب ما حدث للرسول بولس في حياته الرسولية، قد أغضى عن ذكر نفسه. وسكت عن أعماله، حتى لقد ترك شيئاً من الشك يحوم حول شخصه ورسائله.

إن لوقا لم يعاين الرب يسوع، ولا سمع كلامه، ولا تعلم الإيمان منه بوحي خاص، كما جرى لبولس الرسول لكنه اعتمد في كتابة إنجيله على وثائق خطيرة ثابتة، منها كتابية ومنها شفهية. أما الكتابية فهي إنجيل متى وإنجيل مرقس اللذين سبقاه في الكتابة، ثم بعض الكتب الخاصة التي منها استقى ما كان صحيحاً ومقبولاً في الكنيسة، ونبذ ما وجد فيها محرفاً ومختلفاً.

أما الشفهية فهي ما سمعه من بشارة بولس في رحلاته الرسولية، ومن كرازة الرسولين بطرس وبرنابا في إنطاكية، ومن أحاديث الشماس فيلبس في قيصرية، ومن كلام القديس يعقوب أخو الرب في أورشليم، ولا سيما ما استقاه من فم البتول مريم وزيارتها لنسيبتها إليصابات، وعن إلتجاء العائلة المقدسة إلى بلاد مصر هرباً من غضب هيرودس الملك، وعن حداثة يسوع في بيت يوسف ومريم. ولم يتوصل إلى معرفته بتلك الدقة والصراحة والأمانة في الرواية إلا من فم تلك البتول التي كانت تحفظ ذلك الكلام كله في قلبها.

وكتب لوقا إنجيله باسم العزيز ثاوفيلس[7]، ويغلب الظن أن تاوفيلس هذا إنما هو اسم مستعار، أراد به لوقا جماعة الأمم المتنصرة، وجماعة اليهود الذين آمنوا أيضاً بالرب يسوع، وبوجه عام كل نفس تحب الله أو محبوبة لديه.

أما غايته فهي تاريخية ودفاعية معاً بحسب ما جاء في فاتحة إنجيله إذ يقول: " رأيت أنا أيضاً بعد أن أدركت جميع الأشياء من الأول بتدقيق، أن أكتبها لك بحسب ترتيبها أيها العزيز ثاوفيلس لتعرف صحة الكلام الذي وعظت به ".

ولا يعرف بالتدقيق متى وضع لوقا إنجيله، ولكن من المؤكد أنه وضعه قبل السنة السبعين. واختلف الرواة في أمر المكان الذي كتبه فيه، لكن هذا شيء لا قيمة له في نظر التاريخ. ومن مميزات هذا الإنجيل أنه يصلح أن يدعى بحق إنجيل الرحمة، لأنه يذكر كثيراً من الحوادث التي تدل على حنان يسوع ورحمته نحو الخطأة، والتي تبين على الأخص عطفه نحو الأمم، وذلك لكي يصب في قلب الأمم المتنصرة عواطف الرجاء والثقة بالمسيح.

إن إنجيل القديس متى يبين أن يسوع المسيح المنتظر. وإنجيل القديس مرقس يقدمه للرومانيين بكونه ابن الله الحق. أما إنجيل لوقا فهو رسم بديع للرب يسوع بصفته طبيب البشرية ومخلص العالم. أما كتابه أعمال الرسل فهو مجموعة الحوادث التاريخية التي أوحاها الله، ووضعها القديس لوقا بالكتابة ليبين كيف نشأت الكنيسة، وكيف انتشرت بين اليهود والأمم، وماذا كان إيمانها وتعليمها. وهذا الكتاب لا يحتوي على تاريخ أعمال الرسل أجمعين، بل يقتصر على ذكر بعض الحوادث التي جرت لبطرس وبولس. فشخص بطرس يملأ الفصول الأثني عشر الأولى، وأعمال بولس هي موضوع الفصول الستة عشر الباقية. ويعتبر كتاب أعمال الرسل تتمة للأناجيل، وهو نور يضيء ما غمض وصعب فهمه من كتاب الرسائل، ولا سيما رسائل بولس، وهو مجموعة بديعة للعقائد المسيحية كما بدأ يبشرون بها وينثرونها بين الشعب. وهو كتاب يجد فيه المؤمن المتعبد أسمى التعاليم الروحية، وصورة حية للفضائل المسيحية التي امتاز بها الرسل القديسون والمؤمنون الأولون، نظير الغيرة والتجرد والسخاء وكرم النفس والصبر على الشدائد.[8]



4_ الإنجيلي يوحنا: يوحنا اسم عبري يعني " الله حنون ".[9] يوحنا البشير أخو يعقوب الأكبر، الملقب بـ " التلميذ الحبيب ".[10] هو ابن زبدى الذي كان يحترف مهنة صيد السمك في بحر الجليل، وأمه صالومي التي من بعد دعوة ابنيها يعقوب ويوحنا انضمت إلى النسوة القديسات اللواتي كن يتبعن يسوع ويخدمنه. ويغلب الظن أن هذه الأسرة كانت تسكن مدينة بيت صيدا.

كان يوحنا ابن اثنتين وعشرين سنة لما بدأ يوحنا المعمدان يكرز ببشارة التوبة ويعمذ على ضفاف نهر الأردن. فتتلمذ وجعل يتردد عليه مع مواطنيه أندراوس وبطرس وفيلبس ونثنائيل. وبعد عماد يسوع من يوحنا تبعه ولازمه، فعاين الآية الأولى التي صنعها في قانا الجليل[11] نزولاً عند رغبة والدته مريم. ومنذ تلك الساعة حفظ يوحنا في قلبه لتلك الوالدة احتراماً بنوياً يمازجه الحب والتقدير والثقة. تم تبع معلمه الإلهي إلى أورشليم، وحضر معه عيد الفصح في الهيكل، وشاهده بإعجاب مع شيء من الذهول يطرد الباعة، ويقلب موائدهم، وينثر دراهمهم. ولما عادوا إلى الجليل ذهب يسوع في سبيله، ورجع يوحنا إلى بيته وأبيه وصيده. لكن طيف يسوع لم يعد يفارقه البتة لا في ليله ولا في نهاره. أما يسوع فكان قد قرر أن يدعو يوحنا وأخاه يعقوب إلى شرف الرسالة وأتعابها، بل كان قد اختارهما ليكونا خصصيه وحبيبه مع بطرس هامة الرسل، دون سائر من سوف يدعوهم من التلاميذ. وكان قد وسم يوحنا بوسم إلهي، وخصه بعطف وحب ممتاز، فسوف يكون لقبه الدائم " التلميذ الذي يسوع أحبه ".

وفيما يسوع كان ماشياً على شاطئ بحر الجليل رأى أخوين وهما يعقوب بن زبدى ويوحنا أخوه في سفينة مع أبيهما زبدى يصلحان شباكهما، فدعاهما وللوقت تركا السفينة وأباهما وتبعاه. وكان يوحنا أول من تبع يسوع في بشارته، وآخر من تركه في عشية آلامه من بعد موته. وكان أكثر الرسل حباً له وتعلقاً به. فهو الشاهد على ألوهيته وأعماله وأقواله ومعجزاته وخفايا قلبه وحنانه، ومجده على جبل تابور[12] وصلبه على جبل الجلجلة. فلم يكن يوحنا الرسول فحسب، بل كان الصديق الأخص، والأخ الأصغر. ولما رأت صالومي أم يعقوب ويوحنا عطف يسوع على أبنيها، لعب الطمع في قلبها. فجاءته يوماً وسجدت له وطلبت أن يُجلس أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره عندما يصبح ملكاً على إسرائيل. فالتفت يسوع إلى تلميذيه وتنهد وقال: " أتستطيعان أن تشربا الكأس التي أشربها أنا، أو تصطبغا بالصبغة التي اصطبغ بها أنا ". فقالا له: " لا نستطيع ". وقد اختاره يسوع ليكون مع أخيه يعقوب وبطرس شاهداً يوم قيامة ابنة يائيروس، ورفيقاًً له على جبل تابور يوم التجلي. وميزه مع بطرس لإعداد ما يلزم للفصح الأخير ولكتمان سر مكان الاجتماع، وخلال العشاء السري كان يوحنا متكئاً على حضن يسوع، وهو الذي كان يسوع يحبه. واستصحبه معه ليلة الأحزان في بستان الزيتون[13] ليكون معزياً له في شدته مع بطرس ويعقوب. وما أن ألقى الجند الأيدي على يسوع حتى تبدد الرسل وهربوا وانهزم معهم يوحنا. ثم ما لبث أن عاد يتبع يسوع ويعلل النفس بأن يراه يفلت من أيدي أعدائه. وبقي يتبعه حتى أتى معه إلى قمة الجلجلة. وهناك عند الصليب وقف إلى جانب مريم أم يسوع ومريم التي لكلوبا[14] ومريم المجدلية[15] يذرف الدموع السخية على معلمه وحبيبه وإلهه. فراق يسوع ذلك الحب المتألم، ومشاركة أمه وتلميذه له في افتداء البشر. فقال لأمه: " يا امرأة هوذا أبنك ". ثم قال للتلميذ: " هذه أمك، ومن تلك الساعة أخذها التلميذ إلى بيته ". وقد أراد يسوع أن يكون يوحنا ممثلاً للبشرية في تلك الساعة الرهيبة، فجعل بذلك أمه أماً للبشر الذين افتداهم بدمه الأطهر. وقد عاين يوحنا واحداً من الجند عندما فتح جنب يسوع بحربة، فخرج للوقت دم وماء، ويقول في ذلك: " والذي عاين شهد وشهادته حق ". وانزل يوحنا معلمه المائت على الصليب مع يوسف الرامي ونيقوديموس، وحمله بحب ووقار ووضعه في ذلك القبر الجديد. وفي صباح الأحد بكرت النسوة إلى القبر لكي يطيبن جسد يسوع، وإذ بهن يعدن مسرعات ويبشرن التلاميذ بقيامة الرب. فطار لب يوحنا من الدهش والفرح، فخرج يوحنا ومعه بطرس واقبلا مسرعين إلى القبر، وبعد أن دخلا القبر آمنا بقيامة الرب، فعادا واخبرا الرسل المجتمعين في علية صهيون[16] بالخبر السار. وبعد صعود يسوع إلى السماء وحلول الروح القدس على التلاميذ بقي يوحنا رفيقاً لبطرس في الصلاة والتبشير، ونجد إلى جانبه في الهيكل عندما منحا المخلع الشفاء باسم يسوع.

وبعد أن رحل بطرس إلى آسيا ثم إلى روما، بقي يوحنا في أورشليم إلى ما بعد رقاد البتول مريم. لأن الرأي الأرجح يقول أن مريم لم تفارق أورشليم إلى حين رقادها. ثم ذهب يوحنا إلى مدينة أفسس العظيمة حيث تابع عمل أبولس وبولس. ويذكر أحد الكتبة أن يوحنا ،أنشأ في أفسس فرقة ملائكية من البنات والبتولات اللواتي خصصن بتوليتهن للرب. ويذكر ترتليانس أن يوحنا ذهب أيضاً إلى روما حيث قبض عليه على عهد الملك دوقيانس، وألقي في قدر مملوء بالزيت المغلي، وأنه خرج منه ولم يُصب بأذى. ثم نفي إلى جزيرة بطمس[17].

وفي سنة 95 عاد إلى أفسس على أيام الملك نرفا وتابع عنايته بكنائس آسيا، إذ كان يشرف على إدارتها ويقيم لها أساقفة ويسهر على وديعة الإيمان فيها. ومات يوحنا وهو شيخاً طاعناً في السن، وكان قد جاوز المئة سنة من عمره، ودفن في مدينة أفسس بحسب الرأي الأرجح. وهذا ما يؤكده تلميذه بولكربوس في رسالته إلى البابا فكتور الأول[18] جاء فيها: " بين الكواكب التي انطفأ نورها في آسيا يجب أن لا ننسى يوحنا الذي اتكأ على صدر يسوع، والذي كان حبراً. وكان يحمل على جبته قطعة ذهب. فهو الشهيد والمعلم. وقبره في أفسس ".

ومن المعلوم أن قطعة الذهب كان يحملها رئيس أحبار العهد القديم. وقد حملها يوحنا ليدل بذلك أن الكهنوت قد انتقل من المجمع إلى الكنيسة. وقد كتب يوحنا إنجيله لأجل اليونانيين، وليس لأجل اليهود. وكان غرضه من ذلك أن يبين أن يسوع هو المسيح المنتظر، وأنه أبن الله، وأن من آمن به تكون له الحياة الأبدية. ويقول بعض الآباء القديسين إن الغاية الثانية كانت لكي يكمل الأناجيل الثلاثة الأولى، التي رسمت لحياة يسوع الخارجية.

أما إنجيل يوحنا فهو وصف رائع لنفس يسوع وألوهيته. ويقول القديس ايريناوس أن يوحنا كتب إنجيله في أفسس ما بين سنتي 85 و 95. وكتب يوحنا ثلاث رسائل. الرسالة الأولى كتبها في أفسس نحو سنة 95، وهي بمثابة توطئة لإنجيله. وكانت غايته منها دفاعية ولاهوتية وأدبية معاً، وهي موجهة إلى المسيحيين المؤمنين دون غيرهم ليذكي فيهم حرارة الإيمان. أما الرسالة الثانية فهي موجهة إلى السيدة المصطفاة وإلى أبنائها الذين أحبهم بالحق، ويغلب الظن أن هذه السيدة هي أحدى الكنائس. وموضوعها هو التحريض على طاعة الإيمان والتحذير من الخداعين وأصحاب البدع. والرسالة الثالثة هي باسم غايوس الحبيب وهي تمدح إيمانه وتقواه. أما سفر الرؤيا فقد كتبه في جزيرة بطمس عندما نفي إليها، أو ربما بعد عودته إلى أفسس من النفي. وفي هذا السفر البديع جمالاً رائعاً وتعاليم جليلة، عدا ما يحويه من النبواءت الكثيرة، وهو نشيد شائق يترنم بانتصار المسيح وكنيسته.[19]

والتقليد المسيحي أتخذ من الرموز المذكورة في سفر حزقيال رموزاً للإنجيليين الأربعة. فأعطى لمتى رمز ملاك، ولمرقس رمز الأسد، وللوقا رمز ثور، وليوحنا رمز النسر. " ومن وسطها شبه أربعة حيوانات، وهذا منظرها: لها هيئة بشر. ولكل واحد أربعة أجنحة، وأرجلها أرجل مستقيمة، وأقدام أرجلها كقدم رجل العجل، وهي تبرق مثل النحاس الصقيل. ومن تحت أجنحتها أيدي بشر على أربعة جوانبها، وكذلك وجوهها وأجنحتها متصلة واحد بالآخر. والحيوانات لا تعطف حين تسير، فكل واحد منها يسير أمام وجهه ". حزقيال ( 1: 5 _ 9 ).

وتذكر هذه الحيوانات الغريبة بـ " الكريبو " الآشورية، واسمها يطابق اسم كروبي تابوت العهد. وهي كائنات لها رأس إنسان وجسم أسد وأرجل ثور وجناحا عقاب. وكانت تماثيلها تحرس قصور بابل. وخدَّام الآلهة الوثنيين هم مقرونون هنا بمركبة إله إسرائيل. وهذا تعبير مدهش عن سمو الرب. إن الحيوانات الأربعة الوارد ذكرها في سفر رؤيا يوحنا لها ملامح حزقيال الأربعة.[20] " وأمام العرش مثل بحر شفاف أشبه بالبلور. وفي وسط العرش وحول العرش حيوانات رصعت بالعيون من قدام ومن خلف. فالحيوان الأول أشبه بالأسد، والحيوان الثاني أشبه بالعجل، والحيوان الثالث له وجه كوجه الإنسان، والحيوان الرابع أشبه بالعُقاب الطائر. ولكل من الحيوانات الأربعة ستة أجنحة رصعت بالعيون من حولها ومن داخلها، وهي لا تنفك تقول نهاراً وليلاً: قدوس قوس قدوس الرب الإله القدير الذي كان وهو كائن وسيأتي ". رؤيا يوحنا ( 4: 6 _ 8 ).

وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار الإنجيليين الأربعة في الجمعة الثالثة من سابوع الدنح.







--------------------------------------------------------------------------------


1_ قاموس الكتاب المقدس ص 832.

2_ السنكسار المشتمل على سير القديسين المطران ميخائيل عساف ج 1 ص 258 _ 260.

3_ قاموس الكتاب المقدس ص 853.

4_ السنكسار المشتمل على سير القديسين المطران ميخائيل عساف ج 2 ص 58 _ 63.

5_ قاموس الكتاب المقدس ص 822 _ 823.

6_ معجم الأيمان المسيحي الأب صبحي حموي اليسوعي ص 420.

7_ ثاوفيلس: اسم يوناني معناه " محبوب من الله " أو " صديق الله ". والصفة المطلقة على ثاوفيلس هي " العزيز " إنما تشير إلى شخص معين بالذات، وليست للمسيحيين عامة كما ظن بعضهم. ولعله كان رومانياً وصاحب منصب كبير تتطلب مخاطبته بهذا التعبير. ويعتقد أنه اعتنق المسيحية بين كتابة الإنجيل وكتابة سفر أعمال الرسل. ويعتقد آخرون أنه كان محامياً تدخل للدفاع عن بولس في روما. وأن لوقا أرسل إليه هذين السفرين ليكسبه أولاً للمسيح كما ويعطيه مادة للدفاع. قاموس الكتاب المقدس ص 233.

8_ السنكسار المشتمل على سير القديسين المطران ميخائيل عساف ج 1 ص 143_ 146.

9_ قاموس الكتاب المقدس ص 1105.

10_ معجم الأيمان المسيحي الأب صبحي حموي اليسوعي ص 552.

11_ قانا: اسم عبري معناه " مكان القصب ". وهي مدينة شهيرة صنع المسيح أعجوبته الأولى فيها وهي تحويل الماء إلى خمر. وبعد ذلك صنع عجيبة ثانية فيها وهي شفاء ابن خادم الملك. وكانت قانا وطن نثنائيل. وكل ما نعرفه من الإنجيل عن موقعها هو أنها في الجليل بمكان عال بالنسبة إلى كفر ناحوم: " وبعد هذا انحدر إلى كفر ناحوم " ( يو 2: 12 ). ويرجح أنها خربة قانا شمالي الناصرة بثمانية أميال. وهناك عيون ماء ومستنقعات كثيرة القصب. ويقول بعضهم أنها كفر كنا التي تقع شمال شرقي الناصرة بأربعة أميال. قاموس الكتاب المقدس ص 709 _ 710.

12_ جبل تابور: جبل منعزل بارتفاع 562 متراً، في جنوب الناصرة إلى الشرق. يسمى الآن الطور. يشرف على مرج ابن عمير، ويقع في تخوم يساكر. عُدَّ مقدساً منذ تقسيم فلسطين بين الأسباط الاثني عشر. فيه تجلى يسوع. معجم الأيمان المسيحي الأب صبحي حموي اليسوعي ص 131.

13_ بستان الزيتون: يشرف على أورشليم من الجهة الشرقية، فترى منه كل شوارع المدينة وبيوتها. واسمه مأخوذ من شجر الزيتون الذي كان موجود فيه بكثرة. ويفصل هذا الجبل عن أورشليم وادي قدرون. على هذا الجبل صعد داود هارباً وباكياً أمام ابشالوم. وعليه ظهر الرب لحزقيال في رؤياه. كما ظهر لزكريا بروح النبوة. وصعد إليه يسوع ليلة القبض عليه حيث بستان جثسيماني في غرب الجبل ليصلي. ولهذا الجبل ستة رؤوس تسمى قمماً أو تلالاً هي: تل سكوبس. تل المشورة الرديئة. كرم السيد. قمة الصعود. قمة الأنبياء. قمة المعصية. قاموس الكتاب المقدس ص 441.

14_ مريم التي لكلوبا: هي امرأة حلفى أو كلوبا وأم يعقوب. وسميت مريم الأخرى. وكانت من جملة النساء اللواتي ذهبن إلى القبر ليحنطن جسد المسيح. وهي من جملة اللواتي بلَّغن الرسل قيامة يسوع، وإذ كانت ذاهبة إليهم لاقاها المسيح فسجدت له. قاموس الكتاب المقدس ص 858.

15_ مريم المجدلية: كانت امرأة زانية تملك ثروة طائلة وصيت حسن، وإنما كانت قد ابتليت بسبعة شياطين أخرجهم منها المسيح فتبعته. وثبتت إلى المنتهى، فكانت معه وقت الصلب والدفن. وكانت من جملة اللواتي أتين إلى القبر ليحنطنه. وكانت من الأوليات عند القبر مع مريم أم يعقوب. وشرفها المسيح بحديثه معها بعد قيامته. قاموس الكتاب المقدس ص 858.

16_ صهيون: اسم عبري معناه " حصن ". رابية من الروابي التي تقوم عليها أورشليم. كانت حصن يبوسي فاحتله داود وسماه حصن داود. وإليها أتى بتابوت العهد فمنذئذ صارت الرابية مقدسة. وكثيراً ما يطلق اسم صهيون على أورشليم كلها. قاموس الكتاب المقدس ص 558.

17_ بطمس: أو فنطس جزيرة يونانية جنوبي بحر إيجه. المنجد في الأعلام ص 135.

18_ الباب فكتور الأول ( 189 _ 199 ): من مواليد إفريقيا. في عهده هز الكنيسة خطر أول انشقاق بسبب الخلاف على الاحتفال بعيد الفصح. وفي عهده نشأت البدعة الغنوصية وانتشرت. وأيضاً ظهرت في عهده البدعة المرقيونية. معجم الباباوات خوان داثيو تعريب أنطوان مسعد ص 14 _ 16.

19_ السنكسار المشتمل على سير القديسين المطران ميخائيل عساف ج 1 ص 76 _ 89.

20_ الكتاب المقدس " العهد القديم " دار المشرق سفر حزقيال هامش 4 ص 1777.




Opinions