ثورة 14 تموز في نهوضها وانتكاستها واغتيالها/ الحلقة الثالثة
19/10/2009رابعاًً ـ تصاعد الصراع مع المحتلين واندلاع ثورة العشرين
لم يكد يمضِ وقت طويل حتى تكشفت كامل الأهداف الاستعمارية لبريطانيا، وتصميمها على إدامة هيمنتها على العراق ، فقد أصدرت عصبة الأمم،التي كانت تهيمن عليها بريطانيا، صك الانتداب البريطاني على العراق في 17 حزيران 1920 والذي جاء فيه :
{حيث أن حكومة جلالته قد تقررت وكالتها في خصوص العراق، فنتوقع جعل العراق مستقلاً تضمن استقلاله جمعية عصبة الأمم، وتكليف الحكومة البريطانية بالمسؤولية في حفظ السلم الداخلي والأمن الخارجي، وبعد انقضاء الإدارة العسكرية سنعطي السلطة للسير [بيرسي كوكس ] لتنظيم مجلس شورى تحت رئاسة عربي }. (14)
وهكذا كشف صك الانتداب الأهداف الحقيقية للسياسة البريطانية، وأثار صدوره موجة غضب عارمة لدى كافة فئات الشعب العراقي التواق للحرية والانعتاق من العبودية، وأخذت شرر ذلك الغضب تنذر بوقوع أحداث جسيمة.
كانت اجتماعات قادة التحرر الوطني في تلك الأيام تتوالى في المساجد والدواوين، في بغداد والحلة والنجف وكربلاء وغيرها من المدن العراقية، كما كانت الاتصالات مع رؤساء العشائر تجري على قدم وساق، وأجراس الثورة تدق، وأصواتها تتعالى شيئاً فشيئاً لتملأ أسماع العراقيين جميعاً .
وفي الوقت نفسه كان المحتلون البريطانيون يزدادون هستيرية وعنفاً في قمع نشاطات الوطنيين، حيث منعوا [المواليد] التي كان يجتمع خلالها الناس، وتلقى الخطب الوطنية فيها.
فقد أصدر القائد العام البريطاني في 12 آب 1920 قراراً بمنعها، وأنذر بإنزال أشد العقوبات بحق المخالفين، وأقرن القائد أمره بالأفعال فأقدم على إعدام ستة من المناضلين الوطنيين لتحديهم ذلك القرار، وقد عرف هؤلاء الشهداء بمواقفهم البطولية، وجرأتهم في تحدي الاحتلال البريطاني، وأدى إعدامهم إلى هياج الرأي العام العراقي، ودفعهم إلى التظاهر ضد الاحتلال الغاشم . (15)
كما رفع المشاركون في التظاهر مذكرة للسلطات البريطانية تضمنت جملة من المطالب كان منها :
1 ـ تأليف مؤتمر يمثل الشعب العراقي، ليقرر شكل الإدارة الوطنية وعلاقاتها بالدول الأجنبية.
2 ـ إطلاق حرية الصحافة والمطبوعات ليستطيع الشعب التعبير عن آماله وتطلعاته الوطني .
3 ـ رفع الحواجز البريدية والبرقية بين أنحاء البلاد، وبينها وبين الأقطار الأخرى.
كان الشعب العراقي في تلك الأيام ينتظر مَنْ يطلق الطلقة الأولى لتنبعث شرارة الثورة إلى شتى أنحاء العراق بعد أن أقدمت قوات الاحتلال على اعتقال الشيخ [شعلان أبو الجون] المعروف بعدائه للاحتلال، وسبب اعتقاله هيجاناً كبيراً في صفوف العشائر. (16)
صمم أبناء العشائر على إطلاق سراح الشيخ شعلان، وتحدي قرار المحتلين باعتقاله، فانطلقت عشائر الرميثة تهاجم السجن الذي أودع الإنكليز فيه الشيخ شعلان، وتم تحريره من الاعتقال، وكانت هذه العملية إيذاناً ببدء اشتعال نار الثورة، وبدء المعارك بين الشعب العراقي والمحتلين.
ففي مساء يوم 6 تموز 1920 توجهت قوة عسكرية بريطانية تضم 2000 ضابط وجندي بقيادة الكولونيل [دي مارفين ] نحو الرميثة، التي سيطرت عليها قوى الثورة في محاولة لفك الحصار عن القوات البريطانية المتواجدة هناك، فكانت [معركة العارضيات ] التي يفتخر بها أبناء العشائر الثائرة والشعب العراقي كافة، حيث لم تستطع القوات البريطانية من الوصول إلى[ الرميثة] نظراً للمقاومة الباسلة التي واجهتها تلك القوات، حيث تم إيقافها على بعد 7 كيلومترات منها بعد معركة دامية دامت 17 ساعة متواصلة استبسل فيها أبناء الشعب، واضطر قائد الجيش البريطاني إلى التراجع والانسحاب نحو الديوانية.
لكن تلك القوات لم تستطع الوصول إلى الديوانية، حيث جوبهت بقطع الطريق عليها، وقلع السكة الحديدية التي كانت القوات البريطانية تستخدمها في الانسحاب وجوبهت بوابل من الرصاص من قبل العشائر الأخرى التي هبت لدعم الثورة في الرميثة، وهرب قائد الحملة البريطانية لينجو بنفسه تاركاً قواته تحت رحمة الثوار الذين استطاعوا قتل أعداد كبيرة منهم، وتم أسر من بقي منهم على قيد الحياة واستولى الثوار على جميع أسلحة القوة البريطانية، وقد بلغ عدد القتلى البريطانيين زهاء 260 فرداً.
ولما بلغ الأمر إلى قائد القوات البريطانية [ الميجر ديلي ] أمر بإعداد قوة أخرى قوامها 5000 ضابط وجندي مجهزين بكامل المعدات الحربية، واستعدت قوى الثورة للمعركة القادمة، وأخذت تنظم صفوفها، وترتب استحكاماتها، وتحفر الخنادق في منطقة العارضية على بعد 7 كم من الرميثة استعداداً لمجابهة قوات الاحتلال الجديدة بقيادة [ الميجر كونتن كهام ]، حيث وصلت تلك القوات إلى [الحمزة] في 16 تموز 1920، تحت غطاء جوي من الطائرات الحربية، وقد أبدى الثوار مقاومة باسلة، منقطعة النظير، وانزلوا بقوات الاحتلال خسائر فادحة في الأرواح والمعدات .
وامتد لهيب الثورة إلى [ الرارنجية ] التي ضربت مثلاً رائعا في البطولة والفداء، وقامت قوات الثورة بمحاصرة مدينة الكوفة في أواخر شهر تموز 1920 من جميع أطرافها مشددون الضربات على القوات البريطانية المحاصرة فيها، والتي أصبح موقفها في غاية الصعوبة، وطلبت النجدة من القائد البريطاني في الحلة، الذي أسرع إلى إرسال قوات كبيرة لفك الحصار عن القوات المحاصرة في الكوفة.
تقدمت القوات البريطانية باتجاه المدينة حتى وصلت إلى[ الرارنجية ]، التي تبعد 12 كم عن مدينة الحلة و8 كم عن [ الكفل ]، وعسكرت هناك .
واستعد الثوار لملاقاة القوات البريطانية في منطقة الكفل، وقسموا قواتهم إلى قسمين، قسم أخذ مواقعه على طرف شط الهندية الشرقي والقسم الثاني أخذ مواقعه على امتداد سكة القطار التي تربط الحلة بالكفل، وكانت قوات الثورة مدفوعة بإيمانها بعدالة قضيتها، وقد عقدت العزم على التصدي لقوات الاحتلال المدججة بشتى أنواع الأسلحة والمعدات الثقيلة، وهي لا تملك سوى الأسلحة الخفيفة من بنادق قديمة ومسدسات وفؤوس ومكاوير، ولكنها كانت تملك الأيمان بعدالة القضية التي تناضل من اجلها، والإصرار على التحرر من ربقة الاستعمار الجديد، فيما كان الجنود البريطانيون الذين أتعبتهم الحرب يحاربون من أجل ملئ جيوب الرأسماليين الإمبرياليين.
كانت ثلة من الجنود البريطانيين برشاشاتهم الثقيلة قد أخذت مواقعها واستحكاماتها عند قنطرة على [قناة الرارنجية]، وعندما أزفت ساعة الهجوم انقضّتْ قوات الثورة على القوات البريطانية عند الجسر، وما هي إلا برهة حتى وقع الجسر في أيديهم، فيما التحمت قوات الثورة من الجهتين مع القوات البريطانية في معركة شرسة ومتلاحمة بحيث تعذر على قوات الاحتلال استخدام المدافع في القتال، وكانت المعركة تجري بالبنادق والسيوف والفؤوس والمكاوير، وكان الثوار يرددون الأهزوجة الشعبية المشهورة { الطوب أحسن، لو مكواري }، فقد تغلب المكوار على السلاح البريطاني، واندحرت قوات الاحتلال، وهرب قائد الحملة تاركاً جثث المئات من أفراد قواته في ارض المعركة.
وفي الوقت الذي كانت قوات العشائر في الجنوب تخوض المعارك ضد المحتلين كان رصاص الثوار في كردستان ينطلق بغزارة ضد المحتلين هناك، فقد هب ثوار كردستان بوجه المحتلين، ووقعت بين الطرفين معارك شرسة في [السليمانية وعقره وكفري].
وتمكنت قوات الثورة في [ كفري ] بقيادة [ إبراهيم خان ] في أواخر تشرين الأول 1920 من الاستيلاء على المدينة وتحريرها من سيطرة قوات الاحتلال، وقتل القائد البريطاني [ جاردن]، واستمر لهيب المعارك ضد المحتلين في المنطقة 23 يوماً قبل أن تتمكن القوات البريطانية التي وصلتها نجدات جديدة من الهند من إعادة احتلالها.
لقد امتد لهيب الثورة إلى كل بقاع الوطن، وانغمر فيها عدد كبير من رجال الدين وشيوخ العشائر والمثقفين والعمال والفلاحين الشجعان الذين كانوا عماد الثورة، وكانت الثورة على الرغم من التأخر الذي سببه الاستعمار العثماني الطويل على درجة عالية من التنظيم والتخطيط والدقة، ويستدل على ذلك من التوجيهات التي كانت تصدرها قيادات الثورة إلى القوات المشاركة فيها والتي جاء فيها :
توجيهات :
1 ـ يجب على كافة الأفراد أن يفهموا بأن المقصود من هذه الثورة إنما هو طلب الاستقلال التام .
2 ـ يجب أن يهتف الجميع للاستقلال في كل ميادين القتال.
3ـ يجب التمسك بالنظام، ومنع الاعتداء، فلا نهب ولا سلب، ولا ضغائن قديمة ولا أحقا .
4 ـ يجب تأمين الطرق، وحفظ المواصلات بينكم وبين مناطق الثورة.
5 ـ بذل الهمة لحفظ الرصاص، فلا يجوز إطلاقه في الهواء بدون فائدة.
6 ـ يجب الاعتناء بالأسرى ،ضباطاً وجنوداً، إنكليزاً كانوا أم هنوداً.
7ـ المحافظة على أعمدة الهاتف والأسلاك لضمان استمرار الاتصالات.
8 ـ الاهتمام بقطع السكة الحديدية ، ونسف الجسور لمنع قوات الاحتلال من استخدامها.
9ـ الحفاظ على كافة وسائل النقل التي تقع في أيدي قوات الثورة والاستفادة منها.
10ـ المحافظة على الأسلحة المصادرة من العدو، وإدامتها لغرض استخدامها ضده .
11ـ عند تحرير أي مدينة يجب الاهتمام بتشكيل إدارة وطنية لها والاهتمام بالأبنية الحكومية، وعدم هدمها أو إحراقها والمحافظة على الوثائق فيها.
12 ـ المحافظة على المستشفيات وأدواتها وأجهزتها والأدوية الموجودة فيها
13ـ الرفق بالجرحى وإسعافهم، والاهتمام بهم والعمل على إنقاذ حياتهم قدر الإمكان . (17)
هذه هي الوصايا التي عممتها قيادة الثورة على قواتها، وهي تمثل أرقى درجات التنظيم في إدارة شؤون الثورة، والحرص على سمعتها، والتحلي بالخلق السامي في معاملة الأسرى والجرحى، والاهتمام بمرافق البلاد من عبث العابثين، وهي تدل دلالة أكيدة على الشعور العالي بالمسؤولية.
بعد كل تلك الضربات القاسية التي وجهتها قوى الثورة لقوات الاحتلال البريطاني، وانتشار لهيب الثورة إلى كافة أنحاء العراق لجأ المحتلون إلى استقدام قوات كبيرة من خارج البلاد لمجابهة قوى الثورة الوطنية، وجلبوا مختلف الأسلحة والمعدات الثقيلة لغرض إخماد لهيب الثورة، وخاضت تلك القوات معارك شرسة دامت طيلة خمسة أشهر، ضد قوى الثورة التي كانت تفتقد السلاح الذي يمكن أن تحارب به قوات الاحتلال، واستخدم المحتلون أقسى درجات العنف وأشنعها ضد قوى الثورة، وضد أبناء الشعب، وأبدى الثوار صنوفاً من البطولة النادرة، رغم عدم تكافؤ أسلحة الطرفين، والإمكانيات المادية والعسكرية للمحتلين الإمبرياليين الذين كانوا يمثلون أقوى دولة استعمارية في العالم، واستطاع المحتلون في نهاية الأمر إجهاض الثورة، بعد أن دفعت قواتهم ثمناً باهظاً من أرواح جنودهم، ومن اقتصادهم الذي أنهكته الثورة لدرجة أن أصوات الشعب البريطاني ارتفعت عالياً مطالبة الحكومة بسحب قواتها من العراق، وإنقاذ جنودها من لهيب المعارك مع الثوار، وامتدت صيحاتهم إلى مجلس العموم البريطاني نفسه، حيث طالب العديد من أعضاء المجلس بانسحاب القوات البريطانية من العراق، نظراً للتكاليف الباهضة التي دفعتها بريطانيا للإدامة سيطرتها على العراق، وتصاعد احتجاجات الشعب البريطاني على ارتفاع عدد القتلى من الجنود البريطانيين .
وغم أن ثورة العشرين لم تنجز كامل هدفها الرئيسي في تحقيق الاستقلال الناجز للعراق إلا أن تلك الثورة كان لها الدور الحاسم في إسراع المحتلين البريطانيين في تغيير سياستهم تجاه العراق، وصرف النظر عن حكمهم العسكري، بعد أن كلفتهم الثورة آلاف القتلى والجرحى، أثقلت كاهل خزانه الدولة البريطانية، المثقلة أصلاً بأعباء الحرب العالمية الأولى .
لذلك فقد وجد المحتلون الإمبرياليون أن خير سبيل إلى تجنب المزيد من الخسائر البشرية والمادية هو إقامة ما دعي بالحكم الوطني، وتأليف حكومة محلية، والإتيان بالأمير فيصل أبن الحسين ملكاً على العراق، مكتفين بالاحتفاظ ببعض القواعد العسكرية، بعد تكبيل البلاد بقيود ثقيلة بموجب معاهدة سنة 1920، التي تم بموجبها لهم الهيمنة الفعلية على مقدرات العراق السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، والثقافية، وسائر المجالات الأخرى.
أما لماذا لم تحقق الثورة هدفها الأساسي في الاستقلال الحقيقي والناجز فيمكن حصرها بما يلي :
1 ـ عدم تكافؤ القوى بين المحتلين والثوار، وخاصة في مجال الأسلحة والمعدات الثقيلة والطائرات، هذا بالإضافة إلى فقدان الخبرة العسكرية.
2 ـ ضعف مستوى الخبرات العسكرية للثوار، على الرغم ما قدموه من التضحيات، وصنوف البطولة التي يعتز بها كل عراقي، وكانت مثار إعجاب الجميع.
3 ـ استخدام المحتلين لسياسة التفرقة، وخلق الحزازات، والصِدام بين العشائر، واستمالة عدد من رؤساء العشائر الكبار إلى جانبهم، وإغرائهم بالإقطاعيات والمناصب والسلطة، كما استخدم المحتلون الخلافات الدينية والطائفية والعقائدية لتمزيق الوحدة الوطنية.
4 ـ ضعف القيادة السياسية، من حيث تنظيمها، وتركيبها الطبقي، وخاصة البرجوازية الوطنية الضعيفة جداً آنذاك اقتصادياً وسياسياً، مما حال دون أن تلعب دورها القيادي بشكل صحيح.
5 ـ عدم صلة الثورة بأي ارتباط أو دعم خارجي يساعدها على مقاومة المحتلين، فقد كان الثوار ينقصهم الكثير من الأسلحة والمعدات، والخبرات العسكرية والتدريب على استخدام الأسلحة المستولى عليها من العدو المحتل في حين كان العدو على أتم الاستعداد ومن كل الوجوه.
6 ـ عدم وجود قيادة موحدة للثورة، وضعف التنسيق بين المناطق المختلفة ويعتبر هذا العامل من العوامل الهامة التي أدت إلى إجهاض الثورة، وحالت دون تحقيق هدفها الرئيسي في الاستقلال الناجز .
خامسا ـ مؤتمر القاهرة يبحث مستقبل العراق:
بعد أن تسنى للمحتلين البريطانيين إعادة تثبيت سيطرتهم على العراق، وقمع ثورة العشرين، دعا المستر [ تشرشل ] وزير المستعمرات البريطاني الحكومة العراقية إلى حضور مؤتمر في القاهرة في 12 آذار 1921 لبحث المستقبل السياسي للعراق ، وقد حضر وفد عن الحكومة العراقية التي شكلها المندوب السامي ، ووفد عن الحكومة البريطانية يضم المسؤولين الكبار في الإدارة البريطانية في العراق ، والممثلون البريطانيون في بلدان الشرق الأوسط لبحث مستقبل العراق ، وقد جرى في هذا المؤتمر بحث مستقبل العراق السياسي تحت ظل الانتداب البريطاني ، وكانت أهم المسائل التي جرى بحثها :
1 ـ اختيار شكل نظام الحكم في العراق ، وقد تم خلال البحث الاتفاق على جعل العراق دولة ملكية دستورية ، وترشيح الأمير فيصل ابن الحسين ليكون ملكاً على العراق.
2 ـ جرى بحث كيفية تخفيض النفقات البريطانية اللازمة لإدامة السيطرة البريطانية على العراق، حيث سببت ثورة العشرين خسائر مادية جسيمة لبريطانيا، بالإضافة إلى الخسائر الكبيرة في الأرواح والتي جاوزت 20 آلفاً من الجنود والضباط البريطانيين.
3 ـ جرى بحث موضوع تشكيل جيش عراقي قوامه 15 ألف جندي، وإناطة الأمن الداخلي به ، وتقرر أن تساهم الحكومة العراقية بنسبة 15% من ميزانية الجيش في بادئ الأمر ، على أن تزداد هذه النسبة مع نمو الجيش في المستقبل لتصل إلى 25% .
وقد صادق المؤتمر على جميع القرارات ، وكانت الحكومة البريطانية قد بدأت فعلاً بتأليف نواة لجيش عراقي في 6 كانون الثاني 1921، للقيام بمهمة حفظ الأمن الداخلي مؤلفاً من 24 فوجاً ، إلا أن ذلك الجيش بقي ضعيفاً ، وتعوزه الأسلحة الحديثة ، فقد كانت بريطانيا هي التي تقرر كمية ونوعية السلاح لهذا الجيش ، لضمان بقاء سيطرتها على البلاد .
4 ـ جرى بحث وضع قوات الليفي البريطانية في العراق ، وتقرر زيادة عددها من 4000 إلى 7500 فرداً ، على أن تقوم الحكومة البريطانية بنفقاتها ، وجرى الاتفاق على مرابطة 6 أسراب من الطائرات الحربية في القواعد البريطانية بالعراق ، ثم تبادر الحكومة البريطانية بسحب قواتها تدريجياً من العراق .
لم يكد مؤتمر القاهرة ينهي أعماله حتى سارع [جعفر العسكري] وزير الدفاع، بطلب من المندوب السامي ، إلى توجيه رسالة إلى الأمير فيصل أبن الحسين في 25 أيار 1921 يدعوه للقدوم إلى العراق ، تنفيذاً لقرارات المؤتمر.
وعلى الفور أبدى الأمير فيصل سروره واستعداده للسفر إلى العراق، والقيام بالمهام التي اختارتها له بريطانيا من أجلها، ملكاً على العراق .
كما أرسل الميجر [ مارشال ] رسالة أخرى للأمير فيصل ، يدعوه للتهيئ للسفر إلى العراق، وأبلغه أن الباخرة [ نورث بروك ] في طريقها إلى [جدة] وقد تم حجز المقاعد اللازمة له ولحاشيته ورفاقه.(19)
وفي 12 حزيران 1921 أستقل الأمير فيصل الباخرة البريطانية[ نورث بروك] في طريقه إلى البصرة وبصحبته عدد من زعماء ثورة العشرين يضم السادة : [محمد الصدر] و[يوسف السويد] و[علوان الياسري] ، و[محسن أبو طبيخ] ، [رايح العطية] .
أما الحاشية الملكية المرافقة لفيصل فكانت تضم كل من السادة :
[رستم حيدر] و[أمين الكسباني ] و[تحسين قدري ] و[علي جودت الأيوبي] و[إبراهيم كمال ] و[صبيح نجيب] و[مكي الشربتجي] و[المستر كورنواليس] البريطاني ، والذي أصبح مستشاراً للملك فيصل.
وفي 23 حزيران وصلت الباخرة التي تقل الأمير فيصل وحاشيته إلى ميناء البصرة، وكان في استقباله كل من وزير الدفاع جعفر العسكري، ومتصرف لواء البصرة أحمد الصانع، ومستشار وزارة الداخلية جون فلبي حيث جرى للأمير استقبالا رسمياً هناك ثم تابع موكب الأمير فيصل سفره إلى بغداد بالقطار، حيث وصلها في 29 حزيران، وجرى له استقبال رسمي شارك فيه المسؤولون البريطانيون، وأعضاء الحكومة، وعدد من الشخصيات السياسية، ورؤساء العشائر.
وفي 5 تموز نشر المندوب السامي بياناً رحب فيه بمقدم الأمير فيصل، ودعا العراقيين إلى تأييد تنصيبه ملكاً على البلاد.
وفي 11 تموز 1921 أتخذ مجلس الوزراء قراراً بمبايعة الأمير فيصل أبن الحسين ملكاً على العراق بعد أن تليت رسالة المندوب السامي [بيرسي كوكس] المرقمة:س د /1631، والمؤرخة في 8 تموز 1921، واشترط قرار مجلس الوزراء أن تكون حكومة العراق ملكية دستورية نيابية ديمقراطية مقيدة بالقانون، وتقرر تخويل وزارة الداخلية نشر هذا القرار على عموم الشعب العراقي .
وعلى أثر صدور قرار مجلس الوزراء بمبايعة الملك فيصل، أصدر وزير الداخلية أمراً إلى جميع متصرفي الألوية، يدعوهم إلى تسجيل أراء أبناء الشعب في هذه البيعة !!.
كما أمر بتشكيل لجان تتنقل في كافة الألوية للإشراف على تسجيل أراء أبناء الشعب وكانت هذه اللجان قد رتبت الأمور في كل لواء تزوره ليبدو وكأن الشعب يؤيد كل التأييد بيعة الملك الهاشمي، حيث يجري إلقاء خطابات معدة سلفاً تبين مآثر العائلة الهاشمية، ثم ينتهي الاجتماع بكلمة [مؤيدون]!!.
ومع ذلك فأن المواطنين في لوائي كركوك والسليمانية رفضوا تأييد الملك فيصل، بينما اشترط المواطنين في لوائي الموصل وأربيل ضمان حقوق الأقليات في تأسيس الإدارات التي وُعدوا بها من قبل الحلفاء بموجب [معاهدة سيفر] .
وفي 23 آب 1921 تم تتويج الملك فيصل ملكاً على العراق ، وأقيمت حفلة التتويج في ساحة [ برج الساحة] ببغداد ، وحضر الحفلة ممثلو الألوية المشتركة في التصويت، وأقبل الأمير فيصل بصحبة المندوب السامي البريطاني [ بيرسي كوكس]، وجلس على المقعد المخصص له، وجلس على يمينه المندوب السامي ، وعلى يساره جلس القائد العام للقوات البريطانية في العراق، كما جلس وراءهم كل من رستم حيدر، وأمين الكسباني، وسكرتير مجلس الوزراء حسين فتيان، ومستشار الملك فيصل، الكولونيل كورنواليس، وبعد أن جلس الحاضرون، ناول المندوب السامي بلاغاً ليتلوه على جمهور الحاضرين وجاء فيه:
{ لقد قرر مجلس الوزراء باتفاق الآراء، بناء على اقتراح رئيس الوزراء، في جلسته المنعقدة في اليوم الرابع من شهر ذي القعدة من سنة 1339 هجرية، والموافق 11 تموز 1921 ميلادية المناداة بالأمير فيصل أبن الحسين ملكاً على العراق، على أن تكون حكومة سموه دستورية نيابية ديمقراطية مقيدة بالقانون، وبصفتي مندوباً لجلالة ملك بريطانيا، رأيت أن أقف على رضا الشعب العراقي البات قبل موافقتي على ذلك القرار فأجري التصويت العام برغبة مني، وأسفرت نتيجة التصويت عن رغبة أكثر من 97 % من مجموع الناخبين على المناداة بسمو الأمير فيصل ملكاً على العراق، وعليه أعلن أن سمو الأمير فيصل نجل الملك حسين، قد أنتخب ملكاً على العراق، وأن حكومة جلالة ملك بريطانيا قد اعترفت بجلالة الملك فيصل ملكاً على العراق، وليحيا الملك }. (20)
وبعد نهاية تلاوة بلاغ المندوب السامي البريطاني ، أطلقت المدفعية 21 طلقة احتفالاً بهذه المناسبة، ثم تلا ذلك خطاب التتويج الذي بدأه الملك بتقديم الشكر للشعب العراقي، الذي أولاه ثقته، وواعداً إياه على السهر على خدمته، وخدمة العراق، ثم تطرق إلى مآثر والده الملك حسين بن علي والعائلة الهاشمية، مستعرضاً ما قدمه للشعوب العربية من خدمات في سبيل الاستقلال والحرية ، ودوره في إشعال الثورة العربية ضد الاستعمار العثماني الذي دام أربعة قرون من التخلف والعبودية، ثم أشار الملك فيصل إلى جهود بريطانيا من أجل استقلال البلاد العربية !!!، مؤكداً صداقته المتينة لحكومة صاحب الجلالة البريطانية. كما وعد الملك فيصل بالنهوض بالعراق في كافة المجالات ، والقضاء على التخلف، وبناء عراق جديد قائم على أساس العلوم الصحيحة والأخلاق الشريفة والسير به قدماً نحو التقدم
والرقي .
كما وعد الملك بأن أول عمل سيقوم به هو انتخاب المجلس التأسيسي ، الذي سيقوم بوضع أول دستور للبلاد، على أسس ديمقراطية، ويصادق على المعاهدة العراقية البريطانية، التي ستحدد شكل العلاقة بين العراق وبريطانيا.
وفي الختام دعا الملك فيصل أبناء الشعب إلى الاتحاد والتعاضد والتبصر، وإلى العلم والعمل، داعياً الله أن يوفق الجميع لما فيه خير العراق والعراقيين.
التوثيق
(14)صفحات من تاريخ العراق الحديث ـ الكتاب الأول ـ حامد الحمداني ـ ص 31.
(15) تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الأول ـ عبد الرزاق الحسني ـ ص .
(16) نفس المصدر السابق
(17) الثورة العراقية الكبرى ـ عبد الرزاق الحسني ـ ص 211 .
(18) تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الأول ـ الحسني ـ ص 62 .
(19) نفس المصدر ـ الجزء الأول ـ ص 102.
(20 ) نفس المصدر السابق .
للحصول على نسخة من هذا الكتاب الاتصال بالمؤلف على العنوان التالي
Alhamdany34@gmail.com