جحيم العراق والتجرِبة الأمريكية ( على المشرحة ) الحلقة الثانية
" الحرب بصلة متعفنة " انعام كجه جي1/ الحفيدة الأمريكية: جحيم عراقي واحد
أعود إليكم من جديد لنكمل جولتنا النقدية في عالم تلك الحفيدة الأمريكية التي كتبت روايتها السيدة إنعام كجه جي ، ولقد أجادت تصوير الأحداث الدرامية ونجحت في حركة الشخوص واستخدامها لغة روائية غير مصطنعة .. إذ استوحت من الأحداث والشخوص مادتها الواقعية ، ولا يحس القارئ أن هناك خيالا ، أو إن الرواية خيالية لا أصل لها من الصحة .. ولكن ثمة صورة واحدة لم أتقبلها أبدا ، إذ لا يمكن أن تحدث ، أو أنها نادرة الحدوث .. إن البطلة زينة بهنام المرتبطة أصلا بصديقها الأمريكي لا يعقل أن تعشق احد عناصر جيش المهدي ، مهما كان قريبا منها .. إنها أمريكية تكتب لصديقها الأمريكي وهي في طريقها إلى العراق ، أن لا يكثر من الشرب ويسقى النباتات ، وإذا أحب مرة أخرى ، فعليه أن لا يحب عراقية مرة أخرى .. جحيم واحد يكفي في الحياة !
2/ رواية مصلاوية المناخ والتعابير
البطلة حفيدة أمريكية سليلة عائلة مسيحية مصلاوية .. وان الأجواء التي وضعتنا الرواية فيها عراقية مصلاوية : أمثال ، وقصص ، وعبارات لا يستخدمها إلا أهل الموصل .. كنت أتمنى على السيدة إنعام ، لو أعطت تفسيرات في الهامش للعديد من المصطلحات والتعابير الموصلية التي لا يعرفها القارئ العربي ، بل حتى القارئ العراقي : برداتنا ، الطارمة ، صندويلات ، طاوة ، زيق ، مطعوج ، الجعنكي ، من خناقي ، هجّوا ، جحغ ، حطّة أيدك ، العجايا ، اسحتها ، الجماقة ، خلوقة .. الخ
3/ من دكتاتورية الرعب الى الفوضى الخلاقة
طارت الحفيدة الأمريكية إلى العراق رفقة جنود المارينز ، ودخلت الطائرة في طريقها إلى العراق ، وفي أجواء العراق تتلبس الحفيدة حالة غريبة من الشفافية ( ص 39 ) .. شفافية وطن ، ولكن صادفتها عاصفة رملية لم تر مثيلا لها من قبل ( ص 40 ) لتشم العراق من رائحة الطوز ! وكأن العراق يمشي نحو التغيير عام 2003 ، هكذا أسموه ، ولكنه " الزلزال " ( ص 43 ) الذي لم يبال به الأميركيون أبدا ! لماذا ؟ هم الذين صنعوا الحدث ، وجعلوا العالم كله ينشدّ نحوه .. لكنهم كانوا يرسمون للفوضى الخلاقة ، فمن سمح للدكتاتورية أن تنمو وتترعرع وتكبر .. سيسمه للإرهاب أن يمتد في كل مفاصل العراق ! وإذا كان العراقيون يتأملون الغد الأفضل ، فان " الغد كلمة غامضة في قواميس الحروب " ( ص 43 ) ! نعم ، هذه حكمة رائعة تختزل مأساة العراق وحروبه ..
4/ من الأمنيات الى الجحيم
عندما تحّول اهتمام العراقيين من التفكير بالغد إلى التفكير بدوامة الجحيم ! ولم تعد الأحلام جميلة ، فلقد غدت " الأحلام لا تترك لنا رفاهية الاختيار " ( ص 44 ) .. والحفيدة التي تحلم بجّدها العراقي الذي رأته ، وهي في ثوب عرس ابيض ، فأشاح عنها ، فتحوّل لون فستانها إلى اسود قاتم " ( ص 44 ) . أما التغيير الذي حدث ، فهو القيامة التي مرت من هنا " ( ص46 ) . إن التغاير لم يكن أمريكيا، بل كان عراقيا ، ولكن ليس على مزاج العراقيين .. كانت القنوات الأمريكية تبث أن في العراق شعب متحمس لتغيير النظام ، يحلم بالحرية ، ويرحب بقدوم الجيش الأمريكي .. نتساءل : لماذا إذا تطفح العيون السود البارزة من شقوق العباءات بكل هذا الصدّ ؟ نظرات لا تعكس الفة ولا فرحا ، كأن الحزن بؤبؤها . كيف ستكون أيامي المقبلة في البلد الذي لم يعد يعني لي أكثر من انه حاوية لعظام الأجداد " ( ص 49 ).
5/ العراق ليس كيس قمامة !!
ونمضي مع متابعة صور تاريخية أليمة مر بها العراقيون ، ودفعوا أثمانها الصعبة باسم شعارات الثورة ، أو القضاء على أعداء الثورة ! وتقفل الصورة من طرف واحد بأجمل عبارة من التساؤل المشروع ، تقول : " هل هناك بلد على وجه الأرض ، غير بلدنا ، يتسّلى أهله بذكريات القهر وهدّ الحيل ؟ " ( ص 53 ) . ويأتي جواب البطلة في قفلة الفصل التالي عندما تقول : " كنت أسجّل ، ليلة بعد ليلة ، وقائع أيامي في ذلك البلد الذي يتشبث بي من خناقي . هنا خضت جهادي الخاص وتركت العنان لنفسي أن تذهب إلى التخوم الخطيرة للوله " ( ص 56 ) . ان البطلة المولهة تعيش وسط عساكر لا يرون في العراق إلا كيس قمامة ( كذا ) ، ولكن بعضهم كان يتولى عملية جرد الأموال والمضبوطات في قصور صدام حسين .. وبقى الجرد طويلا ( ص 69 ) . وهنا يسأل العراقيون : أين ذهبت تلك الأموال وموجودات الذهب وكل المضبوطات ؟ من أخذها ؟ أين هي الآن ؟
6/ الامريكيون يفتقدون شفرة العراق الملغزة
ثمة إحساس آخر ، وأفكار جديدة أخرى تفصح عنه الرواية عن عجوز عراقية طاعنة في السن لم تزل تحتفظ في طيات جلدها كل تركة الأجيال التي تربّت على الصح . إن الجيل الأخير ترّبى على الخطأ .. نفاق ورشوة وخوف وكلام مبطّن ولعبة الختيّلة ( ص 77 ) ... الخير كان كثيرا ، ثم اشتغلت طاحونة الحروب وشفطت النفط حتى آخر قطرة . راح الرجال وجلست النساء يلطمن الصدور " ( ص 77 ) . أنفاس أهل الصح ظلت تسري .. ولما دخل الاميركان وجدوا بلدا ملغزا لا يملكون شفرته . وكان مرافقوهم المحليون أكثر منهم حيرة " ( ص 77 ) . إن خمسين سنة من زمن الانقلابات والتناقضات والصراعات والأحادية والبطش والحروب والدكتاتورية .. كافية ليتحول اغلب الناس من الصح إلى الخطأ ، ويتحول العراق إلى خرابة ، ويشيخ أهله ، وهم في الأربعين من العمر ! وغدت الرشوة أسلوبا مشروعا حتى وصل الأمر إلى أن تشتري بالرشوة العراق بأكمله ( ص 83) .
7/ العراق : من الصواب الى الخطأ
إن فقرة واحدة تختزل صورتها تاريخ تحولات العراق من الصواب إلى الخطأ ، .. " فالزعيم غازي الداغستاني هو أكثر ضباط الجيش العراقي أناقة . أما ذلك العقيد .. فكان يخلع قميصه في ليالي الخفارات الصيفية الحارة كاشفا عن فانيلة مليئة بالثقوب . ولما نصبوه رئيسا للجمهورية ، في الستينات ، فكر ( فلان ) بأن يبعث له بدستة من الفانيلات الجديدة " ( ص 91) . فتصوروا كيف حصل التحول من عراق أنيق في قيافته إلى عراق مهلهل حتى في ألبسته الداخلية وان المحترمين من أبناء العراق بقوا حتى اليوم وهم منكفئون على الأرض !
إن جدلا فاضحا جرى بين البطلة وجدتها ، وهو حوار واضح فالجدة عراقية والحفيدة أمريكية .. ولكن لا يمكن أن تجد أي حوار أو جدل بين جدة عراقية وحفيدة عراقية ، فالعراقيون لم يعرفوا لغة الحوار أبدا ، ولا يمكنهم أن يتفاهموا على ابسط الأمور ، فالجدة تخشى على كرامتها أن تخدش ، وعليه ، فهي تعترف بأن أهل الشارع يعرفونها ، ولكن لا تريد أن يزعجها زعاطيط هذه الأيام ( ص 117- 118) .
8/ الصدمة الصاعقة :
أعجبني وصف الرواية الحرب كونها بصلة متعفنة ! ( ص 143 ) مع انتقاله ذكية لحوار أمريكية وشاب عراقي ، فهي تؤمن بالتعددية وهو يؤمن بالأحادية .. الوطن عنده هو الأم ولا يمكنه أن يتخيل أوطانا بديلة عنه .. انه منغمس في تراثه ، ويهوى أن يبقى ثابتا لا يتزعزع ، ويهاجم أولئك الذين يغيّرون جلودهم .. حتى يصل الأمر إلى أن تقول : " تذبحني السخرية السوداء التي تلازم العراقيين ، كأنهم عاشوا ما فيه الكفاية حتى عادوا يرون حياة ما وراء الخراب .. " ( ص 147 ) ! وتشتد الأزمة الحقيقية بين الحفيدة الأمريكية والشاب العراقي بوصول الأمر إلى الذروة من دون أن ينتج الجدل الدائر إلى نتيجة تذكر لتختتم جولتها بقولها : " .. وأكاد افقد ثقتي بنفسي . أكره الموقف السخيف الذي يضعني فيه . ألعن الساعة التي عدت فيها إلى هذا البلد " ( ص 148 ) . إن هذه النتيجة هي التي يحملها أي إنسان من أصل عراقي يعود إلى العراق ، فيصطدم صدمة صاعقة ، تجعله يلعن الساعة التي قرر فيها الرجوع إلى العراق !
9/ الإرهاب : مسرحية شريرة
سأكون فرحا جدا لأنني وجدت جملة من أفكار الرواية ، أنا الذي كنت قد أذعتها ونشرتها ، وان صاحبتها قد تطابقت أفكارها معي إلى حد كبير .. ربما كنّا قد درسنا في مدرسة واحدة . دعونا نتأمل في النص التالي : " لم يكن الوضع في الموصل أفضل منه في الأماكن الأخرى . يستيقظ الأهالي في الصباح فيجدون رؤوسا مقطوعة مرمّية في الساحات العامة . رعب تحفظ ذاكرة المدينة ما يشبهه . والفارق نصف قرن . يتذكر كبار السن ما كان في أواخر الخمسينيات ، ويضربون كفا بكف . مدن تقطع رؤوسها بأيدي أبنائها .. " ( ص 150 ) .
من خلق هذه الحالة ؟ لماذا كان الفلتان ؟ من احتضن الإرهاب ؟ من زرع القرف ؟ من قتل الكرامة ؟ من سحق المجتمع ؟ ، إن " القرف استحال ، بالتدريج ، حقدا . كأن هناك من وزّع أقنعة مسرحية شريرة على كل أهالي المدينة " ( ص 159 ) .
10/ امريكا وراء صناعة كل احداث العراق منذ خمسين سنة !
ولكن ، مهلا ، فثمة أصوات عراقية تنذر بالخطر ، عندما يصل أبو البطلة الى ذروة غضبه ، ، فيصيح : " الويل الويل من شعب العراق " ( ص 165) . أما البطلة ، فان تجربتها العراقية تفشل فشلا ذريعا ، وتقول وهي تستعد للرحيل : " أظن أن تجربتي العراقية بدأت تأخذ طعم الخل " ( ص 177 ) . أما الشاب العراقي ، فهو يقترح فكرة مبتكرة قائلا : " طرتم كينغ كونغ من المدينة وقبضتم ثمنه العراق كله " ( ص 184 ) ! ويبقى القارئ يبحث عن جواب سؤال ورد قائلا : من كذب على من ؟ تجيبه البطلة قائلة : " ساذجة كنت عندما تصورت الديمقراطية شعر بنات ، سكرا ملونا ملفوفا على عيدان رفيعة .. بعناكم حلما أجمل من أن يتحقق . وجاء من طرفكم تجار أبناء سوق . دكاترة وعلماء ذرة وجنرالات . عرضوا علينا الوهم .. " ( ص 180 ) .
اعتقد أن خطط أمريكا الإستراتيجية لا يمكنها أن تصنع لما نقله بعض العراقيين .. صحيح أن العراق كان كبش فداء 11 سبتمبر .. وإذا كانت 11 سبتمبر لغزا حتى الآن ، فان ما جرى في العراق يعد ـ عندي ـ من اكبر الألغاز التي سيكشفها المستقبل عاجلا أم آجلا !! لقد توثّق عندي ان امريكا كانت وراء صناعة كل أحداث العراق وشخوصه على امتداد خمسين سنة !
11/ النهاية : افتراق عن العراق
تعود الحفيدة الأمريكية إلى أمريكا ، وهي تختتم روايتها ، قائلة : " عدت وحيدة .. لم اجلب معي هدايا ولا تذكارات ، لا احتاج لما يذكرني بها . أقول مثل أبي : شلّت يميني إذا نسيتك يا بغداد " ! ( ص 195) . هكذا ، عادت الحفيدة الأمريكية إلى وطنها الحقيقي ، أمريكا وتركت العراق لوحده وهو يعاني من كل التحديات والقساوة والآلام ، لكن تجربتها الأمريكية علمتها الكثير ، بحيث لم تكن تدري ماهية العراق ، ولم تكن تعرف ثقل التناقضات التي يحفل بها المجتمع العراقي .. لقد أعطت تلك التجربة المريرة ، درسا بليغا لكل العراقيين في الداخل والخارج إن مأساة العراق يتحمل مسؤوليتها الجميع .. وان ما ارتكب من أخطاء شنيعة ، كان يمكن تجاوزها إن كانت الخطط الأمريكية على غير ما كانت عليه سواء في الأعداد أو التنفيذ !
12/ وقفة نهائية عند صاحبة الرواية :
نعم يا إنعام ، لقد نجحت نجاحا كبيرا في كل من الفكرة والأدوات والأسلوب وإخراج هكذا مضمون يحفل بالتناقضات وجمعت بتميز عالي المستوى بين المتضادات .. كنت بالغة الدقة في تقديم الحياة الأمريكية كما هي سيرورتها في ديترويت ، حيث يكثر أبناء الجالية العراقية من المهاجرين المسيحيين فيها .. ونجحت بشكل ملفت للنظر في تصوير الحياة العراقية ، كما هي على الأرض .. وكنت رائعة في استخدام الخصوصيات الارثية الموصلية وخصوصا في التعابير التي يستخدمها الموصليون القدامى .. كنت شجاعة جدا باستخدام ألفاظ ( مبتذلة بعرف الآخرين ) يتمنّع غيرك من استخدامها علنا ، فكنت واقعية تماما في تقديم الشخوص كما لو كانوا يصنعون حدثا حقيقيا على الأرض .. كنت عراقية في الصميم ، عندما جعلت الحفيدة الأمريكية تنهزم وتبكي وقد افتقدت وطنها الأم .. ولكن بنفس الوقت ، كنت بارعة في تقديم صورة فوتوغرافية متميزة عن وطن متفسخ ، وقد طغت عليه السيئات ، بعد أن تحّول من بلد أنيق جدا ، كان يعد فعلا مضربا للأمثال ، ومهدا للحضارات ليغدو وقد تحّطم إلى ارض خراب موحشة ، لا تجد فيها إلا الموبقات والمثالب ، وهو يغرق في السيئات على امتداد خمسين سنة ، بدءا من سحل الأجساد ووصولا الى قطع الرؤوس !
تنشر على موقع الدكتور سيّار الجميل بتاريخ 17 فبراير / شباط 2009 .
www.sayyaraljamil.com
وطنٌ عراقيٌ وحفيدة أمريكية (على المشرحة) -الحلقة الأولى