حَذاري من غضب الحليم
هنالك شريحة من البشر تشمل نوعان من الرجال، يتصف الأول بروح إستعلائية متعصبة وحقد متأصل تجاه من لا يتفق مع أرائه ويتقاطع مع مبادئه، ويختزن في أعماقه رغبة جامحة لفرض أفكاره وأجندته على الأخرين بكل السبل المتاحة أمامه للوصول إلى غايته بغض النظرعن شرعيتها ومصداقيتها والتصدع التي تولده بين قومه، وأحياناً يميل إلى محاكاة مشاعره وعقله الباطن بأنه يسيرعلى درب الصواب وأن خصومه على وهم وضلال، فعليهم تصحيح مسارهم والجري وراءه على الطريق الذي رسمه كونه متعطش للقيادة والشهرة والمال.ولتحقيق ما في مخيلته من أحلام، وفي أعماقه من طموحات فإنه يستخدم أساليب ماكرة لتبريرأفعاله ويرفع شعارات تناقض ما بداخله ويوحَى إليه أن الكل يصدقونه ولا يدري بأن لعبته أصبحت مكشوفة، وحالته على أرض الواقع كمن يبنى قصراً على رمال في صحراء نائية متوهماً بأنه يسكن في قصرعلى قمة رابية مرتفعة وكل من حوله أدنى منه مرتبة، وهم سعداء بخدمته وفخورين بتقديم الطاعة والولاء لزعامته، أو يتخيل نفسه كقائد تاريخي أمام منصة خطابية والجماهير ملتفة حوله ترفع صوره وتهتف بإسمه، أو كرئيس دولة إختاره الشعب بإنتخابات ديمقراطية حرة، فيزاول حقه الدستوري في إصدار الأوامر والتعليمات ومكافئة المقربين منه.
هذا الصنف من الرجال مغترب عن ذاته متباهي بشخصيته، لا يحترم المقابل ولا يٌقًرب أحد منه إلا لخدمته، يضحي بأي زميل أو صديق ورفيق من أجل مصلحته حتى لو كان من أبناء عمومته، وكلما شعر بأن غريمه طيب القلب، متسامح مع هفواته، ولا يقابل إساءته بالمثل لأنه مؤمن بأقوال سيدنا يسوع المسيح " أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم وصلوا من أجل الذين يسيؤون إليكم " يزداد تمادياً في كبريائه وتتصاعد نظرته المتغطرسة لخصومه فيتجاوزعلى صلاحيات أصحاب الشان ويحاول الإستحواذ على مواقعهم وإزاحتهم عن مراكزهم الرسمية أوالدينية التي ليست هبة لهم من أحد، ويتصرف بالنيابة عنهم في إتخاذ قرارات من صميم مسؤولياتهم، وبأساليب غير نزيهة ظناً منه أن تسامح ووسع صدرالمقابل نابع من قلة إيمانه بقضيته وعدم شرعية مواقفه وغياب المساندة الشعبية له.
البعض يتناسى بأن سلطة غبطة الكاردنال عمانؤيل دلي الثالث، المسالم بشخصيته، المتواضع بمكانته، والحكيم بنظرته الثاقبة للظروف المحيطة بأبنائه والحريص دوماً على أمن وسلامة شعبه، هي التي تحدد مسؤولياته وتفرض عليه واجبات وإلتزامات أدبية ودينية وتاريخية وإجتماعية، لأن شعار هذا الشيخ الوقورالمؤمن بالوطنية والمثل الإنسانية هو: إزرع المحبة والتسامح والخير، تجني الود والسلام وتقديرالغير، كونه يحترم أي إنسان بغض النظرعن إنتمائه وجنسه ودينه ومذهبه وقوميته، وليس من منطلق الضعف وعدم إدراكه لمركزه ومستوى من حوله، إضافة إلى أن الأوضاع الإستثنائية المعقدة تفرض عليه إتباع دبلوماسية تختلف عن سياسة من سبقه من البطاركة الاجلاء كمثلث الرحمات مار بولص الثاني شيخو ومار يوسف عمانوئيل الثاني توما و..... ، في ظروف توفرت فيها سلطة وقانون وإستقرار أمني إلى حد كبير.
أما الصنف الثاني فيحمل نفس الصفات وبذهنه ذات الطموحات، غير انه يتميز بقليل من الواقعية والمراجعة الذاتية لمواقفه بين فترة وأخرى، والإستفادة من التجارب المبنية على التحليلات المنطقية حينما تستجد أمامه أحداث خطيرة وتواجه الأمة تحديات مصيرية في أن تكون أو لا تكون، مما يتطلب إتخاذ قرارات توافقية للوصول إلى برالأمان، فيتراجع عن بعض مواقفه المتزمتة ويحيد بمسيرته لينسجم مع من حوله في تحديد الهدف المشترك، فيستعيد مكانته بين أبناء شعبه ويذكره التاريخ بفخر ويطرز إسمه على صفحاته.
وما عسانا أن نقول للصنف الاول من الرجال في هذا الزمن الاغبر، زمن التزوير المباح والتباهي بالنفاق والكذب العلني دون وجل من عتاب أو خجل من عقاب، حين أتذكر كيف إنتشر في كافة أنحاء بغداد قبل سنوات خبر تزوير توقيع سيدنا البطريرك في أحدى الزوايا الحزبية المظلمة لاحد الأحزاب، لترشيح إحدى الشخصيات المسيحية من أجل تسنم حقيبة وزارية، وكيف تم كشف تلك اللعبة المخجلة من قبل رئاسة الوزراء، بيد أن سيدنا البطريرك ذو القلب الطيب، فضل عدم إثارة الموضوع والتكتم على الامر لتفادي فضيحة سياسية وأخلاقية كانت ستظل عالقة في ذاكرة تاريخنا، وإنعكاساتها السلبية تبقى تخدش سمعة شعبنا المسيحي طويلاً.
نحن نؤمن أن رسالة كنيستنا الكاثوليكية هي إشعال الشموع في دروب البشرية الوعرة وممرات الحياة المظلمة، وإنارة عقول الضالين ليروا مجد الله، وقد قًدمتْ تضحيات وأعطت شهداء وتحملت الإضطهاد والتنكيل والتخريب منذ قرون دون ضعف إرادة أو تراجع إيمان، وفي مسيرتها خلال العقود المنصرمة وبحكمة سياستها، أثبتت مكانتها وحافظت على كيانها وسلامة أبنائها بالرغم من خطورة بعض المنعطفات التاريخية التي إجتازتها. وقد كرّس سيدنا نفسه لهذه الخدمة على درب من سبقوه من البطاركة الأجلاء، يعاضده في مهامه غبطة المطران شليمون وردوني وبقية المطارنة الكرام والأباء الافاضل، ويشاركهم في حمل هذه الرسالة السماوية الجسيمة كافة رؤوساء ورجال الكنائس الموقرين لبقية الطوائف الاخرى.
لذا يجب أن لا يغيب عن أذهان بعض المغرورين والمخدوعين أن القائد الحكيم يبدو في معظم أوقاته هادئاً متواضعاً منشغلاً، ولكنه ينتفض ضد من يستفز كرامته ويتجاوز حدوده وعندما يجد الخطر يدنو من أبنائه ويهدد مستقبل شعبه.
26/1/2012