حاسة واحدة مع المالكي وأربعة حواس ضده
أخشى حقا أن تحاول الحكومة حساب من ربح ومن خسر بعد انفضاض تظاهرات الخامس والعشرين من شباط اعتمادا على لغة الأرقام المجردة, ثم تباشر لتأسيس استنتاجات على عدد المشاركين في المظاهرات, أو مقارنتها بمثيلاتها من أيام الغضب في الساحات العربية الأخرى, فذلك في ظني سوف يضلل الحكومة أكثر ويدفعها للاستلقاء في أحضان اطمئنان مزيف وكاذب.ليس خافيا أن العراق ليس بحاجة إلى مظاهرات لمعرفة بحر الفساد الذي يغرق فيه, كما وأن الأمر ليس بحاجة إلى حساب عدد المتظاهرين لمعرفة من سينتصر في النهاية, لأن ما يجري حاليا في العراق لا يتناقض مع علم السياسة وحده, وإنما أيضا مع علم الطبيعة, الذي يفترض حدودا معقولة لأشكال الحياة والنشاطات مثلما يفترض إلتزام الحكومة بالحد الأدنى المطلوب من القيم والشروط الإخلاقية المطلوبة لبناء الدول وبقاء الأنظمة.
ثمة من يريد أن يعبث بعقولنا وهو يحاول أن يقنعنا بأن هناك من يتصيد في الماء العكر, لكن أليس من حقنا أولا أن نتعرف على من الذي عكّر الماء قبل أن نتعرف على من سيتصيد فيه, ألا يوجب ذلك على النظام الحالي أن يزيح عكرة الماء الذي تسبب بها لحتى تكون له قدرة أو حق منع الآخرين من التصيد إلا بالماء الصافي, وكيف يصدق الناس بخطاب النظام وقد تأكد لها على المكشوف أن هذا النظام قد أحدث تخريبا وتفليشا ليس له حدود وما توقف على جزيئة إلا وزادها تخريبا.
وسيكون جاهلا وأميا وحتى غبيا من يتصور أن الفئات السياسية المعادية للنظام سوف لن تحاول استثمار سوء الأوضاع السياسية أو الخدمية من أجل خدمة معاركها البينية مع النظام السياسي القائم مشيا على القاعدة التي تقول إن من من يملك الدبابة يملك الميكرفون, وهي قاعدة لا شك أن عالم التويتر والفيسبوك قد أسقطها نهائيا.
كما أن من الجهالة أيضا أن تتصور الحكومة أن الشعب صار نهائيا من حصتها, وأن لا حق هناك لمن ينافسها عليه, وإن على هذا الشعب أن لا يخرج ليتظاهر ضد الفساد لأن ذلك برأي الحكومة سيخدم البعثيين, وهي تهمة لو تأكدت فإن النظام الحالي سوف يكون مسئولا عنها بشكل كامل, فالبعثيين ليسوا بحاجة إلى متظاهرين لكي يخدموهم أو يزعزعوا بهم أمن النظام بل أن الحكومة كانت تخدمهم يوميا من خلال ممارساتهاالبغيضة والمتعفنة التي لم تتردد في تشريع الفساد بقوانين وتعميم الجهل والتخريف الديني البعيد عن القيم الإسلامية الحقيقة ومن خلال فشلها الحقيقي في إعادة الأمن بعد أن تبين أن منظومتها الأمنية مخترقة تماما وأن الفساد ينتشر وفق مقولة إذا كان رب البيت بالدف ناقرا, وهذا الفساد كان على مستويات عدة عبارة عن إفساد متعمد تساهم به أحزاب النظام لرشوة مناصريها وكوادرها ولشراء الضمائر, ولا نريد أن نتحدث عن أوجه الفساد المتنوعة ولا عن تردي الخدمات الذي جاوز حتى اللامعقول لكي نكتشف أن النظام لا غيره هو الذي يقدم الخدمات الجليلة لأعدائه ومنهم البعثيين ذاتهم, وأن هذا النظام لا يحتاج إلى أعداء على شاكلتهم لكي يسقط, إذ أنه كان قد ولد ساقطا, وهو الذي لا زال يحفر قبره بيديه دونما مساعدة لدفان.
إن من المفترض أن يكون السياسيين العراقيين أقدر من غيرهم على تفهم حقيقة أن تكرار نفس الموضوعة يسبب مللا منها. ولعل مقارنة العراق بالكثير من مجاوريه ستكشف أنه كان أكثرها انقلابات وثورات وردات بحيث أن السياسي لا يحتاج إلى قراءة كتاب لكي يعرف أن طرقا كهذه هي طرق مستهلكة وإن ترديدها يصنف في خانة العيب لإنه يصدر أما من عقل ساذج أو من عقل متشاطر واستغفالي كان أهمل الاستفادة من دروس الماضي القريب.
وليس غريبا أن تؤدي أساليب كهذه إلى عكس ما يراد منها تماما, ففي العهد الملكي ارتكب القياديون خطأ كبيرا حينما راحوا يتهمون كل من يناهضهم بتهم الشيوعية, وهكذا وجد الكثيرون أنفسهم شيوعيين على الرغم منهم, واستفاد الشيوعيون كثيرا من هذا الأسلوب السعيدي لأنهم أصبحوا بقرار حكومي ممثلين للحركة الوطنية, حتى إذا ما تم إسقاط النظام الملكي فإن اكتساح الشارع السياسي الجماهيري من قبل الشيوعيين لم يكن بعيدا عن تأثيرات ذلك الأسلوب البائس.
لكن الشيوعيين سيرتكبون نفس الخطأ فيما بعد حينما راحوا يرددون شعاراتهم المعادية للبعثيين فقدموا لهم نفس الخدمة التي كان قدمها لهم العهد الملكي حينما أصبحوا, هم لا غيرهم, جهازا إعلاميا للبعثيين, فراح كثير من أولئك الذين اختلفوا مع الشيوعيين ينضمون لحزب البعث بتأثير من الإعلام الشيوعي وليس بتأثير من الإعلام البعثي.
إن الانتصار على الآخرين يتم فقط, وفقط, وفقط من خلال تقديم البديل الإيجابي, أما الشتيمة فهي سلاح الشاتمين الجهلة وليس السياسيين العقلاء, وفي غياب البديل الإيجابي فإن تكرار الشتيمة سيفيد المشتوم وليس الشاتم.
وبقليل من العقل سنتعرف على حقيقة أن الأكثرية من جيل الشباب الحالي كانوا أطفالا, أو أنهم لم يكونوا قد بلغوا سن الشباب بعد حينما كان صدام حسين لا يزال حاكما. معنى ذلك إن ظلم صدام لم يكن قد نالهم بدرجات تكفي لتذكيرهم به كطاغية مثلما يتذكره من هو كان أكبر منهم سنا. ومعنى ذلك أيضا إن قراءتهم وسماعهم عن جرائم صدام لا تكفي لجعلهم يغضون النظر عن فساد وجاهلية وتخلف وظلم العهد الحالي, وحتى أنها قد تنسيهم وطأة تلك الجرائم, أو قد تجعلهم على استعداد لتجاوزها تشفيا من ظالمهم الملموس والمحسوس والمرئي .
إن إعلام المالكي يخاطب حاسة واحدة من حواس الشباب وهي حاسة السمع وحتى بهذا فهو إعلام مليء بالمغالطات والأكاذيب, أما الحواس الأربعة المتبقية فهي ليست في خدمة هذا الإعلام, بل إنها جميعا باتت تشتغل ضده, وسيجعلها المالكي تشتغل في خدمة البعثيين لو أنه استمر في ترديد نفس المعزوفة ضدهم ولم يبادر ويسرع بتقديم بديل إيجابي مقنع لجيل بات يسمع عن آثام صدام ولكنه الآن يرى, ويلمس, ويشم, ويذوق آثام هذا العهد ولا يوجب عليه المالكي وإعلامه أن يهادن عدوا مرئي وشاخص لصالح عدو يسمع عنه.
سابقا كنا نردد إن بوش , إبنا وأب, وبينهما كلينتون, يجب أن يشعروا بفضل صدام عليهم لأنه هيأ لهم كثيرا من أسباب ضرب العراق وحصاره واحتلاله, واليوم فإن المعادلة ذاتها بدأت تتكرر ولكن مع تبديل الأسماء, إذ سيكون واجبا على البعثيين أن يقدموا الشكر الجزيل للمالكي لو إنه استمر بإتهام كل انتفاضة ضد الفساد بأنها تتم بتوجيه منهم.