تنميّة التفكير واستعادة تشغيل العقل
تفاهة مانشيتات القرن العشرين وشعاراته :ان قسوة انهيار تلك القوى المحلية والثورية والراديكالية التي منحت نفسها مانشيتات وتسميات عدة مثل : التقدمية والحرية والقفزة النوعية والارادة الشعبية .. الخ وتبدد تلك التطلعات عند بدايات القرن الواحد والعشرين، أعاد التشاؤم والاحباط إلى قرننا العربي . كيف لا وحروب الخليج الاولى والثانية والثالثة .. كانت سبباً رئيسياً في زعزعة ثقة المجتمعات العربية بنفسها ومع أن هذه الحروب وما سبقها من حروب من نوع آخر كانت قد أسقطت بكارة النظم السياسية القومية والثورية واهانت عذريتها وطهاراتها التي كان قد اعلن عنها مؤسسو الحركات الثورية والايديولوجيات الانقلابية ، الا ان النظم السياسية العربية القديمة التي مثلتها بعض الانظمة لم تستطع ان تتجاوز هي الاخرى حواجزها وحدودها من اجل ان تطور مؤسساتها السياسية وآلياتها في الحكم وعلاقاتها الدستورية بكل من الدولة والمجتمع العربيين برغم أن تأثيرها النفسي كان أعمق بكثير في العالم وخصوصا من النواحي السلمية والامنية مقارنة باجهزة القمع التي مارستها المخابرات في الانظمة الثورية ، فكم تحت ظل هذه الانظمة من آلاف البشر قتلوا واعدموا وغيبوا في السجون والمعتقلات ومورست ضدهم كل الشناعات من التعذيب النفسي والجسدي بعيدا عن اي مبدأ من مبادىء حقوق الانسان ، فكيف بحقوق السماء في القرآن الكريم والكتب المقدسة .
كيف نجعل العالم كله في ايدينا ونتعامل معه ؟
ان مجتمعاتنا بحاجة الى امتداد واسع من افق معرفي وتفكير حضاري وتخطيط مستقبلي لمعرفة ما يمكن ان يكون لديهم وبناء قاعدة من المعلومات المتكاملة والمتراصة من اجل ان يضعوا اقدامهم على سلم الصعود والمؤدي للبناء والتقدم العلمي والمعرفي فإنه لا غنى له عن الإطلاع على مختلف الادبيات في شتى المجالات والمواضيع والعناوين وأرى أن فهما معمقا للادبيات المعرفية والميدية المعاصرة التي تستحق منا وقفات نقدية واشكالية للإطلاع على محتواها وفحوى معلوماتها والتي قد لا نجد لها مثيلاً إلا في القلة القليلة في ما يترجم الى العربية . وهذا لا يعني إعجابي التام بمثل هذه الادبيات وخاصة أن بعضها يتعارض مع مبادئنا وتربوياتنا وحتى توجهاتنا وافكارنا كشرقيين وعرب ومسلمين ولكنني أرى أنه لا بد من الإطلاع على أفكار الغرب ومبادئه من خلال ادبيات مجتمعاته وكتاباتهم ومنشوراتهم واعلامياتهم .. لنتمكن من ما يجري في التفكير العالمي ، ولنفهم ايضا الى اين يسير العالم ، ناهيكم عن ادراك موقعنا الحقيقي من التاريخ الحديث للبشرية ، مع الاخذ بنظر الاعتبار مسألة الرد على كل الاتهامات والتقولات والاحكام التي يصدرها الغربيون عنّا ومناقشتهم فيها .
المهم في الأمر أن باستطاعتنا ان نجعل العالم كله بين أيدينا ونحن نتعامل معه من جغرافية مركزية لها استراتيجيتها المهمة برا وبحرا وجوا .. اضافة الى ما يمكننا الاستفادة منه في حمل المعرفة المتطورة عن تطور المجتمعات البشرية وقدرة الفكر الفلسفي المعاصر على اجتياز أفكار هيجل وماركس وتوكنيل .. والخروج بفلسفات متنوعة على امتداد مساحة القرن العشرين ، وهي فلسفات انبثقت عنها اتجاهات فكرية وتيارات سياسية وحركات اجتماعية .. فضلا عن جملة من النزعات الادبية والنقدية في الثقافة العالمية . هنا ، وقد اجتاز العالم عتبة القرن الواحد والعشرين وتخضرم الجيل الحالي من المعاصرين بين قرنين ، سيختلف هذا القرن الجديد بالضرورة عن ذاك الذي سبقه والذي عاشت اجيالنا الحديثة في خضمه .. فلابد اذن من طرح جملة هائلة من التساؤلات الفكرية ، وخصوصا تلك التي تتطلع الى بناء واقع من نوع جديد سوف لن يكون الا باعادة التفكير في كل ما يخص الحياة .. واعتقد ، انه من دون اعادة التفكير في الشأن الحضاري ( بعيدا عن النهضوي الذي عاش معنا في القرن العشرين ) والشأن المستقبلي .. سوف لن يكون اي نجاح يذكر على مستوى ما ستحققه الاجيال الثلاثة القادمة في القرن الواحد والعشرين .
الاحباطات النفسية الصعبة في مجتمعاتنا :
حينما نتحدث عن تشاؤمنا واحباطاتنا ، لابد من القول أن من أسباب ذلك في القرن العشرين هو ما حدث فيه من سوء ادارة ، واستغلال ، واستيطان ، وحروب ، وكوارث ، وثورات ، وانقلابات عسكرية ، وانظمة دكتاتورية ، ونشوء ايديولوجيات سخيفة ، واحياء مآثر عاطفية ، وانهيار مقومات ، وتحجر ثوابت ، وانتفاء اخلاقيات ، وسقوط دول ، وقتل ، ودماء ، وعمليات إبادة جماعية .. الخ ومع ذلك ، فهناك اكثر من سبب رئيسي يدعونا للتفاؤل، وثمة اسس رئيسية للتفاؤل كانت أملاً للقرن الماضي ، وياتوقف عند اثنين ، هما:
اولا :الاعتقاد بأن العلم الحديث سيقضي على الجهل والمرض والفقر فتتحسن بذلك أحوال البشر في مجتمعاتنا – كما حصل في مجتمعات اخرى - ، وأن التكنولوجيا الحديثة ستتحكم في الطبيعة المعاصرة ، ولكن من خلال انتاجها لا البقاء اسرى استهلاكياتها ، وهي التي ظلت دوماً حقيقة واقعية للإنسان العربي فهو لا يفكر من الذي اوجدها وطورها بشكل مذهل ، وبقي يردد ان مرجعياتها انما تعود للحضارة العربية الاسلامية ، وبرغم انه جعلها أداة في سبيل زيادة سعادته ، الا انه لم يعترف ابدا بفضل اصحابها عليه كونهم من الذين استعمروه ، وهنا يبقى لا يفصل بين المجتمعات والدول ، وبين الثقافات والسياسات .
ثانيهما : أن تجارب الحكومات الديموقراطية الحرة التي عاشت تجاربها الصعبة في ظل اوضاع متخلفة في النصف الاول من القرن العشرين ، لم تجد من يرسخ فيها المؤسسات ، ويعتني كثيرا بالدستور .. ولما زادت الهجمة السياسية الثورية والانقلابية العسكرية عليها محملة اياها كل تبعات فقدان فلسطين والتآمر مع الاستعمار والتحالف مع الرجعية ، فانه سيستمر انتشار الهجمة عليها مع بروز جيل اثر الحرب العالمية الثانية سيمتلىء عاطفيا بالشحنات السياسية والاحاديات الحزبية المناوئة للفكر الحر والغرب بحكم الظروف التي كان عليها العالم كله في ظل احتدام الحرب الباردة بين المعسكرين الشرق والغرب . وهذا سيقود بالضرورة عندما تغيرت احوال نهايات القرن العشرين الى المزيد من الاحباطات على مستوى التفكير وتهتك الواقع .
واخيرا : ماذا نفعل ؟
ان اساليب اعادة التفكير في اوضاع مجتمعاتنا ، يعيد ويكرر نفسه مرات ومرات ، وهو المطلوب .. وكثيرا ما نادينا بأن تخصص مادة دراسية بعنوان ( تنمية التفكير ) في المدارس والجامعات التي تنتشر في بلداننا ، تعلم الاجيال الجديدة كيفية التفكير ، وتحّد من طوباوية العقل ، وترشد الى التدقيق وكيفية البرهنة على الاشياء وترجعهم الى العقل دوما في تفسير الظواهر .. وتجنبهم الاطناب وجعل الخيالات حقائق ، بل وتعلمهم اساليب الاختزال والتحرر من كل التعقيدات والرواسب والثقافة المتوحشة وتخرجهم عن التقاليد البائرة وتحرر افكارهم من هيمنة اللا واقع وسطوة العاطفة .. فسننتظر تقدما ملحوظا في كل ميادين الحياة . انني أسأل : هل سيحدث ذلك يوما ؟ هذا ما سيجيب عنه المستقبل .