14 تموز والشواف وتلكيف وألقوش والعم حمزان
ألذكريات , من التذكر والأستذكار والذكرى , بمعنى الحفظ في الذهن ونقله باللسان أو القلم أو القلب عند الإقتضاء , ما يجعله صدى لسنين ماضيات يُـستفاد منه في التاريخ والعبرة ووصولا الى حقيقة الأمور بعيداً عن التشويه والتزوير أو التغيير تعمـدا أو نسيانا .. وبذلك فالذكريات تختـلف في جوهرها عن التحليل والتعـليق الذي يخضع عادة للرأي الشخصي وفـرز العواطف والقناعة الذاتية عند الإستـنتاج واستخلاص التقيـيم والتقويـم ...وإزاء هذا فإن ما نكتبه ونطرحه هو ( صدى السنين ) الذي يأتي على علاته بكل مكوناته ومضامينه , ليقول هذا ما كنت عليه فخذوا الحقيقة ( من رأس العين ) قبل أن تسلك المجرى ويتداخل فيها ما جابهته أو جابهها من غريب .. هذا الصدى هو من النوع الذي يطلق عليه صحافيا بالتحقيق أو الريبورتاج الذي يمثل صورة واقعية لما هـو موجود من دون رتوش أو تلوين .. وهو ما ندونه والعهدة على الراوي كاتب هذه السطور .
يوم نقلت لنا موجات المذياع ونحن في قرانا في ذلك اليوم الصيفي المحرق حرارة , النبأ الذي كنا ننتظره بشغف ، واستبشرنا أن عراقنا سيغدو بلاد أمن ومحبة وخير وفيـر وعسل غيـر مغشـوش الى أبـد الأبدين . . ومع الأيام الأولى ازداد هذا الأمل ترسخا والهدف اقترابا .. ووجدنا حتى بعض العرب في القرى المجاورة لتللسقف ، الذين كان الرأي السائد عنهم بأنهم لصوص وحرامية وشـقاة هاربيـن ، يظهرون في طرقات تللسقف وهم بهيئة تؤكد أنهم بدأوا حياة جديدة مناقضة تماما لما كانوا عليه .. الكل يتصور أن العراق قد ولد من جديد .
لكن جارنا في تللسـقف بطرس ، الكبيـر السـن ، الذي لقبه ( حمزان ) لبساطته المعهودة , جاءني ليقول لي بأنه لن يتسرع ويلتـزم باعتقادي واعتقاد الاخرين بالولادة الجديدة للعراق , مشيرا الى أنه قد حَلـُم الليلة بشخص يقول له ( لاتصدق يا حمزان أن الملوكية " الملكية " تـُصبح جمهورية ) .. فقلت له أنا لاأصدق الأحلام , فردّ بأنه يصدقها لأن ( أحلامه دائما تـتحقق مثـل أكـُف القديسين ) .
كنت في ذلك الوقت شابا تخرج للتو من دار المعلمين الأبتدائية في بعقوبة ولازلت أنتظر تحقيق إحدى رغبات ذلك العمر بأن أُصبح معلما ويكون لي الراتب الشهري .. وبعد أيام معدودات وفي يوم الأحد بعد أسبوع من الحدث العظيم أخذنا بنادق الصيد , مجموعة من المعلمين ومن الطلبة نصف المعلمين مثـلي ومن العمال والفلاحين وأجّرنا سيارة باص خشبية ( وهو المتوفر في ذلك الوقت في قرانا ، أعـتقـد أن صاحبـها كان كـروما ـ كريـم ، الذي صار يـروج أن اسـمه عبدالكريم كأسـم عبدالكريم قاسـم ) وذهبنا الى الخوصر الواقع الى الشرق من قرية باقوفا لنصيد الدراج والسمك ونسبح في أماكن تجمع مياه الخوصر كعادتنا كل يوم أحد , وفي هذا الأحد لنضيف الى كل هذا ، إحتفالا مناسبا بالحدث ( البهي ) الذي كحّـل عيوننا و ( أثـلج ) صدورنا في هـذا القيظ الفـريد .
والفرحة تغمرنا , رأيت عن بعد فلاحين عرب يسقون زرعا لهم من مياه الخوصر , فاتجهت نحوهم ومعي كاميرتي من نوع ( بوكس ) أسود وأبيض , الموجود في ذلك الوقت .. وبعدما سلمت عليهم أردت أن أعرف , هل أنهم ايضا من أهل الفرحة مثـلنا ( بالخير ) الذي حصل .. قلت لهم : أنا صحافي أريد رأيكم بما حصل في العراق .. فأجابوا بلهجتهم الفلاحية ( اللـه يديم الخير الجديد .. احنا بخير) وأجريت لقاءات معهم وصورتهم وأرسلت التحقيق الى ( جريدة ألجمهورية ) التي كانت قد صدرت حديثا ويعمل فيـها الإعـلامي والكاتـب الصديـق فـؤاد قـزانجـي ( طبعـا كان شـابا صغيـرا في ذلـك الوقت ويكتب قضايا تحقيقـات وليس أمـورا تأريخيـة كمـا يكتب هـذه الأيـام ) ..
ومـرّت الأيام والوضع ثـورة , والشعب سعيد بما تحقق , وبعد فتـرة جاء عبدالسلام عارف ( نائب القائد العام للقوات المسلحة ووزير الداخلية ) الى الموصل , وأجـرنا كل الباصـات الخشـبية الموجودة في تللسـقف في ذلـك الوقت وذهبنا إلى الموصـل وبرفقـتـنا زيـا نكارا ومعه آلاتـه الزرنة والمزوج والطبـل , وقصـدنا ساحة الطيران بالموصل لنستقبل ( رسول الثورة ) ونسـتمع الى خطابه المهـم ..
وألقى عبدالسلام خطابا أتسم بتلميحات ضد عبد الكريم قاسم , وعلمنا بوجود ظواهر أن ( الثورة ) بدأت تـتهيأ ( لأكل رجالها ) , كان عدد الذين حضروا لاستقبال عبد السلام والاستماع الى خطابه يقدر بما لايقل عن نصف مليون شخص من أهل الموصل والقرى والبلدات التي حولها .. كان الوقت شهر آب والحر على أشده و ( تـنكرات ) الماء لاتسد حاجة شرب الموجودين , فجاءت ( بيكبات ) وألقت آلاف قوالب ألثلج في ساحة التجمع .. وأتذكر أن قوالب الثلج كانت كثيرة بحيث ظلت في الأرض فأخذ العشرات من اهل تللسقف الموجودين قطع الثلج ووضعوها في قماش ( لافتات ) شعارات الثورة الذي قاموا بطيه مثل الأكياس وأخذوا الثـلج الى تللسقف واستخدموه في تبريد ( بيكات ) العرق مساء .. فقد كان الثـلج في ذلك الوقت عزيزا جداً في القرى لعدم وجود الثلاجات .
وطفت الخلافات على واجهة الثورة , وطرد عبدالكريم زميله عبدالسلام , وتصاعد التآمر الداخلي والخارجي على الثورة , وبدأت الاضطرابات وكان التفافنا نحن حول ( الزعيم الأوحد ) عبد الكريم , وصار عبد الكريم يوصف بأنه يسير على خطى كاسترو كوبا وسوكارنو اندونيسيا ونهرو الهند .. كنا نثق بهذا لأن العاطفة كانت تحكم مشاعرنا , ولم نكن نفكر بان كاسترو قاد ثورتين شعبيتين , أولاهما فشلت والثانية نحجت وبهذا فهو نتاج نضال ثوري قاده الى الحكم وليس إنقلاب ساعات وسيطرة على السلطة , وسوكارنو رجل نضال سياسي ضد الإستعمار الهولندي وليس أيضا نتاج انقلاب عسكري , وأن نهرو مناضل ذاق مآسـي المعتقلات والسجون وصاحب كتاب بعنوان ( لمحات من تاريخ العالم ) يمثـل رسائل كتبها من السجن الى ابنته انديرا يحلل فيها الوضع التاريخي الذي يمـر العالم فيه فترة زمانه وليس رئيسا جاء من آمر لواء عسكري الى صادر للأوامر من ( عرين ) في وزارة الدفاع ..
كان الشعب وضع ثقله لحماية الثورة و( قائدها ) عبدالكريم قاسم , وسارت الأمور بخير والتفاؤل سيد الموقف وقرانا مبتهجة بخلوها من المتآمرين ودفاعها عن الثورة الى حد ربط مصيرها بها , وكانت الفرحة متواصله في مناطقنا , وأتذكر ان عشرات العائلات من تللسقف كانت تقصد كل يوم أحد ( بيندوايا ) وتقضي اليوم بكامله هناك مع الأصدقاء من القوش والجلوس تحت ظلال الاشجار الكثيفة في بستان بيندوايا الواسع , والتـنعم بثماره خصوصا المشمش بعد التفاهم مع العم رزقو ( مسؤول البستان , الذي كان شخصا بحدود الستين من عمره ومن القوش , وكان يجمع مزاجا بين العنف واللين ) فيستخم العنف مع الذين ( يعتدون ) على أشجار البستان بكسر أغصانها وأخذ ثمارها من دون علمه , ويظهر المودة واللين مع الذين يتعاملون معه بالتفاهم , ويضعون بيده نصف دينار ( وهو مبلغ كبير في ذلك الوقت ) حال الدخول ويتفاهمون معه على شراء الفاكهة من البستان والسباحة في ( الصكرا ) وهو مجرى الماء في آخر البستان الجنوبي على شكل شلال صغير وتجمع الماء في منطقة مناسبة للسباحة .. وام يكن في ذلك الوقت أي كازينو أو مقهى في منطقه بيندوايا وإنما كانت توجد قرية لايتعـدى عدد بيوتـها الثمانيـة ، أعتقد ان سكانها آثوريون على المرتفع الشرقي لمجرى الماء , وكانت بيندوايا بكاملها ملكا للدير , وطبعا العـم رزقو مسؤولها المطلق الصلاحيات فيها . . ولكن كل هـذا انتهى عام 1975 حين امتدت إليها يـد البعث العنصرية فطردت أهلها الموجودين فيها وسلبتها من الدير وأعطتها لعرب غـرباء عـنـها . .
والسـؤال الذي سـمعـته هـذه الأيـام كثيـرا : هـل يتـعـاون مسـؤولو ديـر السـيدة لجعـل بيـندوايا قريـة عـامرة ومنطقـة سـياحية واقتصادية مهمـة لشـعبنا ، أم يواصلون عـنادهم للإحتـفاظ بـها أرضـا مـن دون خيـر ، لا الديـر يسـتفاد منـها ولا يسـمحون لأبنـاء شـعبهم أن يسـتفادوا منـها ؟ ؟ على كل حـال نـنتظر بعـض الوقـت لنكتـب عـن النـتائج والحقائـق . .
وسارت الاحداث ( ثورة ) هادئة واطمئنان عام , لاتوجد في قرانا أي اشكال حراسة الثورة , فقرانا موالية للثورة ومدافعة عن 14 تموز من دون ( مقاومة شعبية ) أو ( لجان الدفاع عن الجمهورية ) التي كانت منتشرة في غالبية المدن والأقضية والنواحي في تلك الأيـام , ومنها مدينة الموصل , وكانت الشعارات المرفوعة خلال المسيرات في أنحاء العراق ( ماكو مؤامرة تصير وعيون الشعب مفتوحة ) , والتي توحي بأمرين , الأول وجود تآمر قومي عربي – رجعي على الثورة لوضعها في عهدة فصيل عبدالسلام عارف الذي تم عزله وتحجيمه ( الى حد ما ) ورعاية ( قائد الأمة العربية وسيد وحدتها ) جمال عبد الناصر .. كانت أغاني الاذاعة و ( التلفزيون الذي كان يصل فقط الى أنحاء بغداد وضواحيها ) وطنية , وأتذكر منها ( وطن حر .. أمة حرة ) لفاروق هلال و ( ويلي ليتجاوز الحدود ويلاقي فيها الأسود ) لمحمود عبد الحميد ( كما اتذكر اسمه لأنه توفى من زمان ) و ( كرد وعـرب فد حزام ) لأحمد الخليل ومائدة نزهت و ( مرحى ياقائدنا ) اعتقد كان يغنيها أحمد الخليل ( بالمناسبة أحمد الخليل كان وطنيا مخلصا بفنه طوال حياته الى أن توفي في أواخر الثمانينات من القرن الماضي , وهو كما أعتقد من أصل كردي ) ، أما أغاني فاروق هلال ومحمود عبدالحميد فهما على النقيض منه ، إذ تبدلت مع تبـدّل عبدالكريم ، فأصبحت أغنية فاروق هلال المشهورة ( أمة أمة عربية . . ) ومحمود عبدالحميد ( لاشرقية ولا غربية ) .
وفي مطلع اذار 1959 قيل لنا ستقوم مسيرة ضخمة في الموصل يشترك فيها قادمون من كل أنحاء العراق , هدفها اظهار قوة الشعب في صد أي تآمر على الثورة , وأجّـرنا كل الباصات الخشبية الموجودة في تللسقف وذهبنا الى الموصل للمشاركة في التظاهرة التي أُطلق عليها ( مسيرة أهل السلام ) إذ جاء قطار كامل مخصص لنقل الذين يشـتـركون في المسيرة من بغـداد الى الموصل أُطلـق عليه ( قطار السلام ) .. وكانت تظاهرة ضخمة حقا وتجمعت في ساحة كبيرة في جنوب غربي مدينة الموصل والقى فيها خطباء من ( أنصار السلام ) كلمات , وأتذكر من بين الذين القوا الكلمات راهب سرياني أرثوذوكسي ( أعتقد اسمه افرام عبودي ) أصبح فيما بعد مطرانا في الهند بعدما تمكن بطريرك السريان الرجاء بعد تبـدّل عبدالكريم لإخراج الراهب من العراق إنقاذا له من الإعتقال ، ورجل دين مسلم من عشيرة ( المتيوت ) أي هو ( متيوتي ) ألقى كلمة أيضا .
لكن هذه التظاهرة لم تقـدم فائدة – كما ظهر – إذ في السادس من آذار 1959 ( أي بعد أربعة أو خمسة أيام من التظاهرة ) قامت مؤامرة الشواف في الموصل , ولكن نظرا ليقظة الشعب وأيضا ولاء القوات المسلحة تـمّ القضاء على التمرد بعد ثلاثة أيام من اندلاعه , ومن الذين قتلهم المتآمرون خلال التمرد ( الشهيد كامل قزانجي ) وهو مسيحي محامي شهير كان ينتمي الى الجناح اليساري من الحزب الوطني الديمقراطي بقيادة كامل الجادرجي , وكان من أنصار السلام وقد أبعده النظام الملكي عام 1957 عن العراق مع توفيق منير ( مؤلف كتاب حركة السلام في العراق على حقيقتها – الصادر عام 1954 في بغداد ) وأسقط النظام الملكي عنهما الجنسية العراقية لنشاطهما وشهرتهما السياسية اليسارية .. وخلال اليوم الثاني للتمرد ذهبت مع مجموعة من أهل تللسقف باتجاه الموصل ووصلنا الى ( تل قوينجق ) وكان على التل مئات الاشخاص من المدافعين عن الثورة ضد التمرد , وأتذكر أنّ شخصا من المقاومين للتمرد في داخل الموصل جاء الى تل قوينجق وأبلغ الموجودين فوق التل بأنه تمت محاصرة المتمردين في مناطق معينة وسيتم القضاء عليهم خلال 24 ساعة , وهذا ما حصل فعلا .
واتذكر حادثـتين متناقضتين في قرانا خلال هذا التمرد , إحداهما في تلكيف والأخرى في القوش , ونبدأ من تلكيف .. فقد كان قد لجأ إلى تلكيف تهربا من مشاكل التمرد الحاكم أمجد المفتي ومدرس الثانوية عمر الشعار ( من الموصل ) , وهما شخصان رجعيان ولكن يبتعدان عادة عن مشاكل التمرد والاحزاب ومعروفان بأنهما من أهل (الكيف والونسة ) , وجاءا الى تلكيف لعلاقتهما الوثيقة مع عائلة تلكيفية ( طبعا أنا أعرف العائلة جيدا وأعرف بحسب السماع شكل العلاقة ) وخلال وجودهما عند العائلة التـلكيفية عرفت بهما جماعة من أهل تلكيف ( كان بعضها من الشيوعيـين ) وأرادت اخراج أمجد وعمر من البيت , فخافا وهربا الى مركز شرطة تلكيف وطلبا الحماية , وخلال وجودهما في المركز تجمع المئات من أهل تلكيف محاولين مهاجمة المركز لإخراجهما وخلال هذا الوقت صدفة مررت أنـا بتلكيف فوجدت حقا أن الأمر فوضى , وللتاريخ رأيت عددا من قادة الشيوعيين ومنهم معلم مدرسة تلكيف يونس يوسف صادق ( وهو من تللسقف وساكن تلكيف ) يسعون لتهدئة الجموع المحتشدة ولكن من دون جدوى , وسمعت في اليوم التالي أن المركز ( وكان مفوض المركز شخص من بيت السبعاوي في الموصل وكان ومن رجالات العهد الملكي ويتسم بالامبالاة ) قام بتسليم أمجد وعمر الى الجموع وأخذهما عدد من الاشخاص في سيارة باتجاه الموصل وقتلا بعد مسافة قصيرة من تلكيف . .
ولكن حتى اليوم لم استطع معرفة طريقة قتلهما ومن قتلهما بالتاكيد وكيف تم ذلك ومن كان الاشخاص الذين كانوا معهما بالضبط , ولكن من الناحية العقلانية أرى أن المسؤولية عن قتلهما يتحملها الاشخاص الذين كانوا معهما بالسيارة بعد اخراجهما من المركز باتجاه نقلهما الى الموصل . وظلت القضية متداولة بعد قتلهما وحيكت حولها أحاديث وأسماء كثيرة , وفي أواخر تموز 1959 ( إثر بداية تغيرات عبد الكريم قاسم ) تـمّ القاء القبض على عدد من الأشخاص بتهمة قتلهما بينهم معلم مدرسة تلكيف ( وهو من تللسقف ) ميخائيل كوركيس عتوري كما جرت محاولة لإلقاء القبض على المعلم يونس يوسف صادق ولكنه ظل هاربا , وقد تم الحكم بالإعدام على أربعة أو خمسة أشخاص من الموقوفين وبالسجن على آخرين بينهم ميخائيل كوركيس وغيابيا على يونس يوسف , ومع انني لاعلم لي بالقائمين الرئيسين بالقتل ولكنني أجزم من خلال أحاديث الناس أن الشهود كلهم كانوا ملقنـين ومزورين ولم يشاهدوا شيئا مما تناولته شهادتهم أمام المجلس العرفي العسكري الأول الذي تمت فيه دعوى القضية , والذي كان برئاسة الضابط ( الحاقد جدا على الشيوعيين ) شمس الدين عبداللـه والمدعي العام الضابط ( الحاقد جدا ايضا على الشيوعيين والمعروف بسوء أخلاقه ) راغب فخري ، ولهذا فان ميخائيل كوركيس ويونس يوسف لم تكن لهما علاقة بالموضوع اطلاقا , كما أن قسما من المحكوم عليهم بالإعدام ان لم يكن كلهم ، لم تكن لهم علاقة أبدا بعملية القتل , وقد تـم التـنـفيـذ بكل الذين حكم عليهم بالإعدام بعد انقلاب 8 شباط 1963 الأسود .
ومنذ ذلك الوقت , وللحقيقة منذ 1960 , استغلت الرجعية بالموصل مقتل أمجد وعمر , واشـتد التضييق على أهل تلكيف , وأخذت تلكيف تفرغ من أهلها بسبب ازدياد الهجرة منها الى الخارج , وشرع العرب بالسكنى فيها .. وحتى وصلت حال تلكيف الى ما هي عليه الآن .
أما حادثة القوش فهي مغايرة , فقد صادف أن كان مفتش المدارس الإبتدائية عبدالمحسن توحلة ( وهو رجعي من أتباع العهد الملكي ) موجودا في القوش خلال تمرد الشواف , فلاقى كل الاحترام والتقدير والبقاء معززا مكرما في القوش حتى إنتهاء التمرد وعودة الوضع الطبيعي الى الموصل ، ورافق عدد من معلمي القوش عبدالمحسن توحلة الى داره في الموصل وهو يتمتع بكل الاحترام , وبعد ذلك بنحو ستة اشهر أصبح عبد المحسن مديرا للمعارف ( التربية ) في لواء ( محافظة ) الموصل وكان الرجل دائما يتـذكر هــذه الحادثة وكـرم اهـل القوش معه , ويصفهم ( بالكرام أبناء العشائر ) .
ومعـلوم أنه بعد تمرد الشواف , تشكلت لجنة ثلاثية للمعارف ( تربية ) لإدارة شؤون المدارس في الموصل , برئاسة بهنام شماس توما ( جاء من بغداد ) وعضوية ( الشاعر والكاتب المدرس الثانوي ) يوسف الصائغ و ( المعلم ) حسن عمر الأفغاني واستمرت بالعمل نحو ستة أشهر وتم الغاؤها بقرار من عبدالكريم قاسم وتعيـين عبد المحسن توحلة مديرا لتربية ( معارف ) لواء الموصل وهكذا استمر الوضع جيدا في العراق , حتى بـدّل عبدالكريم ( الكير ـ كير السيارة ) كما كان هو يقول , بعد خطابه في شهر تموز 1959 في افتتاح كنيسة ماريوسف في الخربندة ببغداد , والذي هاجم فيه ( بشكل غير أخلاقي وعبارات لا تليق برئيس حكومة مثـله ) الشيوعيين , بذريعة أحداث كركوك , التي أثبتت الحقائق أنه لم يكن للشيوعيين ضلعا فيها وإنما كانت من تدبير المخابرات الانكليزية والتركية بالتعاون مع الرجعية المحلية وخصوصا الرجعية التركمانية .. وقال الناس في حينه ( انتهت مرحلة ثورة 14 تموز وتحولت الأمور الى انقلاب , ولم يبق للثورة من وجود , بفضل عبدالكريم نفسه ) .
وشرع عبدالكريم في اعتقال الشيوعيين والتضييق عليهم , وهو ما هيـأ الفرصة للبعثيين والرجعيين لمحاولة قتله في تشرين الأول 1959 في منطقة رأس القرية ببغداد , ومع هذا لم ( يعد الى رشده وعقله ) ولم يعدم الذين أطلقـوا عليه الرشاشات وأصابوه في كتفـه ، وظل يردد عنهم ( عفا اللـه عما سلف ) وبحيث صار يسري هـذا العفـا اللـه على البعثيـين وغيرهم باستـثناء الشيوعيين , ويبدو أن هذا ( العفا اللـه ) كان من أجل تسليم الأمور كاملة للبعثيـين والرجعيين للتآمر عليه وعلى الثورة , ولكي يرتبوا بحرية لإنقلاب 8 شباط 1963 , ويحدث ما حصل وهو معلوم . .
وبعد ذلك , جاءني ذات يوم جاري العـم حمزان وقال لي : ( هل رأيت يا عزيزي جميل , مؤكدا الآن , أن ما حلمت به بأن الملوكية لن تصبح جمهورية , كان صحيحا ) قلت له : صحيح عمي حمزان وألف صحيح .. وكلما كنت بعد ذلك أتذكر قول جاري حمزان , أردد : رحم اللـه ثورة 14 تموز ورحم معها عمي حمزان .