Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

جبروت السلطة في مواجهة شبح الفساد

د. سامر مؤيد/
قد لا تجافي الحكمة القائلة: "إن الناس على دين ملوكها" الصواب، لان عصمة الأمر وانفراطه منعقد بلواء السلطة بقطع النظر عن عنصري الزمان والمكان، وحتى مع تقبل الرأي الذي يجد في السلطة انعكاسا صارخا لواقع اجتماعي مفعم بالمتغيرات السلبية والايجابية، فان هذا لا يعتق مسؤوليتها من امتلاك ناصية التغيير سلبا أو إيجابا بفضل ما تستملكه من عناصر القوة والإكراه التي تخضع بها مشيئة الأفراد والجماعات في الدولة لرؤيتها وأحكامها.
ومثلما يتفشى داء الفساد بشتى ألوان طيفه بفضل جبروت السلطة، كذلك فان الإصلاح بشتى صنوفه منعقد بإرادة سياسية تملك العزم والرؤية والقدرة على المضي في طريقه، بيد إن هذا لن يكون إلا بإصلاح ماكنة السلطة ومعالجة الصدأ فيها أولاً ومنطلقا للشروع بعملية الإصلاح الشامل لبنى المجتمع، لان أي محاولة للقضاء على الفساد دون القيام بإجراءات جدية وفعلية على مستوى الإصلاح السياسي محكوم عليها بالفشل المسبق لاعتصام المفسدين بخنادق السلطة ودهاليزها غير المنضبطة بضوابط الرشاد والمثالية.‏
إن الذين قالوا أن "التزاوج بين السلطة والثروة يولد الفساد" كانوا على حق لأن كثيراً من النظم السياسية خصوصاً في العالم الثالث قد اعتمدت على أساليب تخرج عن نطاق دورها ومارست تأثيراً قوياً على دوائر المال ورجال الأعمال وأصحاب الثروة حتى أصبحت رائحة ذلك التزاوج تزكم الأنوف وتمثل مصدر خطر كبير لأن المنافع المتبادلة تجعل رجال السلطة يقومون بحماية رجال الأعمال بينما يقوم الآخرون بدورهم عندما يقدمون كل أسباب الدعم المالى لمن يحكمون.
وهذه هي صورة للفساد المزدوج في الحياة السياسية والحياة الاقتصادية معاً تدق ناقوس الخطر في المجتمعات الآخذة في النمو، –ومن بينها معظم المجتمعات العربية– حيث يمارس أصحاب السلطة والمدعمون منهم دوراً يساعد على الاحتكار ويحمى الفساد ويستنزف إمكانيات المشروعات الاقتصادية وعوائد الشركات التجارية.
وقد يقول قائل إن العلاقة بين السلطة والثروة مشروعة ما دامت تحميها القوانين وتضع حدودها القواعد الملزمة حيث يكون المثل في ذلك هو النظام السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية حيث تمول القوى الاقتصادية المختلفة مرشحي الرئاسة ويدعمون الأحزاب السياسية التي يؤمنون ببرامجها ويعتنقون سياستها. وهنا لابد من وقفة فالنظام الأمريكي من أكثر النظم في العالم حساسية من الفساد ورغبة في محاربته ويكفى أن نتذكر نماذج مثل "ووترجيت" و ""إيران جيت" وغيروهما من القضايا التي وقف أمامها الضمير الأمريكي بقوة ليضع سوابق جديدة تفرق بين الحرية والفوضى وبين مرونة الحركة في جانب والفساد في جانب آخر. كما يجب أن لا ننسى أن الولايات المتحدة الأمريكية دولة ديمقراطية في أدق تعريفاتها الحديثة باعتبارها "دولة القانون" State of Law.
وقبل أن تخط أقلام الحكام قرار الإصلاح الشامل ينبغي أن يستهدوا إلى غايتهم بخطط شاملة وتفصيلية لمواجهة آفة الفساد واجتثاث جذورها اخذين بنظر الاعتبار ضرورة تهيئة الأجواء القانونية والمؤسسية والإجرائية والبشرية لإدارة دفة التغيير باتجاه دالته وبإيجاز ما تقدم يمكن تحرير دالة الإصلاح باعتماد ثلاثة مقومات رئيسة هي:- أرادة سياسية حازمة مصممة على انجاز الإصلاح الإداري - ورأي عام مساند- وعنصر بشري مؤهل.

ويبقى السؤال الأكثر إلحاحا:
ماذا يجب على السلطة أن تفعل لمكافحة الفساد؟
من حيث المبدأ ينبغي أن يتوزع جهد السلطة في مواجهة الفساد على مستويين أولهما إصلاح الذات، أي بنية السلطة نفسها، لتكون منعرجا لإصلاح المجتمع وبناه المختلفة.
أولاً: إصلاح منظومة السلطة السياسية ذاتها
1. التخطيط المفعل بعناصر العلمية والعملية لبناء مخططات تفصيلية لمواجهة الفساد ومكافحته وتهيئة الراضية الذهنية والأداتية في اجتثاثه سواء على مستوى السلطة أو على مستوى المجتمع.
2. خلق رأي عام رافض للفساد عبر تسليط الجهد الدعائي وتكثيفه باتجاه نبذ فكرة الفساد ثم تثقيف المجتمع بترويج وغرس القيم الدينية والأخلاقية المثالية المناهضة لكل أشكال الانحراف المغذي لآفة الفساد.
3. ترسيخ الديمقراطية التي إذا نضجت ستلغي المركزية و الفساد الناتج عنها.
4. نبذ الشخصانية في إدارة زمام السلطة والاتجاه صوب استنبات ثقافة المؤسسات وحكم القانون والشرعية العقلانية في إدارة كافة مفاصل الدولة من خلال الانفتاح على الرعية بالشورى وتوسيع مساحة المشاركة والديمقراطية في اتخاذ القرار، ولاسيما عندما يكون القرار عاما و يرتبط بمصالح الجميع.
5. تكريس مبدأ الفصل بين السلطات نص وسلوكا مع التصدي بفاعلية وحزم القانون لكل محاولات التطاول والتجاوز التي تقترفها بعض السلطات في سبيل مد ظل سطوتها وتوفي الحماية للمفسدين من أتباعها.
6. حماية الدعامة الرئيسة للقانون في البلاد بالسعي لتحقيق العدالة والمساواة في الفرص والواجبات والعقوبة بحق المفسدين كبارهم وصغارهم على حد سواء ونزع غطاء الحصانة عن مريدي السلطة وذيولها لإقرار الحق والعدل والقانون المنشود.
7. تطوير أداء الأحزاب السياسية وتصحيح وترسيخ مفهوم التحزب الإيجابي، مع مكافحة آفة العصبيات الطائفية والقومية واقتلاعها من منظومة السلطة لأنها البوابة الحتمية لاستشراء آفتي الفساد والإرهاب على حد سواء.
8. نشر سياسات وبرامج أجهزة الدولة ونتائج أعمالها بصورة شفافة إمام الجمهور.
9. ضمان حرية الصحافة والرأي والتعبير كأداة للرقابة وتفعيل دور منظمات المجتمع المدني في مكافحة الفساد.
10. جعل الفرص الاقتصادية أكثر من الفرص السياسية في المجتمع، ولاسيما الفرص السياسية التي يمكن أن تجند لتحقيق مكاسب اقتصادية، كي لا يكون الانجذاب للعمل السياسي والانخراط فيه لانعدام الفرص الاقتصادية وللحصول علي الرفاه والاقتدار الاقتصادي عبر العمل السياسي لأن ذلك يؤدي إلى نمو وانتشار الفساد، وتدهور الأداء السياسي والاقتصادي و... الخ.
أي بعبارة أخرى نشر النفوذ والثروة والمكانة الاجتماعية بين أفراد المجتمع عامة، كي لا تكون حكرا على السياسيين.

ثانيا: دور السلطة في الإصلاح على صعيد المجتمع ومؤسساته
1. تشريع قوانين صارمة لمكافحة الفساد مع ترميم التصدعات والفجوات في القوانين التي يجعلها المفسدون منعرجا لإفسادهم. والتطبيق الحكيم والحازم لتلك القوانين الخاصة بالتفتيش الإداري والمالي وإنزال أقصى العقوبات بحق الفاسدين والمفسدين واجتثاثهم من جذورهم.
2. بناء منظومة رقابية فاعلة جدا ومستقلة عن أي تأثيرات سياسية أو سلطوية ومجهزة بقدرات بشرية ومادية ووسائل قانونية فاعلة لمواجهة الفساد والقضاء عليه عبر أعلاء صرح الشفافية والرقابة الوقائية.
3. لتأكيد على أن يكون نظام الإدارة في المؤسسات العامة نظاما قائما على أساس الانفتاح والديمقراطية.
4. تحقيق العدالة في توزيع المناصب الإدارية على أساس الكفاءة والمؤهلات العلمية
5. إعادة النظر في المسئولين الإداريين في المناصب العليا للتعرف على مؤهلاتهم العلمية والعملية وكيفية وصولهم لهذه المناصب، وهل تم عبر التدرجية الإدارية.
6. تقصير فترات تولي المسؤولية في موقع واحد. مع إمكانية اعتماد نظام الانتخاب لشغل المناصب الإدارية المهمة بعد التدقيق في قاعدة بيانات المرشحين للتنافس عليها.
7. مكافحة البيروقراطية الإدارية بتكريس اللامركزية الإدارية والمرونة في القوانين والأساليب.
8. تطعيم الأجهزة الإدارية بطاقات شبابية من حملة الشهادات العليا
9. تنمية الشريحة المهنية ودفعها لرفع مستواها الحرفي والمهني والأخلاقي وزيادة ترابطها.
10. تحديد الرواتب بشكل يمنع الموظف من التفكير في ارتكاب جريمة الفساد، و يرى أن الثمن سيكون باهظاً.
11. التأكيد على مسألة الشفافية والعلانية في كثير من المعاملات الإدارية، مع فتح قنوات الاتصال بين المواطنين والمسئولين على كافة الأصعدة والمستويات وبصورة سهلة وسلسة.
12. استحداث نظام جديد لتقييم الأداء في المؤسسات الحكومية.

13. تحديد القطاع العام من خلال خصخصته بعيدا عن الثورية وحرق المراحل ومع الدعم التدريجي والمؤقت والمشروط للقطاع الخاص، لأن الفساد أكثر شيوعا وانتشارا في القطاع العام.
14. ترسيخ ودعم إيجابيات الاقتصاد الحرّ الذي يعتمد على السوق، فحين تقوم الحكومة بلعب دور السوق سيكون الفساد الاقتصادي والسياسي مروعا.
ولضمان النجاح في مواجهة الفساد على الصعيدين المتقدمين يجب الانتباه إلى أمور منها:
1. المراجعة الدورية المتواصلة لآليات ووسائل مكافحة الفساد.
2. يجب أن لا تفتح عدة جبهات في مرحلة واحدة، بل يجب أن ندرك بأن الإصلاح تدريجي والمكافحة يجب أن تنجز بهدوء تام وخطوة فخطوة، وتبدأ من معالجة الجذور، والعلل والأسباب، لا القشور، وبمساعدة وإنقاذ المتورطين في الفساد للعودة إلى واحة النزاهة والنظافة. كما يجب إن نتذكر بأن النجاح لن يكتب لمكافحة الفساد إلا إذا انطلق من أعلى سلطات البلاد التي يجب أن تكون قدوة ومثالا يحتذى به في النزاهة والأمانة والشفافية، ولابد أن تكون جهود مكافحة الفساد ولجانها نزيهة وشفافة، بعيدة عن التشهير والتسقيط والتسييس وما نحو ذلك.
3. التركيز على العامل البشري فالمواطن هو الغاية...، والموظف خادم لمجتمعه من خلال وظيفته العامة ويجب أن يكون هذا الأمر الأخير مبدأ لا شعار لان المواطنين هم حجر الزاوية في نجاح خطط ومشاريع مكافحة الفساد، فلابد من تثقيفهم لإدراك التداعيات والانهيارات الخطيرة والكبيرة العامة والفردية المترتبة على الفساد، وتعارض الفساد مع الأخلاق والفضائل والقيم والمبادئ الدينية والوطنية والإنسانية، والإيجابيات التي تترتب على النزاهة، وعلى عدم المساهمة في الفساد، بل وبالمساهمة في الرقابة على الفساد، لكن لن يكون باستطاعة المواطنين الوفاء بوظيفة المراقبة على الفساد إلا إذا تمَّ التأكد من تحقيق أعلى درجة من الشفافية في التعامل مع الأموال العامة. فالنـزاهة والشفافية من المحاور الرئيسية التي تدور حولها عمليات مكافحة الفساد.
وخلاصة القول: أن مكافحة الفساد الإداري لا يمكن أن تتحقق من خلال حلول جزئية، بل ينبغي أن يكون شاملا يطال جميع مرتكزات الإدارة من بنيتها وهيكليتها إلى العنصر البشري العامل فيها إلى أساليب العمل السائدة فيها.
ولا ننسى التأكيد في المقام الأول كما الأخير بأن مكافحة الفساد يجب أن تبدأ من الأعلى وليس من الأسفل، وبالتالي لابد من اجتثاث الفساد بداية من القيادات العليا وليس بفصل بعض الموظفين الصغار في المستويات الإدارية الدنيا.

* باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية

http://fcdrs.com
Opinions