تسابيح لميلاد الألق
(المقال من العدد الجديد من مجلة الأفق، نهاية المطاف، ص 64)الذين حملوا أغصان الزيتون وسعف النخيل وأضاؤا الشموع مستبشرين بمقدمك، كانوا لم يروك ولم يعرفوك ولم يسمعوا منك.
أنبياء ومصلحون تنبأوا بمقدمك وحفظوا علاماته، وبعضهم سمعوا به فعاشوا مترقبين وماتوا حسرة، وبعضهم أدركه فصدق نبوءات أسلافه وجاءك متلهفا ليحظى بقبس من نورك ويهتدي بإشراقة تعاليمك. والذين اكفهرت وجوههم وزاغت أبصارهم وزلزلوا بمجرد سماع نبوءة مولدك وظهور علامات إطلالتك فاستنفروا ضغائنهم وأحقادهم، وأسرجوا خيول شرهم وطغيانهم، وحشدوا شياطين الجن والأنس للانقضاض عليك في مهدك المعجزة، كانوا هم الآخرين لم يروك بعد ولم يعرفوك ولم يسمعوا منك.
نعم سمعوا بك سالف عن سالف فخافوا تعاليمك التي ستسفّه خرافاتهم وأرعبتهم معجزاتك التي ستسقط تيجانهم وتزلزل عروشهم. كان الطرفان من طينة واحدة، وكانا من حقبة واحدة كانا يعيشان ظروفا متشابهة وحياة متقاربة لكن ينابيع الخير انبجست في نفوس من أحبوك فسقت عروقهم وروت أفكارهم لتتجذر به أصولهم وتقوم عليه فروعهم متلقفين كلماتك الرسالية تلقف الرضيع ثدي أمه متخذين منها سراجا وسلما، سلم يرقى بهم إلى علياء الملكوت فيربطهم بخالقهم وجنته التي أعدها للمؤمنين المخلصين، وسراج يستنيرون به في دنياهم المليئة بالشرور والمظالم والطغيان، المحفوفة بالخطايا والرذائل، المزروعة بالقهر والهم والغم والفقر، لا يستحصل رزقها إلا بالكد والتعب، ولا تخلو ساعاتها من المرض والحاجة والعوز. سرورها قليل وسعادتها أقل، عمرها قصير وأملها أقصر.
ينابيع الخير تدفقت رقراقة في نفوس عشاقك.. بينما طغت نزعة الشر، واستفحل حب الأنا والهوى في نفوس من ناوؤك خشية على منافع فانية ومراكز زائلة وطمعا في دنيا غرتهم بهارجها وراقهم زبرجدها، وخوفا من افتضاح سيئات اقترفوها، وخيبة مكر مكروه، وبدعا ابتدعوها بذريعة واهية، وحجة بائسة على أنك لست المخلص الموعود "حاشاك". فتربصو بك مقتفين آثارك، متتبعين خطواتك، عادين أنفاسك ليكتموا هدير الحق في صوتك، ويخنقوا نهج العدل في صدرك، ويطفئوا ومض الهدى في عينك، ويمحوا فيض الرحمة والحب والخير والجمال في سراطك. خاب مسعاهم وحبط تشكيكهم إذ رفعك الله إلى عليائه بعد أن هطل غيث أنوارك على صحراء النفوس المجدبة فاعشوشبت إيمانا خضلا، واخضرت حبا وتسامحا وهداية، وبعد ما تسربت تعاليمك مثل حبات الندى فلامست شغاف قلوبهم الحرّى ورطبتها بأنسام جنان الخلد يوم يلاقوا ربهم آمنين مطمئنين.. وقد كانت، تلك القلوب، مظلمة بخبائث الشرير وأبلاسه وقنوطه.
وعلى مسار خطى أحبابك.. تلاميذك ورسلك سار الأجداد فتبعتهم قوافل الأولاد والأحفاد، رايات إيمان وتسامح ومحبة امتدت ورفرفت معانقة السماء وستظل مرفرفة تعانقك عند تشريفك الأرض عائدا منقذا بعد ما غادرتها مضحيا وفاديا حتى تملأها قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا.
ترى من الذي يملؤنا غبطة وحبورا مع كل إطلالة سنوية لمولدك ومع كل رفرفة لصعودك برغم امتداد المسافة وتباعد الحقب والقرون؟!.
ما الذي ينسينا متاعبنا وشقاءنا وعوزنا ومعاناتنا ومخاوفنا وضعفنا فنهب ولهين لاستقبالك وكأننا نسمع تهجد السيدة البتول وأنت بين يديها الطاهرتين تنير وحشة ليلها بأنوارك الربانية، وتسرّي عنها حزنها بمناغاتك الملكوتية.. تسابيح ترددها الطيور والأغصان وتهتز لها جدران المغارة التي تشرفت بانفلاق فجرك..
وتعطرت بأريج أنفاسك؟.
لا شك ولا ريب إنه خيط التوحيد.. وإنها صلة الإيمان، تناقلتها الأمشاج وحفظتها الجينات يربطان كل مؤمن بك ويشدانه اليك من حيث يدري أو لا يدري، ومن حيث قرر واختار أو من حيث ورث وقلدّ، من عالم الذر وحتى يرث الله الأرض ومن عليها فيحسك معه ويحسبك لصيقه ولذا تراه يفرح حين يحسن ويرحم ويحب ويسامح، ويغتم حين يسيء ويظلم ويبغض ويعتدي.
يحس بكفك الكريمة تربت على كتفه وبشفاهك العذبة تلامس جبينه في الأولى فيفرح، ويرى تقطيب جبينك وحزن عينك وإعراض وجهك عنه في الثانية فيغتم ويكتئب. فكيف به وهو بين هاتين الحالتين ورهينة هذين التجاذبين.. كيف لا يفرح ولا يطير سرورا بإطلالة مولدك؟. وأي عيد يسعه بعد عيدك المجيد.
أملي.. ومناي أن تتقبل فرحي وتهنئتي بعيد مولدك الأبهى.. مثلما تقبلت مناجاتي على ضفاف قيامتك العظيمة **.
وشفيعي إليك هذه المشاعر الصادقة المنزهة عن دنس أي مطمع سوى قبولك ورضاك سيدي الأجل.
* كاتب عراقي يكتب في عدد من الصحف والمجلات العراقية والعربية.
** إشارة إلى مقال للكاتب نفسه في العدد "29" من الأفق، نهاية المطاف، ص 64 بعنوان: "مناجاة على ضفاف القيامة.