ثقافة الوطنية بين الشعار والعمل
لطيف القصاب/يدور الحديث في العراق منذ مدة طويلة حول مفهوم الوطنية وما يسببه ضياع هذا المفهوم من نكبات على الأصعدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية ولكن حتى هذه اللحظة الحاضرة فان هذا المفهوم ما يزال يشوبه الكثير من حالات الالتباس والضبابية وسوء الفهم نتيجة لدورانه في حلقة مفرغة وغير منتجة من التعريفات المتعسفة والمتضاربة والتي تترشح عادة من حوارات النخبة المثقفة وتنحى بغالبها الأعم منحى ايجابيا ومثاليا في توصيف ثقافة الوطنية.
فهي تستدعي عند بعضهم وجود مواطن محب لوطنه حريص على البقاء فيه والانتماء إليه وعدم التفكير في الإساءة له ماديا أو معنويا مهما بلغت ظروف العيش داخل الوطن من الحدة والقسوة، كما يتطلب وجود الحس الوطني عند فريق نخبوي آخر الالتزام بمنهج السلطة الحاكمة وتنفيذ أوامرها من غير ما نقاش كما هو الحال في التلقين طويل الأمد للأيدلوجيات الليبرالية واليسارية والقومية التي تحكمت في صياغة وبلورة المشهدين الثقافي والسياسي في العراق ردحا طويلا من الزمان واحتكرت لنفسها حق تعريف الوطنية مثلما احتكرت لنفسها ما درجت على تسميته بالحكم الوطني أو المعارضة الوطنية.
فيما انفردت جماعات فكرية أخرى بتبني مبدأ مناهضا لفكرة الوطنية إلى الحد الذي توسم فيه الوطنية عند أشدهم ولوغا بالتطرف الاممي على أنها أي الوطنية مجرد وعاء للوثنية بالرغم من أن العديد من أصحاب هذه النظريات اخذ على نفسه مراجعة فلسفاته السابقة وتكييف ما برهن الواقع على مجافاته لحقائق الأشياء ومنها هذا الفهم المغلوط لمعنى ودلالات الوطنية.
وبين خضم التعاريف السابقة والتجارب الوطنية بشقيها الحاكمة والمحكومة انقسم الشارع المحلي إلى تيارات عديدة انتهى الحال بأكثرها إلى تصور الوطنية على أنها سوق رائج للمزايدات واستهلاك الشعارات التي لاتُسمن ولا تغني عن جوع، وأصبح الفرد العراقي بوجه عام غير مكترث بفكرة الوطنية وناقم حتى على الوطن الذي تُنسب إليه هذه اللفظة كما بات ديدن الغالبية العظمى من العراقيين هو التفكير الجدي بعدم جدوائية البقاء في وطن ليس فيه للمواطن من قيمة تذكر سوى ما يقدمه من خدمة إجبارية لهذا الوطن المختزل برغبات ونزوات من رفعوا لافتة الحكومة الوطنية هذه الرغبات والنزوات التي تقاطعت تاريخيا وفي معظمها مع رغبات الفرد العراقي البسيط والذي لم يُصبح مواطنا بعد،إذ أن المواطنة حق لم ينله على مدى الأيام إلا القابضون على زمام الحكم والثروات وهؤلاء لا يمثلون نسبة معتدا بها من سكان العراق.
ولكن ما الذي أسس لشعور الكراهية في أعماق قسم من المجتمع العراقي ضد المكان الذي ولدوا وعاشوا وما يزالون يعيشون فيه باستثناء غلبة الطابع القمعي والدكتاتوري على حياتهم السياسية والذي أنتج بدوره شعورا شعبيا عاما بالغبن وولّد ردات فعل ضد الدولة بوصفها كيانا سياسيا وإداريا غاشما، هل إن العراقيين يحملون في جيناتهم الوراثية نزوعا جماعيا يحملهم على كراهية الوطن أم أن هناك عوامل مكتسبة هي التي تقف وراء هذه الحالة الشاذة في سلوك هذه الجماعة البشرية ويدعوها إلى ممارسة أعمال الارهاب والفساد والسلب والنهب والتجاوز على ممتلكات الدولة ومنها ما يعود إلى أفراد عاديين كلما سنحت لها الظروف التاريخية مزاولة عمل من هذا القبيل؟.
إن الوطنية هي المولود الطبيعي لمشاعر المحبة والثقة المتبادلة بين الناس لا الكراهية والنفور من الآخر المختلف أيدلوجيا ومصلحيا، يقول المشتغلون في علم النفس السياسي في هذا الصدد إن قيم العدالة الاجتماعية تفترض الالتزام بمصالح الآخرين فإذا كان هؤلاء الآخرون ليسوا محل ثقة فان الالتزام بمصالحهم سيغدو ضربا من الخيال إن لم نقل الجنون وبالتالي انتفت ثقافة الوطنية في دول تختزن شعوبها لمشاعر العداوة بعضها ضد البعض الآخر.
ولو رجعنا إلى تقصي جذور انعدام الثقة بين أطراف ومكونات الشعب العراقي على وجه التحديد لأمكننا بقليل من التأمل استقصاء عدة عوامل تصلح لتفسير انتفاء ظاهرة الثقة بين العراقيين تلي طبيعة النظام السياسي المتسلط من حيث المرتبة والقوة والتأثير ولعل في مقدمة تلك العوامل ما يلي:
اولا: التباين الديني والعرقي
ثانيا: الموقع الجغرافي
ثالثا: تركة الاستعمار وبضمنها فرز الطبقة الحاكمة وفرض الصيغ التي لاتراعي مصلحة الغالبية من افراد الشعب وترسيم الحدود الخارجية.
رابعا: تشتت المعارضة السياسية وتعدد ولاءاتها الفكرية وتصارعها على المصالح والنفوذ
خامسا: النظام العشائري
سادسا: التدخل الإقليمي والترحيب بهذا التدخل من قبل بعض المكونات
سابعا: النظرة الاجتماعية المتدنية للديمقراطية واحترام القانون
ثامنا: النظرة الاجتماعية المتدنية للعمل
يقول بعض علماء النفس السياسي إن الناس يرفعون من أهمية القيم التي يمكن الوصول إليها بيسر ويخفضون من أهمية القيم التي يرون أن الطريق إليها مسدود، ومن اجل فتح الطريق أمام قيمة حب الوطن التي هي الأساس في تشييد مفهوم الوطنية بمعناه الايجابي والمتداول بين الشعوب المتحضرة لابد من التركيز على ايجاد حلول ناجعة لاسيما للنقاط الأربعة الأخيرة التي ذكرناها آنفا بحيث يُصار إلى:
ان تحول لغة الشعارات الوطنية التي ترفع لوائها الدولة العراقية في هذه الايام إلى مواد وفقرات قانونية ملزمة لجميع المواطنين العراقيين وتعمل بصورة فاعلة وملموسة على صيانة مبادئ المساواة الواردة في الدستور بصرف النظر عن الاختلافات الجانبية.
ان تحفظ الدولة لاسيما الجهاز التنفيذي كرامة المواطنين ماديا ومعنويا وان تستبدل علاقة الخوف من النظام بقاعدة الاحترام لا على طريقة (احترم تُحترم) سيئة التطبيق.
ان تفتح الأبواب مشرعة أمام مشاركة الأكفأ من بينهم في صنع القرارات السياسية والإدارية والاقتصادية.
ان تتبنى الدولة مسؤولية التكفل بإيجاد آليات من شانها ترسيخ ثقافة الوطنية وتعزيز قيم التسامح وتقبل الآخر المختلف دينيا وعرقيا.
ان يركز المسئولون في الدولة على تقديم صورة في السلوك جديرة بالاحتذاء من قبل المستويات الدنيا.
ان تجتهد مؤسسات الدولة خاصة الإعلامية منها على الإعلاء من قيم العمل والتعاون وتغليب المصلحة العامة على المصالح الأنانية.
ان يضع الجميع على عاتقهم مهمة سد الباب أمام التأثيرات الأجنبية التي تستهدف إحداث انقسامات مجتمعية بين المختلفين دينيا وعرقيا وسياسيا والحيلولة دون إحلال منظومة القيم البالية محل القيم المدنية الداعية إلى حب الإنسان لأخيه الإنسان.
* مركز المستقبل للدراسات والبحوث
http://mcsr.net