Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

(تعرية النص وذكورية المحيط) قراءة في قصة (السجينة) للكاتبة وزنة حامد

ليس من دواعي الصدف كل هذه الوفرة في أدب السجون لدى الكتاب العرب ، سيما ولا تزال أنظمة الحكم القمعية جاثمة على غالبية شعوب المنطقة، فأينما وجد الظلم والسجون وجد هذا الصنف من الكتابات . لتتبزغ في ساحتنا الأدبية منذ عقود الكثير من الروايات الزاخرة بصور التعذيب للسجناء السياسيين . ونذكر منها(شرق المتوسط) لعبدالرحمن منيف و(تلك الرائحة) لصنع الله ابراهيم و(السجن) لنبيل سليمان و(الوشم) لعبدالرحمن الربيعي . وغيرها الكثير .
ولعل آخر ما قرأت في هذا الصنف من الكتابات قصة (السجينة) للكاتبة السورية وزنة حامد، والتي فضحت أساليب القمع والتنكيل لسجين بريء (كان يدرك أن تهمته باطلة) . وانسحاب الأثر السيء للسجن على زوجته ومعاناتها بعد ذلك .
ولا يخفى علينا تأثر الكاتبة بما أنجز قبلها من أدب السجون من خلال اسم البطل (أحمد رجب خليل) الذي يذكرنا بالطبع برجب اسماعيل بطل رواية شرق المتوسط لمنيف، إلا أن هذا التشابه قد انحصر في الاسم فحسب، فأحمد رجب خليل رجل بسيط، لا ينتمي لأتجاه سياسي معين، حتى أن سبب حجزه ظل مجهولا على السجين نفسه وعلى زوجته أيضا التي تقول (ربما كان ظالماً أو مظلوماً فهذا شأن العدالة ...)إلا أنها عانت ما عانت بعد فراق شريك حياتها وسريرها، حتى ضجت بداخلها المرأة التي هي أحوج ما تكون لرجل يسقي أرضها العطشى . لنستمع إليها وهي تخاطب نفسها قائلة: (الناس الليلة كلهم ( ... ) ... إنها ليلة الجمعة وما أجمل رؤية تفتح الورد يوم الجمعة على سرير الربيع الخالد ...)
وهكذا نعيش مع شخصية الزوجة لحظات أليمة، نستشعر خلالها تلك المعاناة لامرأة حرمت حق المعاشرة، فأضحت حبيسة (هذا الجسد الذي هزم الزمن ...؟) . لا يقتصر الأمر على ذلك إذ تستمر تداعيات السجن على حالة الأسرة المعيشية (... باعت أساورها ثلاجتها سجادة يوم عرسها ... اسطوانة الغاز الثانية ... والأيام حبلى ... ولكن بوضع عقيم ... والأولاد تراجعوا عن مقاعد الدرس) .
انقسمت القصة إلى قسمين متوازيين ومتداخلين ، تبدأ بالسجين منذ اعتقاله في آخر هزيع من الليل وبعدها تعرج على الزوجة بانسياب ذكي لا نكاد نشعر به ليبدأ النصف الثاني من القصة .
كل ذلك يأتي بجمل قصيرة وسريعة ، تتتابع في خفة وهدوء .

الزمان :
يمتد زمان القصة لخمس سنوات، تمر على أحمد رجب خليل بشكل تصاعدي، إذ يبتديء بساعتين ثم ليلة أولى لتتصاعد وتيرة السرعة لشهرين ثم سنة. تصل السرعة بعدها الحدود القصوى (وكانت السنة الثانية والثالثة ... ) ( ...؟ لقد طالت سنين السجن خمس سنوات) ولا تكتفي الكاتبة بكل هذه الامتداد الزمني بل ترنو للسنوات العشر القادمة (فلماذا لا تنتظر خروج زوجها ولو بعد عشرسنوات) إلا أن هذه السرعة الغير عادية في الزمن كانت على السجين ( كالحبلى تسير ببطء ورتابة ... ) حتى ( ... سرقت منه الزمن ... جعلته خارج الحياة ...)( والأيام ثقيلة محملة بأوجاع على ظهر محدودب .) . هذا الزمان الثقيل نفسه قد عذب الزوجة بشكل جلي(...؟ وهل الزمن يرأف بما يحصد ويفني) بيد أنها لم ترضخ له بل تتحداه في سريرتها( الزمن في تاريخ الكرامة سراب، وبعد أن يرسم تاركا شرخا في الضمير).
جاء زمان القصة في عيون البطلين سرياليا مائعا، لا يكادان أن يريا منه شيئا أو يشعران به (الساعات التي كانت تتآكل أمام التغافل تشعره بحذر من أيامه ...) وقد (كانت زنزانته تابوتاً تحمله دون تحديد رؤية الصباح أو غيش الليل ... سرقت منه الزمن ... جعلته خارج الحياة ...) هذا الهلام الزمني يغشي بصر الزوجه إذ نرى الخاطر الخبيث الذي يدهمها(احتجاجاً على مرور عربة زمن من أمامها دون ان تقلها ولو لمسافة ما ...) وعلى النقيض من زمان القصة الطويل فقد انحصرت في مكانين ضيقين للغاية : فالزوج (كانت زنزانته تابوتاً) أما الزوجة فقد كانت(وحيدة في سريرها) لعل هذا التباين في الزمان والمكان يلقي بضلاله بشكل سلبي على شخوص القصة، فيشكل لديهما بؤرة الأزمة ، بعد أن حبس كل منها في مكان صغير جدا ولفترة طويلة . ولا يفوتنا أن اختيار الكاتبة لبطليها عمرا قد يكون في العقد الخامس جاء ليعمق الإحساس بسرقة الزمن لهما بشكل قسري .
التعرية :
كما عودتنا الكاتبة في جل قصصها السابقة، فقد كتبت عملها بواقعية معبرة أو لنقل فاضحة، من شأنها تعرية كل من يتسربلون اثواب العفة والضمير زيفا وبهتانا، وقد جردتهم من كل ما من شأنه أن يسترهم، ولم يبق لديهم حتى ورقة توت تغطي عوراتهم بعد أن فاحت رائحتهم النتنة كأنها كيس قمامة . ( آخر صورة يودعها بيته وقد غفت شجرة التوت على حيطانه ... وكيس القمامة ... )
هذا العري أو التعرية أو التعري نلحظه كذلك في وصف مسهب مغرق في حسيته لجسد الزوجة (هذا النهد الأرعن يثب كأرنب من خلف أوراق كرمة ... الساق مصقولة ربما من عجين أو حليب ممزوجة بالسكر ... وربما كانت الساق من عجين ... شعرها قصاصات ذهبية فرشت الوسادة , فستانها يكشف عن فخذين ملفوفتين ... تحتاج إلى أصابع طفل لرسم خطوط ودوائر بريئة على مساحة الأنوثة الملتهبة ...)لم تكن تعرية الزوجة بهذه الطريقة الا انعكاسا لواقع عار وظلم مجحف، بيد أن الزوجة نراها وقد (لملمت فستانها وصممت على الوفاء متحدية كل إغراءات القناعة الوهمية القادمة من فوق صفحات اللامعقولة ...) فيما ظل الواقع من حولها مفضوحا بعريه .
الوصف التمثيلي :
لشدما أعجبني الوصف التمثيلي الرائع الذي يوحي بمكنون الشخصيات دون التصريح بذلك .
فعلى سبيل المثال نلاحظ قوات الأمن كيف تكون مطمئنة وغير هيابة من المعتقل خشية فراره منهم أو مقاومته لهم، إذ نرى الرجل يمسك بذراع أحمد رجب خليل ثم يخاطبه بثقة متناهية قائلا : (ألبس واتبعني أنا في الغرفة الثانية بانتظارك) (الرجل في انتظاره إلى جواره آخر راح يتطلع في الصور المعلقة على الجدار ...) وهذا الاطمئنان نابع من ثقة عالية لدى رأس الهرم الذي رمزت له الكاتبة براس غليس بأنه لا مجال للمقاومة أو حتى الاعتراض على سلطة الدولة . وثمة وصف آخر جاء بطريقة تمثيلية أظهرت مدى الحرمان الذي تشعر به الزوجة (... تحسست فخذها ... واستدارت تتحسس ردفها ... آنة زفرت من صدرها ) (... نفثت من دخان سيجارتها وراح الدخان في الغرفة يتدور ويتكور بعيداً يرسم هالات في أفق موجع ...)
البطل الإيجابي :
رغم كل السلبيات، ورغم الواقع البائس، إلا أن شخصيتي القصة جاءتا إيجابيتين منتصرتين في النهاية ، وعلى الأخص الزوجة التي تدخل في صراع داخلي مرير، يبتديء بـ (خاطر ربما كان خبيثاً) فللأجل من( تهدر هذه الأنوثة) . ثم أخذت تناجي نفسها قائلة(غداً ويا لقساوة الغد ... يتهدل الجسد وتغور الأعين ... ويمسخ الجمال وتترهل الأفخاذ يتخشب الشفاه وتستر جل الأنوثة ... فعلى حساب من ...؟ وهل الزمن يرأف بما يحصد ويفني ... ام الحياة تبكي على شيء مهدور ) وبعد مخاض عسير تنتصر سجينة الجسد على غريزتها (متحدية كل إغراءات القناعة الوهمية القادمة من فوق صفحات اللامعقولة ...) الا أنها لم تكد تنتهي من خاطر الرذيلة حتى يتلبسها آخر أخف وطأة من سابقه(... ولكن شريعة لم تخلق لخنق الروح والأديان سمحت بالزواج وليس بالخيانة ... فلماذا لا تتزوج ...؟) ورغم ذلك كله ينتهي بها المطاف برفض الخطيب الآتي من بين تلافيف البحث، رفضته مع إنه (انه وسيم ... أعزب ... وموظف ... وله سيارة ومن عائلة معروفة ...) لتأتي النهاية سعيدة وإيجابية بصراخ طفلها( : بابا ... بابا .. خرج من السجن)

مقترب :
ثمة وشائج قربى تجمع هذا النص مع شقيق آخر للكاتبة نفسها، أعني بذلك قصة ( حمد يا حمد) سواء من حيث التشابه أو نقاط التضاد بينهما . فكلا القصتين تبدآن بالهزيع الأخير من الليل ، وكلاهما تحدثتا عن حرمان تعانيه شخوص القصتين . مع غياب واضح للفاعلية الجنسية هنا وهناك، لعله متأت من سلطة عاجزة عن تحقيق طموحات العوام من شعب محروم .
أما التضاد، فنلمسه في زمن القصتين إ ذ تدور احداث قصة ( حمد يا حمد ) خلال يوم واحد نرقب به هذا الشاب من تبلج الفجر حتى الغروب، مع اضافة بسيطة لأيام أخر في ذيل القصة. كل ذلك يجري في تمهل وبطء. بينما تترى السنون في قصة ( السجينة) بسرعة فائقة حتى لا نكاد نمسك بها .
وإذا كانت قصة حمد يا حمد أنثوية بكل معنى الكلمة، فقد جاءت قصة السجينة ذكورية بشكل واضح، إذ نجد امرأة وحيدة يحيط بها عالم ذكوري قاس، يتألف من زوج غائب وأولاد أربعة يثقلون كاهلها، وأب متسلط لا يراعي حالتها النفسية، كل همه أن يزوجها ( ارتفع صوت والدها في وجهها : ماذا ...؟ إلا توافقين ...؟ الم تطلبي الزواج ...؟ أتخجلين ...؟؟ ) وشرطي كان يسهل لها الزيارة لأجل النظر(لجسدها البض وردفها المكور وصدرها البارز بعنفوان مراهقة ساعة القيلولة ...) ولا ننسى رجال الأمن الذين اقتادوا زوجها في البدء ليتسببوا في ماساتها .
لا نجد في هذه القصة تلك العاطفة الأمومية التي ألفناها في قصة (حمد يا حمد) بل على العكس من ذلك، نلفي أمامنا وصفا حسيا مسهبا وطغيان غريزة جسد امرأة هزم الزمن، وصراع بين العفة والسقوط في الهاوية .

Opinions