جولة جديدة من النقاش الفكري والسياسي مع السيد سلامة كيله (5) و (6)
على امتداد قرون كثيرة وعبر نشاط الملايين والملايين من البشر الموزعة على قارات واقاليم وبلدان كثيرة تراكمت الكثير من الدروس والقيم والحكم والمقولات المأثورة التي تعبر عن التجارب المريرة التي مرت بها البشرية , سواء أكان ذلك في العمل السياسي أم الاجتماعي أم الثقافي , وسواء أكان في النضال من أجل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان , أم في سبيل الاستقلال والسيادة الوطنية وضد الاستغلال والتمييز بمختلف اشكاله. وعبر القرون المنصرمة انتزعت البشرية من حكامها الكثير من الحقوق وكرستها في قوانين وتقاليد ونظم , بعضها يعبر عن مصالح طبقات معينة , وبعضها الآخر يخدم مصالح عامة , وبعضها الثالث يطرح صيغاً للحوار والنقاش والصراع حول القضايا التي يطرحها الواقع وتتباين فيها وجهات النظر والمواقف الفكرية والسياسية والمصالح. ولكن بعضها الآخر يشكل قيماُ ودروساً مهمة يفترض في كل القوى السياسية الاستفادة منها في كفاحها لتحقيق أهدافها , فهي قيم عامة وشاملة. وهي مهمة للقوى اليسارية بشكل عام , لأن بعضها يرفض القيم التي تحققت في فترة نهوض البرجوازية في أوروبا والعالم ضد النظم السياسية والاجتماعية المستبدة السابقة لها. وأحد هذه الدروس القيمة تلك الفكرة القائلة بأن "السياسة فن الممكنات" , وهي في حقيقة الأمر علم ايضاً. وحين طرحتُ هذه الفكرة العامة , التي هي تعبير عن خبرة النضال الطويل الذي خاضه الإنسان وسعيه لتحقيق حلمه في الحياة الحرة والكريمة والخالية من الاستغلال , ولكن بعيداً عن الأوهام أو بعيداً عن الواقع والممكن , ولكن ليس بعيداً عن الأحلام الإنسانية النبيلة , بل السعي والعمل من أجل الاقتراب من الواقع وفهمه والعمل على تغييره , مع الاحتفاظ بحلم دائم لتطوير الممكن. وإذا بأخي السيد كيله يعتبر هذه الفكرة برجوازية , رغم أن لينين الذي يتحدث باسمه كثيراً كان يقف في مواقع فكرية وسياسية أخرى , عمل بهذه الفكرة وكررها مراراً , بل هي قديمة قدم الإنسان وعمل بها حامل الرسالة الإسلامية محمد بن عبد الله أيضاً في مساومته مع أبي سفيان الشهيرة , إذ عمد إلى الممكن ليطور الكامن ويصل إلى المنشود لاحقاً.يصعب علي فهم هذا المنطق الشكلي الذي يمارسه السيد كيله. نرفض شيئاً صائباً لاعتقادنا بأنه برجوازي ليبرالي , ونرفض الديمقراطية البرلمانية لأنها من مؤسسات الدولة البرجوزاوية ولا نعتبرها واحدة من أهم منجزات نضال وفكر الإنسان والعقل الجماعي للبشرية , للحضارة الإنسانية , ونسعى إلى خلق ما يقود إلى الضياع , إلى ما يسمى بـ "الديمقراطية البروليتارية" وإلى سوفييتات نواب العمال والفلاحين في الاتحاد السوفييتي التي تحولت إلى أداة للتصفيق لقادة الحزب والحكومة والموافقة على قراراتهم , كما عبرت عن ذلك بصدق ودقة وحرص كبير على الثورة روزا لوكسمبورغ. لا يهمني من أين انطلقت هذه الفكرة أو تلك فهي نتاج البشر وتجسد خبرة عالمية , بل يهمني محتواها وسبل استخدمها والاستفادة منها وتوظيفها لصالح النضال الذي تخوضه القوى الديمقراطية والحركة اليسارية عموماً في العراق أو في العالم العربي أو على الصعيد العالمي ولصالح التقدم. ألا يفترض في اليسار في الدول العربية أن يعيد النظر بفكره ومواقفه وأساليب عمله وأدواته؟ ألا يفترض بعد هذه العقود من النضال أن يتساءل كيف يمكن تحقيق نتائج إيجابية للمجتمع وفق أساليب نضال جديدة أكثر وعاً بالعصر الذي تمر به البشرية؟ هذا ما أتمنى أن نعيه جميعاً . وإلا في العاقبة غير سليمة.
يفترض أن تكون لكل حزب سياسي استراتيجيته , وفي ضوء هذه الاستراتيجية المرحلية وذات المدى البعيد يفترض فيه أن يضع تكتيكاته السياسية النضالية في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية , أي تحديد سبل وأدوات وصول هذا الحزب أو ذاك إلى تعبئة الفئات الاجتماعية الكادحة لصالح تحقيق أهدافها العادلة على المدى القصير والمتوسط والبعيد. وفي ضوء هذا يفترض بهذا الحزب أو ذاك من الأحزاب اليسارية , ومنها الحزب الشيوعي , أن ينطلق من الاسترتيج الذي يحدده لنفسه ليشخص تكتيكاته ويحاول أن يرى الممكن حالياً للتحقيق في إطار الصراعات الاجتماعية الجارية وموازين القوى القائمة , وكيف يمكن تحقيق جملة من المهمات التي تعتبر مستلزمات ضرورية لتغيير الممكن باتجاه الأفضل. إن أي حزب يساري لا يمكنه أن يبني على الكامن من الطاقات والقدرات , بل على القائم منها لتحقيق المهمات , ولكن عليه أن لا ينسى التحري عن القوى والقدرات الكامنة التي يفترض فيه تحريكها وتعبئتها وتوظيفها في خلق الممكن الجديد لتحقيق خطوات متقدمة على الطريق النضالي الطويل. ينبغي أن يؤسس على ما هو ممكن شريطة أن لا ينسى ما هو كامن وسبل استثماره وتحريكه نحو مواقع أكثر تقدماً. اشير مرة أخرى أن المنطق المتياسر الذي يقدمه لنا السيد كيله يقود إلى مواقع اليمين , وهذا ما نجده في موقفه من القضية الفلسطينية. وحين اقول ما لا يدرك كله لا يترك جله , سيقول لنا الأخ كيله بأن هذه الفكرة ربما من مخلفات الماضي السحيق حتى لا ترقى إلى مرحلة وفكر البرجوازية!
إن السياسة فن وعلم الممكنات , تعني بدورها , شاء الآخ أم أبى , تعني وعي الواقع والقوى , وتعني القدرة على ممارسة السياسة والاستعداد للمساومة لصالح الشعب والتقدم , وليس لصالح التخلف وخسارة المواقع , وليس لصالح هذا الحزب أو ذاك , فالأحزاب أدوات فاعلة , وليست اهدافاً , لتحقيق أهداف الشعب , كل الشعب. نحن نعيش في عالم متحرك وطبقات لها مصالح مختلفة وصراعات طبقية لا بد للطبقة العاملة وقواها اليسارية والمثقفين الديمقراطيين أن تجد في نضالها إمكانية لتحقيق بعض المهمات والأهداف لكي تدفع بقدراتها النضالية نحو الأحسن والمواقع الأقوى , وليس رفض كل شيء , إما السلطة أو لا شيء في العراق , وإما كل فلسطين أو الموت!
للنضال أساليب وأدوات مختلفة وكثيرة. وتقع على عاتق القوى والأحزاب السياسية اليسارية , ومنها الأحزاب الشيوعية , أن تحدد أهدافها ومهماتها وأساليب وأدوات نضالها , أن تحدد استراتيجها وتكتيكاتها لتحقيق الاستراتيج في المحصلة النهائية , وعلينا أن ندرك ايضاً بأن هناك استراتيج مرحلي واستراتيج أبعد , وبالتالي يقع على عاتقها تحديد كل ذلك عبر استخدامها للمنهج المادي في تحليل الواقع واستخلاص الالاستنتاجات وتحديد المسيرة لتحقيق التغيير المنشود مع ضرورة الاستفادة من كل المناهج العلمية الأخرى. كما على الحركة الاشتراكية والشيوعية كلها أن تدرك بأن مفاهيم مثل دكتاتورية البروليتاريا والتجاوز على الديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق الشعوب , كما حصل في دول المعسكر الاشتراكي" لم يكن مقبولاً ولا مرفوضاً ومخالفً لعمق الفكر الاشتراكي ويفترض أن لا يكون مقبولاً , بل مرفوضاً , إذ أنه يستبدل الدكتاتورية بدكتاتورية أخرى ولا يوصل بأي حال إلى تحقيق العدالة الاجتماعية , الديمقراطية والحياة الدستورية البرلمانية النزيهة والنظيفة ودولة القانون الديمقراطي والمجتمع المدني الحديث وممارسة الشعب لحقوقه ومشاركته في السياسة والسلطة ...الخ هي من الأسس التي يمكنها أن توصل إلى العدالة النسبية بمنظور اجتماعي سياسي قابل للتحقق.
في العام 1789 انطلقت الثورة البرجوازية في فرنسا ضد الإقطاع وسطرت لهامبادئ "الحرية , المساواة , الأخوة". وها نحن نقترب من الذكرى السنوية ألـ 220 لهذه الثورة العظيمة ومبادئها الكبيرة , فهل علينا أن نرفض هذه المبادئ لأن القوى التي نادت بها كانت برجوازية , أم أن علينا أن نتبناها ونطورها ونغنيها بقيم ومضامين إضافية وجديدة التي لم يتوصل إليها المجتمع الفرنسي حينذاك بسبب واقع المجتمع وطبيعة الصراع والفئات الاجتماعية التي حملت هذه الشعارات الإنسانية المهمة , بغض النظر عن المصالح التي كانت تسعى إليها من خلال طرح تلك الشعارات. إن المنطق الذي يستخدمه السيد كيله أفلج بكل معنى الكلمة ولا يمت إلى قيم الحضارة الإنسانية التي حققتها البشرية بصلة. إنه يتحرك في فضاءاته الذاتية ويعممها وكأنها الحقيقة المطلقة. لقد أضافت القرون اللاحقة , ومنها ثورة أكتوبر قيماً وشعارات أخرى , ومنها النضال ضد الاستغلال والحروب الاستعمارية , كما وضعت البشرية في العام 1948 لائحة حقوق الإنسان الدولية في أعقاب التجربة التي مرت بها البشرية وسقوط النازية الألمانية والفاشية الإيطالية والعسكرية اليابانية في نهاية الحرب العالمية الثانية , وأغلب الدول التي ساهمت في وضع هذه الوثيقة هي دول برجوازية , وساهم العراق مع بقية دول العالم حينذاك بوضعها , فهل علينا أن نرفضها , أم أن نعمل من أجلها ونطورها ونغنيها بحقوق أخرى , كما حصل فعلاً خلال الفترة الواقعة بين عامي 1948 و2009 , وأن نناضل في سبيل تنفيذ ما ورد بهذه اللائحة والمواثيق والعهود الدولية اللاحقة , وخاصة الحقوق السياسية والاقتصادية التي وضعت في العام 1966 وحقوق المرأة والطفل وضد التمييز والعنصرية ..الخ , والتي نطلق عليها جميعاً بـ"شرعة حقوق الإنسان".
لقد طرحت الأممية الاشتراكية الثانية على لسان كلارا تستكن الألمانية وبالتعاون مع أوغست بيبل وروزا لوكسمبورغ قضايا حقوق المرأة وحريتها ومساواتها بالرجل ...الخ , فهل يجب على الحركة الشيوعية واليسارية أن ترفضها لأنها جاءت من الحركة الاشتراكية لأنها في صراع معها. أتمنى أن يفكر بالأمر ملياً , فما زال يتحدث وكأن الحركة السياسية العربية , ومنها الحركة اليسارية , تعيش حالة الطفولة اليسارية. ومن المؤسف أن السيد كيله ليس وحده من يفكر بهذه الطريقة! أتمنى على جميع قوى اليسار وقوى المجتمع المدركة لمهماتها أن تعيد النظر بماضي نشاطها وأن تعترف بالأخطاء التي ارتكبتها في الماضي من حيث الفكر والممارسة , وليس عيباً في ذلك بل فضيلة , وأن تضع أسساً جديدة لعملهه , إذ أن أخطر ما في العملية الفكرية والسياسية هو الكسل والخمول الفكري واعتماد مقولة "ليس في الإمكان ابدع مما كان" , فهو الجمود والموت بعينه. وإعادة النظر هذه تشملني كما تشمل غيري , إذ ليس فينا وليس هناك من هو معصوم من ارتكاب الأخطاء.
كم أتمنى على الأخ كيله أن يتخلى عن هذه الرؤية الضيقة للتراث الحضاري الإنساني. إن هذه القيم والمنجزات الفكرية والنضالية للبشرية هي تراث كبير للحركة اليسارية الديمقراطية في العالم كله وعلينا الاعتزاز بها وإغنائها باستمرار , وليس برفضها. إن هذه اللوائح تساعدنا على النضال ضد النظام الرأسمالي واستغلاله للشعوب , ضد القوانين التعسفية وضد التجاوز على حقوق الإنسان , ومنها حقه في العمل والحق في الحياة والعيش الكريم وحقه في التفكير الحر وتبني ما يراه من فكر أو عقيدة دينية أو مذهب أو موقف سياسي وبقية الحقوق المعروفة. إن هذه النضالات هي التي في مقدورها أيضاً إيصال القوى السياسية اليسارية الواعية إلى السلطة , وليس عبر الانقلابات أو الثورة على أن تستفيد من دروس وعبر وتجارب الماضي بكل ابعاده.
ومع ذلك فأن الزميل يمتلك الحق في الدفاع عن افكاره ومواقفه , وفي رفض الفكر الآخر الذي أطرحه , وهذا الموقف لن ينغص عيشي , ولكن ربما ينغص عيش أولئك الذين يتجاوبون مع افكاره ومواقفه السياسية ويتحملون عبر التضحيات والإحباط.
كاظم حبيب
انتهت الحلقة الخامسة وتليها الحلقة السادسة والأخيرة
جولة جديدة من النقاش الفكري والسياسي مع السيد سلامة كيله (6)
أ. د. كاظم حبيب
أود ابتداءً أن أصحح سوء الفهم الذي حصل في ما كتبته حول موقف يوسف سلمان يوسف (فهد) من قرار التقسيم في العام 1948. لقد كان موقف الحزب الشيوعي العراقي بقيادة فهد ضد تقسيم فلسطين وضد الصهيونية , باعتباره نهجاً قومياً شوفينياً وعنصرياً توسعياً ومطية الاستعمار البريطاني. وكان يدعو إلى دولة فلسطينية وطنية تضم إليها أتباع كل الأديان والمذاهب الدينية دون تمييز وساند حينذاك نضال الفلسطينيين للتخلص من الهيمنة الاستعمارية البريطانية. وقد ساند الحزب الشيوعي العراقي لهذا الغرض أيضاً , المبادرة التي أطلقتها جمهرة من الشيوعيين اليهود العراقيين أعضاء الحزب الشيوعي , من أجل تشكيل "عصبة مكافحة الصهيونية". وقد تأسست هذه العصبة فعلاً وحصلت على إجازة عمل رسمية ونشطت واصدرت جريدتها "العصبة" وعقدت مؤتمرها الأول ومارست الكثير من الفعاليات وأصدرت العديد من الكراسات لصالح وحدة فلسطين ونشرتها بين الأوساط اليهودية وغير اليهودية في العراق. وفي حينها أيد نوري السعيد قيام هذه العصبة وأعطى تصريحات قوية لصالحها. ولكن سحبت إجازة هذه المنظمة الديمقراطية ومنع نشاطها وقدم قادتها إلى المحاكمة من قبل الحكومة العراقية بعد أن عرف قادة الحكومة أن المبادرة جاءت من الشيوعيين اليهود وغير اليهود. وكانت المحاكمة مهزلة حقاً نشر عنها الكثير , ومنهم الدكتور الراحل عبد اللطيف الراوي وعبد الرزاق الصافي وكاظم حبيب. كانت القوى اليسارية والديمقراطية أول من نظم وقاد تظاهرة في العراق مناهضة للصهيونية واحتجاجاً على زيارة السير الفريد موند إلى العراق في العام 1928. (راجع في هذا الصدد كتاب حسين الجميل (العراق شهادة سياسية 1908-1930, دار اللام, لندن) وكتاب زكي خيري (صدى السنين في ذاكرة شيوعي عراقي مخضرم) وقد ضربت وفرقت الشرطة العراقية هذه التظاهرة واعتقلت العديد من المشاركين فيها وقدموا للمحاكمة , كما طرد العديد من الطلاب من مدارسهم.
وحين كان فهد في السجن تسلم في العام 1948 , وبعد صدور قرار التقسيم , تقريراً كتبه الدكتور يوسف إسماعيل , أحد كوادر الحزب الشيوعي العراقي الذي كان يعيش في باريس في حينها , وهو أخ الراحل عبد القادر إسماعيل , عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي سابقاً , يشرح فيه الموقف من قرار التقسيم ويدعو الحزب إلى الاعتراف بالتقسيم. اعتبر فهد أن التقرير لم يأت بجديد ورفض من حيث المبدأ الاعتراف بالتقسيم وكان يدعو إلى دولة فلسطينية علمانية تضم العرب واليهود والمسيحيين على حد سواء. ولكنه في المحصلة النهائية ترك الأمر لقيادة الحزب وبالتنسيق مع الأحزاب الشيوعية في الدول العربية. ثم أعترف الحزب بالتقسيم في ضوء اعتراف الاتحاد السوفييتي وليس اجتهاداً منه. هذا من حيث الموقف التاريخي للحزب الشيوعي العراقي , والنص الذي أورده الأخ المحامي السيد سالم عبيد النعمان في كتابه الموجود في مكتبتي صحيح , ولكنه ناقص , إذ أن فهداً لم يقف في المحصلة النهائية ضد قرار التقسيم بل أيده قبيل استشهاده في العام 1949 , لأنه كان قرار الاتحاد السوفييتي وقرار قيادة الحزب في العراق. كان لا بد من هذا التوضيح لإبعاد الالتباس الذي حصل بشأن التقرير وموقف فهد.
أختلف مع تحليل السيد كيله في محاولته العودة في الموقف إزاء القضية الفلسطينية إلى البدايات الأولى لصدور قرار التقسيم في العام 1947 , إلى المربع الأول كما يقال في الصحافة أو نقطة الصفر , إلى طرح شعار القوى القومية والقوى الإسلامية السياسية الذي طرحته ولا تزال متمسكة به والذي يدعو إلى إزالة دولة إسرائيل وإعادة بناء الدولة الفلسطينية على كامل الأرض الفلسطينية قبل قرار التقسيم. إن الموقف الجديد لبعض القوى القومية اليسارية التي التقت اخيراً وكونت تكتلاً لهذا الغرض وينتسب إليه السيد كيله وقام بعض أعضاء هذا التكتل بجولة نقاش مع بعض القوى الماركسية والشيوعية في الدول العربية , والذي يلتقي من حيث الدعاية مع موقف حزب البعث السوري في إزالة "كيان العدو الصهيوني" من فلسطين , وليس من حيث موقف حزب البعث السوري الفعلي الذي يقبل بوجود غسرائيل ويسعى للتفاوض لتحرير الجولان , والذي سوف لن يثمر أكثر من غياب أجزاء أخرى من الأرض الفلسطينية الراهنة لصالح الدولة الإسرائيلية التي اتسعت باغتصاب أجزاء من فلسطين تفوق مساحة القسم الذي خصص لها في قرار التقسيم. وإذا كان شعار إزالة إسرائيل مناسباً للسيد سلامه كيله وقادراً على تحقيقه , فله كل الحق في حمله والعمل من أجله , ولكني سوف لن أحمله معه , بل سأعمل كمواطن عراقي وعربي لصالح القرار الذي يدعو إلى إقامة الدولة الوطنية الفلسطينية على الأرض التي كانت للدولة الفلسطينية المفروض إقامتها قبل حرب الأيام الستة في العام 1967 , وهو القرار الذي تتفق عليه أكثرية الفصائل الفلسطينية , بغض النظر عن اعترافنا أو عدم اعترافنا بـ "منظمة التحرير الفلسطينية" , وهو نفس الموقف الذي أتخذه وأيده الراحل ياسر عرفات والبرغوثي في سجنه. ولا أجد أي مسوغ لي للدخول بحوار مع السيد كيله لا يقود إلى ما يخدم الشعب الفلسطيني , كما أرى , بل يتسبب بالمزيد من الآلام والمآسي والضحايا لهذا الشعب. أتمنى أن لا يخلق موقف السيد كيله أوهاماً في الصف الفلسطيني بعد كل المعاناة التي عاشها هذا الشعب طيلة العقود الستة المنصرمة.
يبدو لي أن السيد كيله يقرأ مقالاتي ولكنه لا يرى إلا كلماته ولا يسمع إلا صوته. ففي مقالي الأول والثاني الذي بدأ النقاش حولهما أكدت بوضوح مجموعة من المسائل الأساسية التي لا أجد مبرراً إلى إعادة نشرها والتي يمكن العودة إليها ومنشورة في أكثر من موقع إلكتروني.
هذا هو الموقف العام الذي أؤيده , ومن حق الآخرين اتخاذ الموقف الذي يرونه مناسباً والذي أدرك منذ الآن العواقب الوخيمة التي سوف تترتب عنه وعليه إن واصلت هذه القوى طرح شعار إزالة دولة إسرائيل , كما يفعل محمود أحمدي نجاد عبر سياساته غير المسئولة ومعه بعض القوى القومية العربية اليمينية المتطرفة أيضاً التي سوف لن يحصد الشعب الفلسطيني من ورائها غير المرارة والخراب والكثير من الضحايا البشرية.
حين نختلف في الموقف الأساس , تبقى الأمور الأخرى تفاصيل لا معنى للنقاش حولها. فمن يدعو إلى إزالة إسرائيل وعدم الاعتراف بها سيعمل كل شيء من أجل إبقاء الجمرة مشتعلة , كما سيعمل من أجل استمرار نزيف الدم ليزيد من مشاعر الكراهية والحقد والموت ليصل , كما يعتقد , في يوم من الأيام إلى غايته في إعادة بناء الدولة الفلسطينية على أرض فلسطين التي كانت عليه قبل قرار التقسيم. وسيجد دون أدنى ريب في إسرائيل قوى سياسية مؤيدة لاستمرار هذا الصراع والمناوشات والحروب الصغيرة على شاكلة حرب لبنان وغزة لأنها مفيدة لها ولتصوراتها في ابتلاع كل ما تبقى من فلسطين , وهو النهج القومي الصهيوني العنصري المتطرف. حين يرتفع صوت التطرف الأعلى عند الطرفين , يغيب عندها العقل وصوت الاعتدال والحل المطروح من جانب مجلس الأمن الدولي ومشروع السلام العربي , ونبقى نناضل من اجل إعادة بناء ما تخربه كل حرب ونفقد في كل مرة المزيد من الأراضي والبشر. إنها مأساة شعب لا يراد له من بعض قواه وقوى أخرى في إسرائيل وإيران الراحة والاستقرار والسلام , ويجد في الطرف الثاني من يساند ذلك وسنبقى ندور في الحلقة المفرغة , في وقت يعتقد البعض بأن الحكومات العربية قادرة كلها على نجدتهم ومساعدتهم في تجاوز الصعاب. وهو أمر ليس فقط محفوف بالمخاطر , بل خادع بالأساس.
فرحت حماس وظهرت البسمة على وجوه قادتها أصحاب اللحى بحصولها على مليار دولار من المملكة السعودية لإعاد بناء ما خربته الحرب العدوانية الإسرائيلية على غزة , واطلاق الملك عبد الله آل سعود كلمة لا تحقق الشيء الكثير حين قال بأن مشروع السلام العربي الموضوع على الطاولة لا يمكن أن يستمر طويلاً. وماذا بعد؟ لا شيء. لم يكن ضرورياً هذا المليار لإعادة ما خربته الحرب الأخيرة , بل كان ضرورياً منحه لتوسيع البناء وتعزيز البنية التحتية ومواجهة عذابات أهل غزة بعد الانقلاب الذي نفذته حماس على السلطة الشرعية التي كانت تقودها. وحالما سمع خالد مشعل بالمليار دولار طالب بمنحها لحماس وليس للسلطة الحرامية , وكأنهم ليسوا بحرامية , أو أن يصرفها المانح مباشرة. وهذا الموقف يكشف عن الكثير من الأمور التي يعرفها كل متتبع لأوضاع فلسطين ومحنته مع قياداته.
كانت حماس تدرك تماماً بأن إسرائيل مستعدة لتوجيه ضربة قاسية وشرسة ضد قوى حماس والشعب في غزة , ولكنها مع ذلك أنهت اتفاق التهدئة بإصرار , وبهذا قدمت الذريعة التي كانت تنتظرها إسرائيل لتضعها أمام أنظار العالم لتبرر الحرب العدوانية التي خاضتها ضد أهل غزة. ولكن منظمة حماس كانت هي الأخر تريد هذه الحرب , كانت تريد هذا الموت الواسع , هذا الخراب المرعب , هذه الهجرة للسكان من منازلهم , هذا السيل من الدماء , لأنها تعبر ذلك الصيغة والوسيلة الوحيدة لإبقاء هيجان العواطف ومواصلة النزاع واستمرار حمام الدم من طرف واحد , في الطرف الفلسطيني. إن حماس تعتبر هذا الموت قدراً من إلهها ولكنه ليس ن إله الناس البسطاء في غزة وعموم فلسطين , إنها تريد الدم الذي ينزف دماً والذي يصرخ بهستيرية هل من مزيد. هذا ما تريده حماس , وهذا ما يريده العنصريون المتطرفون , ومنهم اقطاب الحكومة في إسرائيل على حد سواء. إن حماس , سواء أكانت تأتمر بأمر إيران وحزب الله في لبنان أم بأمر الأخوان المسلمين على الصعيد العالمي أم بأمرها في ما أقدمت عليه من مغامرة , فالحصيلة واحدة , تعددت الأسباب والموت واحد. وهذه المغامرة التي مارستها حماس ليست مقاومة , بل عمليات انتحارية لا يموت قادتها , وخاصة أولئك الذين يقبعون في دمشق , بل اختطف الموت 1200 إنسان من بنات وابناء الشعب الفلسطيني. لقد كانت حماس تدرك بأن ليس من وراء هذه الحرب ما يمكن أن يتحقق لصالح الشعب الفلسطيني , ولكن كانت تدرك أيضاً بأن هذه الحرب ستشق أكثر فأكثر وحدة الصف الوطني الفلسطيني ووحدة الصف العربي الرسمي والذي تجلى في قمة قطر ذات المعايير المزدوجة , وقمة شرم الشيخ , ثم القمة التي دعت إلى نسيان الخلافات. فهل ستنتهي حقاً هذه الخلافات بنداءات الملك عبد الله أل سعود والسيد عمرو موسى , في وقت نتابع وجود قوى متربصة تريد استمرار الخلاف والنزاع العربي ولن ينفع المليار دولار والكلمات اللطيفة في حل مأساة الشعب الفلسطيني وابتلائه بمنظمة حماس المتطرفة وقوى أخرى غير إسلامية سياسية ولكنها واقعة تحت تأثير قرارات ومواقف حماس والإخوان المسلمين ومحمود أحمدي نجاد ومرشد الثورة الإسلامية في إيران وحسن نصر الله؟
لقد توقف العدوان الإسرائيلي وانسحبت القوات الإسرائيلية من غزة , ولكن ماذا بعد ذلك؟ ماذا حققت حماس للشعب الفلسطيني ولشعب غزة غير الموت والدمار بهذه المتاجرة الرخيصة بالشعارات؟ وهل سيساعد ذلك على دحر التطرف الإسرائيلي أم ستعتبر هذه القوى أن الحروب القصيرة والسريعة والكثيفة هي الأداة المناسبة لفرض الإذعان على القوى المتطرفة في فلسطين وعلى الشعب الفلسطيني كله؟ أليس من الغريب أن يرتفع صوت حماس وكأنها المنتصرة في هذه المعركة ذات الطرف الواحد؟ أليس غريباً أن يرتفع هذا الصوت البائس لخالد مشعل عبر الفضائية العربية ليعلن بلا حياء وبلا مسئولية انتصار حماس في الحرب ضد إسرائيل؟ إلا يستحي هذا المستبد القابع في سوريا حين يرى أمامه أكثر من 1200 شهيداً من بينهم 400 طفلاً , و5000 جريحاً ومعوقاً وخراب ودمار هائل وأوضاع نفسية مريرة ومعقدة في غزة ثم يصرح بأن حماس انتصرت في غزة ولأول مرة في تاريخ العرب؟ ألا يذكرنا هذا بإعلان المستبد بأمره الراحل صدام حسين عن انتصاراته الخارقة وهو في اسوأ حالات إنكساراته العسكرية وتدمير الشعب العراقي , سواء أكان ذلك في "أم المعارك" أم "أم الحواسم". عقلية المستبدين واحدة ومصيبة الناس بهم واحدة والعواقب مرعبة!
إن الوعي الديني المتطرف والمتخلف والسلفي المشوه لحماس , إضافة إلى معاييرها وممارساتها , هو الذي يقف على رأسه ويصعب أو يستحيل إعادته ليقف على قدميه. ولن تساهم سياساتها , رغم النداءات , في إعادة الوحدة معها لأنها لا تريد هذه الوحدة , بل تريد فرض إرادتها على الشعب الفلسطيني , فلها أجندتها السياسية التي لا تتوافق مع مصالح الشعب الفلسطيني بغض النظر عن التأييد الذي حققته في الانتخابات السابقة , بسبب خيبات الأمل من سياسات منظمة التحرير الفلسطينية وفساد أجهزتها والكثير من قادتها وسياسات إسرائيل العدوانية والمواقف الدولية غير العادلة إزاء الشعب الفلسطيني والمتحيزة كلية لصالح إسرائيل. إن حماس لا تريد المصالحة بل تريد الهيمنة , وستعمل كل ما في وسعها لتخريب التوجه صوب المصالحة مع قوى السلطة الوطنية.
إن هذه الحلقة المفرغة التي تدور بها القضية الفلسطينية والعلاقات العربية الإسرائيلية لن تكسر ما لم تتوقف إسرائيل عن سياساتها العدوانية وتقر مشروع السلام العربي , وما لم تنه احتلالها للأرض العربية التي وقعت منذ حرب العام 1967 , وما لم تنشأ الدولة الفلسطينية الوطنية على أرض فلسطين قبل حرب 1967 وحل بقية المشكلات بما فيها مشكلة لاجئي 1948 , وما لم تتوقف القوى المتطرفة عن مواصلة عملياتها التي تساهم في المزيد من التعقيد والموت والخراب. كما يجب على إسرائيل أن تنصاع لقرارات مجلس الأمن الدولي وأن تنهي احتلالها للجولان السوري ومزارع شبعة اللبنانية.
إن من واجب السلطة الفلسطينية والدول العربية العمل على رفع دعوى قضائية ضد الدولة الإسرائيلة وحكومة أولمرت بسبب المجزرة البشرية التي مارستها وارتكاب جرائم حرب واستخدام أسلحة تدين الشعوب استخامها , إضافة إلى التدمير الهائل لمساكن الناس الأبرياء وتشريدهم وتدمير بنايات ومؤسسات الخدمات الاجتماعية التي تسببت بها في غزة لدى محكمة لاهاي الدولية والمحكمة الدولية للجرائم التي ترتكب ضد حقوق الإنسان لمقاضاتها وإنزال العقوبات بها , كما لا بد للجمعية العامة للأمم المتحدة أن ترفع دعوى قضائية لدى الجهات الدولية القضائية ضد الحكومة الإسرائيلية بسبب ضرباتها الجوية لمؤسسات تعليمية تابعة للمنظمة الدولية وموت الكثير من الأطفال والناس الأبرياء بسببها.
ويبدو لي ضرورياً تقديم دعوى قضائية في فلسطين ضد حماس بسبب الانقلاب الذي قامت به في غزة وبسبب سياستها التي أنهت التهدئة دون العودة إلى السلطة الفلسطينية لاتخاذ قرار مشترك وقدمت بذلك الذريعة التي كانت تنتظرها إسرائيل واستخدمتها دولياً لممارسة ذلك الإرهاب الدولي ضد شعب غزة والتغطية عليه.
ربما سيكون في مقدور إدارة باراك أوباما الجديدة أن تقدم شيئاً جديداً لحل النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي والفلسطيني-العربي , خاصة وأنها بدأت بخطوات اعتبرت إيجابية في هذا الصدد. أملي أن يجد الشعب الفلسطيني في ذلك خطوة مقبولة للسير صوب حل هذا النزاع وفق القرارات الدولية ومبادرة السلام العربية. والموقف الذي يفترض أن تتخذه الإدارة الأمريكية الجديدة يتلخص بالتخلي عن الانحياز المطلق لإسرائيل , حقاً أم باطلاً , والذي لا يخدم مصالح الشعبين في فلسطين وإسرائيل من حيث الأساس , كما لا يخدم مصالح تعزيز الصداقة مع الشعب الأمريكي والأمن والسلام والتقدم في المنطقة , وهو مناهض للشرعة الدولية المتمثلة بالقرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي والتي ترفض إسرائيل تنفيذها بدعم مباشر من الولايات المتحدة الأمريكية.
هذه الحلقة هي الأخيرة والتي تنهي نقاشي المباشر مع السيد سلامة كيله ولن أعود إليه , بعد أن وضح كل منا موقفه بشأن القضايا التي استوجب النقاش حولها , ولكن النقاش ربما سيبقى مفتوحاً للآخرين , وهو شأن من يرغب بمواصلته. شكراً لمن ساهم بالتعليق , سواء أكان مع ملاحظاتي أم بالضد منها. وشكراً للأستاذ سلامة كيله على حفاظه على الأجواء الهادئة والأخوية في النقاش.
25/1/2009 كاظم حبيب