Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

"ثورة الياسمين" ولويس السادس عشر العربي (قصة قصيرة )

إلى روح الشهيد محمد البوعزيزي، مُطلق شرارة أول ثورة عربية على مَرّ التاريخ، "ثورة الياسمين".
***
"الملكة: مالي أرى هذه الجموع الغفيرة من الناس تتكدس حول القصر الملكي؟!

الحاشية: إنهم يطالبون بالخبز، يا صاحبة الجلالة. لم يجدوا ما يسدون به رمقهم.

الملكة: ولكنها ليست مشكلة. ليُجَرّبوا أكل البسكويت بدل الخبز!"



مقتطف من حوارٍ دار عام 1779 بين ماري أنطوانيت زوجة ملك فرنسا، "لويس السادس عشر"، وبعض أفراد حاشيتها



استيقظ الرئيس من قيلولته مذعورا على وقع الأحذية المتسارعة نحو فراشه فصاح وهو يحاول تغطية صدره بالمُلاءة:

- أتريدون الانقلاب عليّ؟ أنا رئيس منتخب ب99.99% . أنا الرئيس الشرعي والوحيد للبلاد.

- ال99.99% ممن انتخبوك هم الآن عند عتبة قصرك يلوّحون بالقبض عليك حيّاً لإعدامك أمام عموم ناخبيك من الشعب...

- أليس الوضع تحت السيطرة؟

- من يستطيع السيطرة على وضع لم يعْهدهُ من قبل؟

- هل هي مؤامرة مدبرة تدبيرا؟

- فخامة السيد الرئيس، هذه ساعة حقيقة وليست ساعة خطاب أمام كاميرا...



تثاءب الرئيس، في فراشه، مطمئنا على مصيره:

- إذا لم يكن الأمر انقلابا عليّ من المقربين ، فما الخطب إذن؟

- فخامة السيد الرئيس، بعد زوجتك. الآن جاء دورك.

- إلى أين؟

- إلى أي مكان غير هذا، يا فخامة الرئيس. وإذا ما تأخرت في التفكير واتخاذ القرار، فستكون حياتك في خبر كان. لقد نصّبَ الثوّار قبالة القصر الرئاسي المقصلة في انتظار الانقضاض عليك. وهم الآن يهتفون شعارات يستبدلون فيها اسمك باسم "لويس السادس عشر".

- ولكن، أأهرب وأنا عار؟!

- الهروب عارياٌ إلى حوامة تنتظرك لنقلك إلى برّ الأمان أفضل من التدلّي ميتا على حبل المشنقة أو التكوّر أرضاً في دمائك قرب فكّي المقصلة، يا فخامة الرئيس.

- والذهب الذي كلفتني زوجتي بتهريبه من البنك المركزي؟

- هذا ليس وقت الممتلكات. الملكية الوحيدة التي لا زالت بين يديك هي حياتك، يا فخامة الرئيس.

- ولكن أأهرب عاريا بكل ما لذلك من دلالات وضيعة بين صفوف شعب علّمته بأنني مثله الأعلى وربه الأعلى!

- لم يبق لك شعب، يا فخامة الرئيس. ثم إن الهروب عاريا ليست مشكلة. ستمنح لك الملابس والبنزين وشفرة الحلاقة في إيطاليا إن أسرعت الخطى وطِرْت قبل أن يصل الثوارُ إلى الحوّامة وينسفوها فتكون بذلك قد أحرقت كل سفنك وحلولك...

- حسنا، ما دمنا كلنا ذكور، فلا عيب في أن تقع عيونكم على سوءتي.

- نعدك، يا فخامة الرئيس، بعدم التلصص عليك وعلى سوءتك ولهذا فسنتقدم نحن المسير كي يطمئن بالك وتسرع الخطى...

- إذن، لنسلك الممرات السّرية، أسفل أرضية القصر. لكن أرجو ألا تسموا هذه "ثورة". هذه "حركة تمرد". والفرق بين التمرد والثورة بيّنٌ. إن الثورة تنتهي بقلب نظام الحكم وإعدام الحاكم وإلغاء كل قوانين النظام القديم وحل البرلمان والحكومة والحزب الحاكم وكل شيء...

- وهذا ما يطالب به الثوار وما يحدث الآن، يا فخامة الرئيس. فلحد الساعة، أنت الوحيد الذي بقيت من النظام القديم...



في المطار، أوقفه العسكر:

- إلى أين أنت ذاهب، يا فخامة الرئيس؟

- إلى الخارج.

- إلى أين، ففي الخارج ثمة عشرات الدول بمئات المطارات؟

- سأفكر في وجهتي عندما أكون في الجو؟

- ولكن هذا لن يحدث، يا فخامة الرئيس. هل أنت هارب من مسؤولياتك؟

- لست هاربا. لا. لست هاربا. حتما، سأعود حينما تهدأ الأمور. سأنجو الآن بنفسي وحين تهدأ الأمور، سأعود لمهامي...

- وهل سيظل الشعب ينتظر عودتك والبلاد بلا رئيس؟

- لا خوف على البلاد، سأفوض الأمور للأكفاء من رجالاتي...

- ولكن البلاد لن تبقى بلا رئيس يدير شؤونها: فإما رجوعك لمباشرة أعمالك الدستورية وإما خروجك دون الحق في العودة إلى هذا البلد!...

- حسنا، ليكن ذلك.

- ليكن ماذا؟

- ليكن خروجي إلى الأبد من هذا البلد...



بعد خروجه من السرداب، التقاه بعض أفراد حاشيته لكنه جفل منها وانقض على درج الحوامة كي لا تفلت منه وأسئلة حاشيته تلاحقه:

- أتهرب، يا فخامة الرئيس، وأنت "العظيم الملهَمُ"؟



فأجابهم "العظيم" وهو يلهث:

- أتحسبونني ساذجا كأبي الطيب المتنبي الذي كان بإمكانه النجاة بجلده قبل وقوعه في يد قطاع الطرق لولا خدمه الذين بدؤوا يقرؤون عليه أشعاره في الفخر: "الخيل والليل والبيداء تعرفني..."، فرجع ليلعب دور "دون كيشوت" ويلقى حتفه؟ أنا لست لا متنبي ولا دون كيشوت... ولذلك، لا يمكنكم ثنْيي على قَراري وفِراري.

- ولكن، يا فخامة الرئيس، المتنبي على الأقل مات كريما!

- الموت واحد. ولا مكان أمام الموت للذل أو الكرامة. أما أنا، فلا أريد أن أموت وأنا شاب في الثمانين من عمري وبثروة يحسدني عليها "قارون" وهو في قبره!



في الطائرة، تنفس فخامة السيد الرئيس الصعداء وهو يرى الحوامة ترتفع وترتفع. وبدت له بلاده كلها أعمدة دخان وحرائق وتساءل كيف تمكن منه النعاس فلم يشعر بشيء من كل هذا الدمار الذي ينهش بلده قبل دخول رفاقه إلى غرفة نومه. آنذاك، تملكه إحساس بالولادة من جديد فأحس بالقشعريرة تدب في أوصاله ثم انتبه إلى أنه لا يرتدي غير ملابسه الداخلية. وبينما كان يُرَكّب أرقام هاتف من العناوين الصديقة، أخبره الرّبان بأن مخزون الطائرة من الوقود قد نفذ وبأن الطائرة ستسقط في البحر لأن كل المطارات رفضت نزول طائرة عليها رئيس هارب بأموال شعبه.



ذُعِرَ الرئيس وبدأ يصرخ:

- لماذا إذن أيقظتموني من نومي وأرسلتموني إلى السماء في هذه الحوّامة؟ من قال لكم بأنني أريد الهرب؟ أنا كنت نائما في سريري وحرسي الرئاسي كان مستعدا للموت لقاء طمأنينتي في نومي. لماذا رفعتموني إلى الغلاف الجوي في حوامة بلا وقود؟ لماذا؟ لماذا؟...



أحد الربابنة طمأن فخامة الرئيس بأن جزيرة قريبة وافقت على نزولهم على أحد مطاراتها للتزود بالوقود والإقلاع مباشرة بعد ذلك. لكن الرئيس أضاف طلبا ثانيا:

- بالإضافة على الوقود، أريد بذلة رسمية أنيقة تليق بي وملابس داخلية جديدة وزوج أحذية وشفرة حلاقة...



كانت فرحة فخامة السيد الرئيس عظيمة حين توصل بطلبياته فانشغل بالحلاقة وبعدها انصرف إلى تجريب البذلة ونسي السؤال عن الوقود وعن وجهته الجديدة حتى سأله الربابنة:

- والآن، يا فخامة السيد الرئيس، ما هي الوجهة الجديدة للطائرة؟

- حسنا، أمهلوني قليلا حتى أبحث عبر محرك البحث على الإنترنت عن مغاور وكهوف آمنة وغير مأهولة...



ثم بفرحة إرشميديس، صاح:

- وجدتها! وجدتها! وجدتها!...



هبّ الجميع إلى خلفية الطائرة ليستطلع أمر الاكتشاف، ففاجأهم فخامة السيد الرئيس:

- كهوف شبه الجزيرة العربية هي وجهتنا...



وبينما انطلقت الطائرة تاركة وراءها هتافات عمال المطار الذي تخلص منها، خلا لفخامة السيد الرئيس الجوّ للحديث مع الاوفياء من رجالاته، عبر الهاتف:

- ألو، هل تسمعني؟

- نعم، أسمعك، يا فخامة الرئيس، رغم دوي التفجيرات في القصر الرئاسي. هل أنت بخير؟

- لا، أنا لست في القصر. أنا في الهواء. ويبدو أن نفس أعمدة الدخان ونفس أصوات التفجيرات تنبعث من هذا البلد تحت طائرتي الآن مباشرة. هل الفوضى قدر بلداننا هذه الأيام؟

- ليطمئن بالك، يا فخامة الرئيس. سأعمل المستحيل لاستعادة النظام والهدوء وتعبيد الطريق لعودتك إلى بلدك وشعبك قريبا...

- هؤلاء الأوغاد ليسوا شعبي. شعبي هو أنت ورفاقنا وحرسنا. أما هؤلاء الأنذال فقد كانوا دوما مجرد رهائن في يدي. لذلك، كنت أزور لهم أصواتهم وإراداتهم في الانتخابات بنسبة تغيضهم حتى الاختناق موتا: 99.99% . هؤلاء ليسوا شعبي، إنهم رهائني الذين ضاقوا ذرعا بالخناق الذي سلطته عليهم فأعلنوا علي وعليكم الحرب. نحن، إذن، في حرب. والحرب، كما تعلمون، خدعة. وهذه خدعتي...

- قل، يا فخامة الرئيس، فأنا كلّي آذان.

- أنا هارب ولكن أنتم ستملئون الفراغ الذي سأتركه بالطرق التي ترونها مناسبة. افعلوا أي شيء إلا أن تتركوهم يحتفلوا بانتصار ثورتهم. إن انتصارهم هو بالضرورة اندحارنا. لذلك، فاليوم، لا تتركوهم يناموا. شكلوا لِجانا وهُبّوا عليهم كالنحل الغاضب كما هبّوا همْ علينا غاضبين: كسّروا أبوابهم واغتصبوا نساءهم واسرقوا أمتعتهم. أتسمعني؟ هذه الليلة، كُلُوهم واشربوا دمهم... ازرعوا الرعب في قلوبهم حتى لا يناموا وحتى يعترفوا بذنبهم اتجاهي، أنا ضامن الأمن والاستقرار. ألو، أتسمعني؟

- نعم، فخامة السيد الرئيس. أنا أسجل ما تقوله حتى يسمعه الباقون.

- حسنا. علينا سرقة الثورة منهم وسرقة الثقة من نفوسهم. عليكم ان تنقضوا على الحكومة الانتقالية وأن تكثروا من الخرجات الإعلامية مع التركيز على "الخسائر المادية" بدل التركيز على "إنجازات الثورة". قزّموا لهم ثورتهم بتضخيم الخسائر المادية من زجاج مكسور وعجلات مطاطية محروقة وجدران مقشرة واجتهدوا في الباقي من الخسائر بالأرقام وغير الأرقام...

- وأنت، يا فخامة الرئيس، متى ستعود؟

- أنا لن أعود عودة الخِرافِ في العَشِي. أنتم ستضغطون عليهم من خلال تحسيسهم باللاأمن وهم سيطالبون بعودتي. آنذاك فقط، سأطالب بما طالب به قبلي "نابوليون بونابارت": أن أُرَقّّى إلى رتبة "إمبراطور". كما لن أقبل العودة بهالة أقل من تلك التي تعطى لملوك الجان. لن أقبل بأن أكون أقل من "سيدي ميمون" و"الباشا حمو" و"لالة ميرة الحارثية" و"لالة عايشة"... لن أقبل إلا بترقيتي إلى "إمبراطور على الإنس" وفي نفس الوقت إلى "ملك على الجان". وسيكون شرطي، آنذاك، هو أن تُقدَّمَ لي القرابين كل صباح من عينة من الثوار الذين لا زالت ذاكرتي تحتفظ بصورهم وهم يهتفون بسقوطي وموتي على أن أتأكد بنفسي من سلامة هذه الأضاحي والقرابين الآدمية قبل مرور الشفرة على حناجرهم لأنه، كما تعلم، فالأعمى والأعور والأقرع والأبرص والأعرج والقزم والشاذ كلها لا تصلح قرابين ولو تطوعت هي بمحض إرادتها. ألا زلت تسمعني؟

- نعم، فخامة السيد الرئيس...

- حسنا، إلى العمل الآن. وبالتوفيق.



الأربعاء 26 يناير 2011





******************************************

محمد سعيد الريحاني، كاتب ومترجم وباحث في الفن والأدب من مواليد 23 ديسمبر 1968، عضو هيأة تحرير "مجلة كتابات إفريقية" الأنغلوفونية African Writing Magazine والصادرة من مدينة بورنموث Bournemouth جنوب إنجلترة، عضو اتحاد كتاب المغرب. صدر له: "الاسم المغربي وإرادة التفرد"، دراسة سيميائية للإسم الفردي (2001) ، "في انتظار الصباح" ، مجموعة قصصية (2003)، "موسم الهجرة إلى أي مكان "، مجموعة قصصية (2006)، "الحاءات الثلاث "، أنطولوجيا القصة المغربية الجديدة (صادرة في ثلاثة أجزاء على ثلاث سنوات 2006- 2007- 2008)، "تاريخ التلاعب بالامتحانات المهنية في المغرب" (صادر في جزأين 2009- 2011)، "موت المؤلف"، مجموعة قصصية (2010).

له قيد الطبع: "المدرسة الحائية: مدرسة القصة العربية الغدوية" (عن دار السندباد بالقاهرة)، "حوار جيلين" (مجموعة قصصية مشتركة مع القاص المغربي إدريس الصغير)، "ضفائر وشوارب" (مجموعة قصصية مشتركة مع القاصة المغربية زهرة زيراوي)...

أشرف على الترجمة الإنجليزية للنصوص القصصية المكونة للقسم المغربي في أنطولوجيا "صوت الأجيال: مختارات من القصة الإفريقية المعاصرة" Speaking for the Generations التي أعدتها جامعة أوليف هارفيه بولاية تشيكاغو الأمريكية ونشرتها دارا نشر "ريد سيه بريس" و"أفريكا وورلد بريس" في ترنتن بولاية نيو جيرزي الأمريكية، يونيو 2010.

كما أشرف على ترجمة خمسين (50) قاصة وقاصا مغربيا إلى اللغة الإنجليزية ضمن أنطولوجيا "الحاءات الثلاث: مختارات من القصة المغربية الجديدة" وهو مشروع ثلاثي الأجزاء صادر في نسخته الورقية العربية على ثلاث سنوات: "أنطولوجيا الحلم المغربي" سنة 2006، "أنطولوجيا الحب" سنة 2007، و"أنطولوجيا الحرية" سنة 2008 تقصد منذ بداياته، تحقيق ثلاث غايات أولها التعريف بالقصة القصيرة المغربية عالميا؛ وثانيها التعبئة بين أوساط المبدعات والمبدعين المغاربة لجعل المغرب يحتل مكانته الأدبية كعاصمة للقصة القصيرة في "المغرب العربي" إلى جانب الجزائر عاصمة الرواية وتونس عاصمة الشعر؛ وثالثها التأسيس ل"المدرسة الحائية"، "مدرسة" قادمة للقصة القصيرة الغدوية عبر هدم آخر قلاع العتمة في الإبداع العربي (الحلم والحب والحرية) واعتماد هده "الحاءات الثلاث" مادة للحكي الغدوي التي بدونها لا يكون الإبداع إبداعا.

عنوان الموقع الإلكتروني: http://www.raihani.ma

Opinions