ثنائية استلاب التفكير : عقدة خواجا وسذاجة مّلا !!
ابتلى التفكير في مجتمعاتنا بنقيضين غالى ولم يزل يغالي فيهما اولو التفكير الضيق ، وما اكثرهم ، فطار عقلهم ، وتيبست احاسيسهم ..ولعل ابرز من استلب التفكير في مجتمعاتنا هذا الذي ترافقه عقدة الخواجا ،اذ يغالي جدا في تبني فكر معين والانغلاق على ثقافة اجنية اوربية ينبهر بها ولا يرى احسن او افضل منها في هذا الوجود .. اما نقيضه فتجده عند سذاجة مّلا ، او ما يعّبر عنه بمصطلح " السقاعة " ، وهو لا يرى ابعد من ارنبة انفه ، بل وينظر الى الحياة بكل سذاجة وبلاهة في ظاهر الامر ولكنه يخفي حقدا وكراهية لها بحكم ارتزاقه باسم الحياة الاخرة .. ان الاثنين كنموذجين تزدحم بها مجتمعات الشرق الاوسط قاطبة ويطغيان بشكل كبير ، وهما بحاجة الى تفكير نقدي معمّق والى نقاد عقلاء ومهرة لهم توازنهم وموضوعيتهم .. والمطلوب قرارات وصناعة بدائل نقدم الناقد ، فالنقد عملة نادرة في حياتنا اليوم بفعل استلاب التفكير منذ خمسين سنة مضت .. ان حياتنا الفكرية والثقافية تكاد تكون مشلولة مع ركام من يمثلها بانعدام النقد والنوع والاستكشاف والابداع والعالمية ..من يحاول ان يعيد البناء عندنا لا يستطيع العيش في اوساط الذين لا عمل لهم الا كيل المديح وهز الرؤوس او يهرج باسم الشعارات السياسية والدينية وسط اقوام من المنافقين والكسالي والاغبياء.. انه يعرفهم لا يقرأون ولا يهتمون ابدا وتجدهم يعلنون بكل صفاقة عن توزيع احكام بالجملة علي هذا وذاك.. الضحية من يقول كلمة حق في هذه ( الامة )! الضحية من لا يجامل علي حساب مشاعر الاخرين! الشجاع هو الضحية دوما في حياة هذه ( الامة ).. انه الذي يكشف ما استطاع من التزييفات التي تصل الي حد الجبن عند الاخرين من الذين يتربعون في اماكنهم ويوزعون احكامهم وسفاهاتهم!
التفكير الاعمى بين استلابين
المفكر الحقيقي من استطاع ان يعالج النصوص والاقوال وجملة مقول قول الخطاب بكل جرأة ومضاء ودقة وصبر ويكتشف الحقائق ويعلنها من دون ان يلتفت الي هذا وذاك.. المفكر الحقيقي هو من يهتم بالمعلومات لا بوجهات النظر، انه يؤسس علي الاولي ويحترم الثانية.. وكم نجد من موضوعات مكررة في الثقافة وفي حياة هذا الفكر ( العربي خصوصا ) الشاحب ويا للاسف الشديد.. تجدهم يقّلد احدهم الاخر ونادرة هي فرص الابتكار واسداء الحلول وتحليل المعالجات.. وكما يحدث في كل الفنون (الادبية) والمنتجات (العلمية) انحسر امر المقروءات علي حساب اي نوع من الكتابات وندرت الاعمال المترجمة عن اللغات الاساسية الحية في العالم، وتقلصت حتي تلك القراءات التي يستلزم من المثقف العناية بأمر اقرانه ومنتجاتهم.. تجد عقدة ( الخواجا) من جانب وتفاهة ( الملالي ) قد تمكنتا في اعماق هذه السيول العارمة من نخب الكتاب والمثقفين والمعلمين والمهنيين او من يسمون انفسهم باعضاء المجتمع الحيوي .. وعلي الرغم من تلك العقدة الخفية القديمة او هذه العقدة المستحدثة ، فالكل يلعن الغرب ليل نهار ولا يميزون ابدا بين مجتمعات الغرب وسياسات دوله! كما ان مجتمعاتنا باتت لا تميّز بين المعاني والتشيؤات ولا تعرف كيف ولدت مجتمعات معاصرة منتجة وذكية في عالم اليوم وهي غير محسوبة على الغرب ابدا .. بل انها في اقصى الشرق البعيد !
الاطواق وزمن الانعزال
إن ما فرض علي مجتمعاتنا المعاصرة بعيد العام 1979 من اطواق فقهية وولائية وسلطوية ومذهبية وامنية ورقابية وحزبية وجماعاتية تكفيرية عديدة قد زادت في خذلان العقل في مجتمعاتنا التي طوقتها الايديولوجيات المستوردة والتافهة والرومانسية البليدة منذ اكثر من خمسين سنة وخصوصا بعد العام 1949 حتي غدا اليوم عند بدايات القرن الواحد والعشرين يخشي علي نفسه من ظواهر لم تكن موجودة في ما مضي من الايام.. ومثلما عشّشت في النفوس والمشاعر الساخنة تعبيرات كالخيانة والرجعية والعمالة.. الخ في قواميس الكتاب والمفكرين القوميين والبعثيين والراديكاليين الماركسيين التقدميين.. شاعت اليوم تعبيرات مثل التكفير والردة والضلالة والمروق.. الخ وكلها تكشف عن وجوه تختفي وراء اقنعة ايديولوجيات اسلاموية سياسية هشة لا تقاوم هذا الواقع.. او انها تعيش وراء جدران السلطويات المتنوعة في كل من الدولة والمجتمع.. وحيث تبلورت للوجود نخب شابة جديدة من جيل جديد، فلقد ورثت الانماط نفسها والعادات ذاتها، ولكنها اليوم تعيش فراغا قاتلا بين واقع موبوء بكل الامراض السيئة وبين متغيرات صاعقة هي بمثابة صدمات قوية جدا. وعليه، فالمطلوب الانفتاح علي حياة هذا العصر الجديد الذي لا يمكننا مقاومته ابدا، ولا يضحك علي الناس من يقول بأنه سينعزل عن روح هذا العصر وهو لا يشعر بأن كل معطيات هذا العصر تحاصره وهو المستفيد منها اولا وآخرا!
هل من احتضان بدائل جديدة ؟
هذا هو السؤال الحقيقي الذي لابد من الاجابة عليه مع طرح نوعية تلك البدائل، فالدنيا تمشي الي الامام ولا يمكن ارجاع القديم الي قدمه ابدا.. هل ستتوفر اكثر من ارادة اجتماعية جديدة في منطقتنا تعلن بكل وضوح عن اجندة مستقبلية؟ هل من بداية لزمن تشيع فيه النقدات الحقيقية ويتوفر فيه قدر من الحريات والجرأة وان تكون هي نفسها رقيبة لاعمالها؟ وليس معني استخدام الحريات ان يتحول الناس الي لوحة سوريالية من المضحكات المبكيات كالتي تمارسها اليوم بعض القنوات الفضائية الفوضوية او اغلب اجهزتنا الاعلامية والثقافية بكل جهالة اعلامييها وتنطع ضيوفها.. فالمخفي كان اعظم. ان ابعاد الفكر المعاصر في مجتمعاتنا عن شحوبه يستلزم اساسا ان يبعد كل من المفكرين والمثقفين والساسة والمهنيين من ابناء النخب الحيوية عن السايكلوجيات والعادات السيئة الموروثة وان يكونوا ملتصقين حقيقيين بواقعهم المضني لا ببهرجة التلفزيونات والندوات او بخطابات ومواعظ المتخلفين ! علي من يحمل رسالة شريفة وامينة باسم الفكر واستعادة الوعي ان يبعد مشاعره عن روح الاحقاد والكراهية وعن الدهاليز المظلمة التي لم تجد النور ابدا .. عليه ان لا يجحد اعمال غيره من اقرانه.. وان يحترم الرأي الاخر ولا يبخس باية بضاعة كانت الا بعد فحصها وتبيان مثالبها.. علي امثال هؤلاء من سدنة الايديولوجيات التي تتبناها مراكز بحوث ومؤسسات ومنظمات وجماعات واحزاب.. ان تبتعد عن التفكير السوقي والبضاعة الفاسدة والشعارات العتيقة.. عليهم الابتعاد عن العفرتة والزقاقية والابتذالية والمجونية والتكفيرية والممانعة والكوميديات الهزلية بعرف العقلاء.. ان يتخلصوا من الدعايات المجانية والتشهيرات السيئة واساليب التعتيم علي الصرحاء الطلقاء الاحرار من علماء ومختصين وادباء ومثقفين ومبدعين حقيقيين.. عليهم التخلص من الببغاويات والتكرار والترديد واليات التقليد ناهيكم عن جلافة التفكير والادانة وعن سرقة الافكار والمجهودات عن الآخرين..
انني اذ اختتم هذا " الخطاب " النقدي ، اعد قرائي الاعزاء بالرجوع اليه كرات اخرى لمعالجته بشكل موسّع .. من اجل ان نستعيد النزعة البنائية والحضارية والمدنية التي لا سبيل لمجتمعاتنا وتقدمها وازدهارها الا من خلالها . فهل تعلمنا الدرس من كل ما حصل عبر ثلاثين سنة من النكوص والشحوب والذبول ؟
www.sayyaraljamil.com