Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

خطاب العمائم

NAZARHAIDAR@HOTMAIL.COM
مع ولادة هلال شهر محرم الحرام من كل عام، يشخص (المنبر الحسيني) كواحد من اقدس الادوات التي تحمل رسالة خالدة على مر العصور، منذ ان ارتقى الامام علي بن الحسين زين العابدين السجاد عليه السلام اعواده في المسجد الجامع في مدينة دمشق عاصمة بلاد الشام، وذلك بعيد استشهاد ابيه الامام السبط الحسين بن علي عليهما السلام في كربلاء في العاشر من المحرم عام 61 للهجرة، وثلة من اهل بيته واصحابه الكرام الميامين على يد جيش البغي الذي حشد له بنو امية وخليفتهم آنئذ الطاغية يزيد بن معاوية، المشهور بالفسق والفجور والانحراف الخلقي والشذوذ بكل اشكاله، في محاولة منهم للقضاء على الدين وائمته.

ولقد ظل (المنبر الحسيني) محافظا على اصالته واستقلاله واستقامته على مر التاريخ، على الرغم من كل الظروف القاسية التي مرت عليه والتي حاولت شراءه لصالح الطغاة، تارة، او تحريف مسار نهجه لينتهي الى غايات غير سليمة، تارة اخرى، او قولبته في اطر حزبية ضيقة، او ما الى ذلك من المحاولات، الا ان انتماء المنبر الى الحسين السبط عليه السلام، والى رسالته الخالدة والمقدسة، حالت دون ذلك كله، فبقي هذا المنبر عصيا على الانحراف والتهميش والحزبية الضيقة وكل ما لا يمت الى الاسلام والى رسالة الحسين السبط بصلة.

ولقد ظلت ترتقي هذا المنبر عمائم في غاية النبل والانسانية، مملوءة علما ومعرفة واخلاقا وفنا، نجحت في ايصال الرسالة الى المتلقي على احسن وجه، فتربت تحت منابرها اجيال واجيال، فيهم العلماء وفيهم الفقهاء والمثقفين، وفيهم المجاهدين والشهداء والصديقين، كما ان فيهم من اولياء الله الصالحين الكثير جدا.

وفي الاثناء، فقد ارتقت المنبر في بعض الاحيان، وللاسف الشديد، عمائم فاسدة تجهل رسالة المنبر الحسيني ولا تعي ما تقول ولا تفهم من فن الخطابة والبيان شيئا، ولذلك فقد اساءت مثل هذه العمائم لقدسية (المنبر الحسيني) وقبل ذلك اساءت للحسين السبط عليه السلام، ولرسالته الخالدة وثورته الانسانية.

ولكم تمنى كثيرون ان يصار الى طريقة ما لمنع مثل هذه العمائم من ارتقاء المنبر الحسيني ليحافظ على القه ولا يفسده جهلها، الا ان كون المنبر حرا لا يمتلكه احد، فهو ليس شركة مساهمة مثلا، او حزبا معينا لا يرتقيه الا من ينتمي اليه من الحزبيين، لذلك اختلط احيانا الحابل بالنابل، فارتقته العمائم باشكال والوان مختلفة الاتجاهات والمستويات العلمية والفكرية والفنية، الخطابية.

ان مسؤولية الحفاظ على كرامة وقدسية ومنزلة المنبر الحسيني هي مسؤولية تضامنية، تقع بالدرجة الاولى على عاتق المتلقين (الناس) الذين يجب عليهم ان يميزوا بين الصالح والطالح من العمائم التي ترتقيه، فاذا علم الناس ان هذه العمامة او تلك ليست اهلا لارتقاء المنبر، فان عليهم ان لا يشجعوها على المواصلة والاستمرار، وذلك من خلال مقاطعتها وعدم الحضور عندها، والعكس هو الصحيح، فعندما يعرف الناس ان هذه العمامة او تلك اهلا لارتقاء المنبر فان من واجبها ان تواصل الحضور الفاعل والمتفاعل، وتشجع الاخرين على الحضور والتواصل معها.

كما تقع بعض المسؤولية على اصحاب المواكب والمجالس، من خلال حسن اختيار العمامة، فلا يسمحوا لمن هب ودب ان يرتقي منبر الحسين السبط، بحجة (ليس بالامكان افضل مما كان) او من باب (ملء الفراغ) فذلك ضرره اكثر من نفعه.

ان بعض الناس، وللاسف الشديد، يحضرون المنبر على اية حال، بغض النظر عن نوعية العمامة التي ترتقيه ومدى حجم مستواها العلمي، وكانهم بذلك يمارسون قاعدة (اسقاط الواجب) في الحضور ليس الا، من دون ان يتعاملوا مع عملية الحضور كمسؤولية شرعية واخلاقية، او على الاقل لاحترام العقل والادراك والفهم، ولهذا السبب نلاحظ ان جل الاعداد الغفيرة التي تحضر المجالس الحسينية تقضي وقتها خارج المجلس، فبينما يتحدث الخطيب على المنبر، اذا بهم يقضون الوقت بالسمر واللهو واحاديث اللغو والغيبة والنميمة والبهتان، وغير ذلك.

صحيح ان حضور المجالس، على اية حال، عمل فيه الكثير من الثواب، وهو احياء لشعيرة من شعائر الله تعالى امرنا يتعظيمها، فهي من تقوى القلوب حسب قول الله تعالى في محكم كتابه الكريم {ومن يعظم شعائر الله فانها من تقوى القلوب} الا ان الثواب الاكبر والشعيرة الاعظم، هو ان نستفيد من المنبر ولا نساهم في تحويله الى ملتقى للعاطلين والبطالين الذين يحضرونه لقضاء الوقت وحديث اللهو.

ان تعظيم شعائر الله لا يتم بحضور الجسد دون العقل والفكر، وان التقوى لا ينتجها التعظيم الاجوف الفارغ من العقل والفهم والوعي، فالحضور الذي لا يرتب اثرا على ما يسمعه المتلقي من العمامة، لهو حضور لهو ولعب نهانا الله تعالى عنه.

يجب ان ينتبه المتلقي الى دوره في تطوير المنبر الحسيني، وتحسين اداء العمامة، فالملاحظ ان هناك تناسبا طرديا بين عقل المتلقي ووعيه مع عقل ووعي العمامة، فالمتلقي العاقل والواعي يحضر مجالس العمائم العاقلة والواعية، والعكس هو الصحيح، اليس كذلك؟.

صحيح ان للعمامة قدسيتها ومنزلتها في مجتمعاتنا، ولكن هذه القدسية يجب ان لا تكون على حساب عقولنا وقدسية المنبر الحسيني، فالملاك يجب ان لا يكون بالعمامة، وانما بما تحت العمامة، من عقل وفكر ووعي واخلاق والتزام، والا، كم من عمامة تحملها لحية طويلة عشعش وبيض وفرخ فيها الشيطان؟ من تلك العمائم التي لا تعرف من الدين الا فتاوى التكفير والقتل والذبح والتدمير؟ وكم من عمامة ليس تحتها الا الجهل والتخلف والشعوذة؟ وكم من عمامة تخفي تحتها الفساد والغش والتزوير واللصوصية؟.

انني اعتقد بان المنبر الحسيني بحاجة اليوم الى الكثير من اجل ان يعيد رونقه واصالته، ومن اجل ان تعيد العمامة التي ترتقيه موقعها الريادي في المجتمع، ليس الاسلامي فقط وانما في المجتمع بشكل عام، خاصة في بلاد الغرب وبلدان المهجر، فالمنبر اليوم، كاداة ووسيلة، يواجه تحديات عظيمة، كما ان العمامة هي الاخرى تواجه تحديات عظيمة، ففي ظل العولمة ونظام القرية الصغيرة، يكون المتلقي اليوم امام خيارات عديدة، قد لا يكون المنبر والعمامة افضلها اذا ظلتا على حالهما من دون تطوير وترشيد.

وكمحاولة مني للمساهمة في ترشيد المنبر الحسيني والعمامة، والمشاركة في تطوير دورهما وحضورهما، وددت ان ادلي بدلوي هنا من خلال النقاط التالية التي استقيتها من الواقع المعاش عبر متابعة دقيقة دامت عقودا طويلة لمسيرة المنبر والعمائم:

اولا: تطوير الادوات، وعلى راسها طريقة تعامل العمامة مع المتلقي، فبرايي فلقد ولى زمن التلقي فقط، اذ لم يعد الحضور يكتفي بالاستماع فقط والاصغاء الى العمامة، بل انه يريد ان يشارك في الحديث المطروح للنقاش، على الاقل من خلال طرح الاسئلة، فيا حبذا لو يخصص كل منبر وقتا معينا لتلقي اسئلة الحضور، ليترك المتلقي المجلس وقد تلقى اغلب الاجوبة على اغلب اسئلته.

ان كل متلقي يحضر المجلس، عادة ما تدور في ذهنه الكثير من الاسئلة وعلى مختلف الاصعدة، ولذلك فهو يتمنى ان يجد في المنبر الذي يحضره جوابا عليها او بعضها، الا ان حديث الخطيب لوحده قد لا يصب في مجرى الجواب الذي ينتظره المتلقي على اسئلته التي تدور في ذهنه، فاذا فتح باب الحوار والسؤال فقد يجد المتلقي الفرصة المناسبة لطرح تساؤلاته وتلقي الاجابة عليها.

ومن اجل فائدة اكبر، يلزم تنظيم الحوارات وطريقة طرح الاسئلة بحيث تصب جميعها في اطار مادة المحاضرة، حتى لا يتشعب الحديث فتضيع الفكرة ويضيع الوقت على الناس.

كذلك، يلزم العمامة ان تاخذ بافضل طرق الاتصال الحديثة، ان على صعيد طريقة تنظيم الخطاب، او على صعيد خلق حالة التواصل بين المتلقي ومادة الحديث، كطريقة طرح الاسئلة او اثارة الفضول عنده للبحث في الموضوع بعد انتهاء المجلس، او احالته الى بعض الكتب والمواقع التي تبحث في مادة الخطاب، وغير ذلك.

ثانيا: العمامة تقع عليها مسؤولية التعرف على نوعية المتلقين قبل ان تصعد المنبر، لتعرف كيف توجه حديثها في الاطار الذي يخدمهم فكريا وثقافيا ودينيا واخلاقيا واجتماعيا بشكل مباشر.

ان التعرف على المتلقين، والاطلاع على مستوى وعيهم وظروف حياتهم ومشاكلهم الاجتماعية والفكرية التي تحيط بهم، يساعد العمامة على تحديد العلاجات بشكل انسب، اما اذا ارتقت العمامة المنبر وهي لا تعرف مع من ستتحدث؟ والى من ستوجه حديثها؟ فان ذلك يخلق فجوة كبيرة بينها وبين المتلقين، ما يقلل من عزيمتهم في مواصلة الحضور، لان افضل مثل سينطبق على العمامة بمثل هذه الحالة القول المشهور (عرب وين طنبورة وين) في اشارة الى عدم تطابق حديث المنبر مع ما يدور في ذهن المتلقين.

يجب ان يلمس المتلقي تاثير المنبر على سلوكياته فورا، والا فما فائدة الحضور اذا كان المنبر لا يزيدنا شيئا جديدا ولا ينقص من معاناتنا شيئا يذكر، ولا يحل من مشاكلنا حتى واحدة منها؟ ولا يمكن الوصول الى مثل هذا التاثير اذا كان حديث العمامة في واد ومشاكل الناس في واد آخر؟.

ان دور العمامة للمتلقي كدور الطبيب للمريض، فكما ان المريض ينتظر ان يجد حلا لمشاكله الصحية عنما يراجع الطبيب، كذلك فان المتلقي ينتظر ان يجد اجوبة على اسئلته ومشاكله عندما يجلس تحت المنبر، والفرق الوحيد بين الطبيب والعمامة، هو ان الاول لا يحتاج الى ان يبحث عن مشاكل المريض، فالاخير يتطوع في سردها امامه ربما مكرها، اما العمامة فمضطرة الى ان تتقصى مشاكل المتلقين قبل ان تصعد المنبر، لانه لا احد، وللاسف الشديد، يتجرأ للحديث عن مشاكله الاجتماعية والثقافية والاخلاقية وربما الفقهية لأحد، فما بالك اذا كان خطيبا يرتقي المنبر؟.

وبالمجمل، فان المتلقين في جل المجالس، متنوعون وعلى مختلف الاصعدة، سواء بالعمر او بالجنس او بالثقافة او بالوعي او بالايمان، او ربما حتى بالانتماء الديني والمذهبي، ولذلك يلزم العمامة ان يكون مقياسها العام في الخطابة هو قول امير المؤمنين عليه السلام {احسن الكلام ما زانه حسن النظام وفهمه الخاص والعام}.

ثالثا: التحضير للمنبر على اكمل وجه، من دون ان تكتفي العمامة بالاعتماد على ذاكرتها، فان ذلك يزيد من ظاهرة التكرار والاجترار، ما يقلل من اهمية المنبر وقيمته، وربما يقلل من رواده.

ان بعض العمائم تبني خطابها على عدد الحضور، فاذا كان كبيرا استعدت لخطابها، والا ففي الذاكرة ما يكفي ويزيد، وهذا خطا كبير لا ينبغي للعمامة ان ترتكبه، وان عليها ان تتعامل مع المنبر كمسؤولية ازاء كل كلمة تتفوه بها على المنبر، وكذلك ازاء الوقت، وهو شئ مقدس، الذي تاخذه من المتلقين، فالساعة التي يقضيها الخطيب على المنبر تساوي مئة ساعة اذا كان عدد الحضور مئة نفر وهكذا، ولذلك فان على العمامة ان تحسب لكل ذلك حسابه، فعليها ان تستعد للموضوع ولا فرق في ذلك اكان الحضور بالملايين ام بالعشرات، فما يدريك فقد يستفيد واحد من العشرات ما لم يستفده الملايين، وقد يتاثر الواحد من العشرات ما يحثه على العمل وممارسة التغيير بما لا يؤثر على الملايين.

لقد نقل لي احد الاصدقاء عن المرحوم المقدس آية الله السيد رضا الشيرازي (قدس سره) قوله عندما ساله عن مدى استعداده وتحضيره في كل مرة ينوي ان يلقي فيه محاضرة او كلمة، وما اذا كان عدد الحضور يؤثر على نوعية هذا الاستعداد؟ فاجاب:

انني استعد لالقاء الحديث على اكمل وجه، بغض النظر عن عدد الحضور، لانني اخاطب الانسان من على المنبر، الانسان الذي اعارني عقله ووقته، ولذلك لا اقصر في الاستعداد له، ولو لم يكن في المجلس عددا من الحضور الذي يعتد به الخطيب، اوليس الله تعالى حاضرا يسمع كلامي ويشهد على ما اقول؟.

بهذا الوعي يجب ان تتعامل العمائم مع المنبر، بغض النظر عن عدد رواده، ولذلك ظلت كل منابر السيد الفقيد حية ونافعة، حتى بعد رحيله وغيابه المفاجئ عن الساحة، وعن ساحة الوغى، المنبر الحسيني.

على العكس من ذلك فان هناك بعض العمائم من لا تبذل ابسط جهد من اجل التحضير والاستعداد للمنبر، ولقد سمعت مرة احدها يقول، انني، وبفضل الامام الحسين عليه السلام، لا زلت اصعد المنبر مدة اربعين عاما من دون ان اقرا كتابا واحدا، فيما اعتبره الحضور معجزة فرفعوا اصواتهم بالصلاة على محمد وآل محمد.

انه التسطيح والضحك على الذقون واستغلال طيبة الناس، اليس كذلك؟.

انا اعتقد بان الاستعداد للمنبر فرصة للعمامة من اجل:

الف؛ التطوير وزيادة المعرفة وتوسيع الثقافات والمدارك، اولم يقل امير المؤمنين عليه السلام {منهومان لا يشبعان، طالب علم وطالب دنيا}؟.

باء؛ اعادة النظر في بعض المتبنيات وما يعتقده البعض انها ثوابت لا تمس.

جيم: ممارسة الرقابة الذاتية، واذا اقتضى الامر المحاسبة الذاتية.

ان على العمامة ان تفكر في مادة الحديث قبل ان ترتقي المنبر، لتستكشف الحسين عليه السلام وتبدع في الافكار وتجدد في المفاهيم، فلا تكن نقالة للحديث، مستنسخة للمجالس، فلقد ورد عن امير المؤمنين عليه السلام قوله {العلم علمان، مطبوع ومسموع، ولا ينفع المسموع اذا لم يكن المطبوع} .

لقد رايت بام عيني بعض العمائم (تدرخ) محاضرات سابقة لخطباء مشهورين ثم ترتقي المنبر لتسردها بالنص كما حفظتها، فتراها تستنسخ حتى (العطسة) والضحكة وطريقة الحمحمة.

من جانب آخر، فان بعض العمائم تتعامل مع الحضور وكانهم همج رعاع او جهلة واميون، او في احسن الفروض عوام لا يفقهون، ولذلك تتصور بان كل ما ستقوله على المنبر لهؤلاء هو شئ جديد بالنسبة لهم، فما الداعي للتحضير المسبق والاستعداد؟.

ان هذه الطريقة من التفكير تفقد المنبر زبائنه ورواده فليس الناس هكذا، اذ ان فيهم العلماء والمثقفين والواعين الشئ الكثير، ولو لم يكن فيهم من هؤلاء احد، افلا تطمح العمامة الى ان تستقطب هذه الانواع الى منابرها؟ ولذلك ينبغي على العمامة ان لا تستهين بالحضور ولا تستخف بعقولهم.

رابعا: ان من الامور التي لا تشجع الناس، خاصة الشباب في بلاد الغرب، على دوام الحضور في مجالس الكثير من العمائم، هو انها تسرد على المنبر ما تتذكره من روايات من دون الانتباه الى نوعية المتلقين.

فلا زال الكثير من العمائم تجتر الروايات الضعيفة وبعضها غير المعقولة فيما يخص تاريخ النهضة الحسينية وتفاصيلها، فاذا كانت مثل هذه الروايات مقبولة في القرن الماضي ولمتلقين في ازقة كربلاء والنجف مثلا، فانها بالتاكيد غير مقبولة اليوم، في عصر العلم والمدنية الحديثة وعصر الانترنيت، وزمن تعدد الثقافات وتنوع الاتجاهات والوعي وغير ذلك.

يجب ان تكون قاعدة العمائم على المنبر هو القول الماثور (ما كل ما يعرف يقال) فليس كل رواية او قصة يعرفها الخطيب عليه ان يسردها على المنبر، بل يلزمه ان يتمحص الزمان والمكان والمتلقين قبل ان يسرد رواياته، لياتي خطابه قويا وليس ضعيفا ينفر الناس، خاصة الشباب منهم.

ولقد نبه امير المؤمنين عليه السلام الى ذلك بقوله {لا تقل ما لا تعلم، بل لا تقل كل ما تعلم، فان الله فرض على جوارحك كلها فرائض يحتج بها عليك يوم القيامة} كما ورد عنه عليه السلام قوله {اعقلوا الخبر اذا سمعتموه عقل رعاية لا عقل رواية، فان رواة العلم كثير، ورعاته قليل}.

لقد فقدت الكثير من العمائم (زبائنها) بسبب انها لم تسع لتغيير وتطوير طريقة سردها للروايات، وهنا تستحضرني قصة ظريفة لخطيب ارتقى المنبر في الولايات المتحدة الاميركية وصادف ان الحضور كانوا من المسلمين السود (الزنوج) فقط، فاراد ان يشدهم الى الحسين السبط عليه السلام ونهضته المباركة، ففكر في ان يذكر لهم قصة جون مولى ابي ذر، ذلك العبد الاسود الذي استشهد بين يدي ابي عبد الله (ع) في يوم عاشوراء، فبادر الخطيب الى نقل قصته بالتفصيل الممل، كما يقول المثل، من دون الانتباه الى نوعية الحضور، فقال بان جون عليه السلام قال للحسين السبط عندما اراد ان يستاذنه للقتال بين يديه (ان ريحي لنتن وحسبي للئيم ولوني لاسود، فتنفس علي بالجنة ليطيب ريحي ويشرف حسبي ويبيض لوني).

في هذه الاثناء فوجئ صاحبنا الخطيب بتسلل الحضور الى خارج المجلس الواحد تلو الاخر، ليبقى وحده على المنبر من دون مستمعين.

ترك المنبر ونزل من عليه مهرولا ليلحق ببعضهم، مستفسرا عن سر خروجهم من المجلس، فاجابوه: وهل برايك ان السود (الزنوج) ريحهم نتنة؟ اذا كنت تعتقد بذلك، فما رايك بنا؟.

لتتذكر العمامة قبل ان ترتقي المنبر قول امير المؤمنين عليه السلام {الكلام في وثاقك ما لم تتكلم به، فاذا تكلمت به صرت في وثاقه، فاخزن لسانك كما تخزن ذهبك وورقك، فرب كلمة سلبت نعمة وجلبت نقمة}.

خامسا: ان مشكلة بعض العمائم هي انها تكتفي بالتحليل الغيبي لنهضة الامام الحسين السبط عليه السلام، وهذا خطا في خطا، ينبغي ان تنتبه له العمائم من اجل تحسين الاداء، فالحسين السبط ليس غيبا كله.

عليها ان تتناول النهضة الحسينية من جوانبها المختلفة، مثل؛

الف: الجانب العقلي والمنطقي الذي يعتمد القران الكريم، اوليس الحسين السبط هو القران الناطق، فاين القران من المنبر الحسيني؟.

للاسف الشديد فلقد اصبح القران الكريم اليوم هو الغائب الاكبر في مجالس الحسين عليه السلام، بسبب استغراقنا بالغيبيات وتفسير الاحلام التي نلجا اليها لتفسير وتحليل كل ما لا تستوعبه عقولنا وافهامنا، او للتعبئة العاطفية في اغلب الاحيان.

باء: الجانب التاريخي، شريطة ان لا يتوقف المنبر عند التاريخ، وانما يجب ان يستنطق التاريخ لواقع الحال ولقراءة المستقبل، لنستلهم منه الحلول الناجعة لمختلف مشاكلنا، اوليس التاريخ مرآة؟.

جيم: الجانب الاجتماعي، من خلال استنطاق البعد الاجتماعي للنهضة، خاصة ونحن نعرف جيدا بان احد اهم اسباب فاجعة عاشوراء هي الامراض الاجتماعية التي كان يعيشها المجتمع المسلم آنئذ، وما بات يعرف بـ (الظاهرة الكوفية) وان كان البعض يفهمها بشكل مقلوب للانتقاص من بعض المجتمعات المسلمة اليوم.

دال: الجانب الاخلاقي، سواء المشع منه والذي تمثل بمواقف اهل بيت النبوة والرسالة والاصحاب الميامين، خاصة الشباب منهم، وممن اختار الموقف الصحيح في الوقت الصحيح كالحر بن يزيد الرياحي وامثاله، او الجانب المظلم منه والذي مثلته مواقف المنافقين والجهلة والمنتفعين والوصوليين من قادة وعناصر جيش الطاغية يزيد بن معاوية، وعلى راسهم عمر بن سعد بن ابي وقاص.

هاء: الجانب السياسي، كون النهضة الحسينية استهدفت مقارعة الظلم واسقاط الطاغوت لاقامة السلطة العادلة التي امر الله تعالى ائمة الهدى للعمل من اجلها لنصرة المظلوم والاخذ على يد الظالم ولاحقاق الحقوق العامة منها والخاصة.

ان بعض العمائم لازالت تخشى الخوض في هذا الجانب خشية ان تتهم بالتدخل بالسياسة، وهل الحسين السبط الا السياسة؟.

ان من يتهرب من الحديث في هذا الجانب انما يتهرب من الحديث عن الاسلام وعن الحقائق التاريخية، ومثله كمثل صاحب المجلس الذي كان ياخذ على الخطيب وصفه لماساة الحسين عليه السلام بالثورة، وفي اليوم الثاني بالنهضة، وفي اليوم الثالث بالحركة، فلما استفسر الخطيب من صاحب المجلس عما يمكن ان ينعت به الحسين عليه السلام لارضائه؟ اجابه: قل ما شئت ولكن تجنب العبارات الحساسة، مثل الثورة والحركة والنهضة وما اشبه.

في الليلة التالية صعد الخطيب المنبر ليخبر المستمعين باكتشافه التاريخي الجديد قائلا لهم:

ايها الناس لقد اكتشفت تفسيرا جديدا لماساة الحسين عليه السلام وهو انه عليه السلام لم يقد نهضة في كربلاء وهو لم يواجه الحاكم الظالم المنحرف، كما انه لم يستشهد بالقتل وحز الراس، انما الذي حصل في كربلاء في يوم عاشوراء عام 61 للهجرة، هو ان الحسين عليه السلام صعقته الكهرباء في صحراء كربلاء فمات، انا لله وانا اليه راجعون.

على كل العمائم ان تتجنب هذه الطريقة من الحديث عن النهضة الحسينية، من خلال سبر اغوار الجانب السياسي منه، من دون خوف او وجل او تردد، ولتكن الاية الكريمة {الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون احدا الا الله وكفى بالله حسيبا} مثلهم الاعلى.

هاء: اخيرا وليس آخرا، الجانب الحضاري، فان لعاشوراء بعدا حضاريا عظيما يجب ان لا يغفل عنه المنبر الحسيني.

واقصد بالبعد الحضاري، تلك القيم الانسانية التي خلفتها النهضة الحسينية للبشرية على مر التاريخ، كالحرية والمساواة والعدل ومبدا تكافؤ الفرص والاحسان وغير ذلك، هذه القيم التي تهم الانسان كانسان بغض النظر عن دينه ومذهبه وتوجهه الفكري والسياسي.

الى متى يبقى الحسين عليه السلام اسير الفهم القاصر؟ والى متى يظل عليه السلام وكانه ملك للمسلمين او للشيعة او لفئة معينة من الناس؟ اوليس الحسين عليه السلام جسد الاسلام في نهضته؟ اوليس الاسلام للناس كافة؟ فلماذا لا نوسع من دائرة حديثنا عنه عليه السلام لتشمل الناس كافة؟.

انني على يقين لو ان الناس من غير المسلمين تعرفوا على الحسين عليه السلام وعلى مبادئه وقيمه وعوامل نهضته واسباب ثورته، لالتفوا حوله كما تلتف الفراشات حول مصدر النور، فالبشرية اليوم عطشى للقيم والمبادئ السامية التي ضحى من اجلها الحسين السبط عليه السلام، بعد ان انتشر الظلم والعدوان على الحقوق في كل بقعة من بقاع العالم، خاصة في العالم الغربي الذي يدعي المدنية والحضارة.

سادسا: يجب ان يظل المنبر الحسيني مدرسة الاخلاق والتربية والتعليم، ولا يكون كذلك الا اذا انتبهت العمامة الى هذه الجوانب لترسم الخطط اللازمة من اجل تحقيق ذلك، بعد ان تطلع على المشاكل الاخلاقية لرواد منبرها، لتتحدث عن المشكلة وتجد لها الحلول.

وقبل الخطط يجب ان تكون العمامة التي ترتقي المنبر انموذجا يحتذى في الاخلاق والتربية والتعليم، والا، قل لي بالله عليك، كيف يمكن لعمامة ان تحث المتلقين على طلب العلم وهي التي لم تواكب علوم العصر؟ ولم تتابع ثقافاته المتجددة؟ وكيف لها ان تحث الناس على الاخلاق الحسنة، وتعلمهم طرق التعامل الحسن بين الناس، مثلا، بين المرء وزوجه وبين الاباء وابناءهم وبين العائلة وجيرانها، اذا كانت فضائحها الاخلاقية قد أزكمت الانوف، او ان الناس قد سمعوا عن مشاكلها الاجتماعية وعلاقاتها الزوجية السيئة، وعلاقاتها العائلية المتردية مع ابنائها وبناتها؟ وكيف لها ان تقنع المتلقي بفلسفة التعدد والتنوع من اجل التعايش عبر التعارف الذي يبدا بالحوار، ومن خلال احترام الراي والراي الاخر، اذا كانت تضيق ذرعا بعمامة اخرى، ولا اقول اكثر من ذلك؟ بالتاكيد فان مثل هذه العمامة لا يمكنها ان تنجح في مهمتها ابدا، اذ ستفشل حتما في تزكية نفوس الناس وتطوير عقولهم وتوسيع مداركهم، وتحسين اداءهم الاجتماعي والاخلاقي، وصدق امير المؤمنين عليه السلام عندما قال {اوضع العلم ما وقف على اللسان، وارفعه ما ظهر في الجوارح والاركان} فالعمامة التي يظهر علمها في تعاملها وممارساتها اليومية مع الاخرين، هي التي تترك اثرا عندما تتحدث فوق المنبر، والعكس هو الصحيح، لان الاولى تتحدث من القلب، اما التي تناقض قولها عملها، فتتحدث بلسانها، ولقد قال رسول الله (ص) {ما خرج من القلب يدخل الى القلب، وما خرج من اللسان لا يصل الآذان}.

ان المتلقين بحاجة الى قدوة يتاثرون بها، والا فالمتحدثون كثيرون، والمدعون اكثر، اما المجسدون لاحاديثهم فقليلون.

لقد كتب امير المؤمنين عليه السلام في عهده لبعض عماله يقول لهم:

{امره بتقوى الله في سرائر امره وخفيات عمله، حيث لا شهيد غيره، ولا وكيل دونه، وامره الا يعمل بشئ من طاعة الله فيما ظهر فيخالف الى غيره فيما اسر، ومن لم يختلف سره وعلانيته، وفعله ومقالته، فقد ادى الامانة، واخلص العبادة} وفي قول آخر يقول عليه السلام {الايمان ان تؤثر الصدق حيث يضرك، على الكذب حيث ينفعك، والا يكون في حديثك فضل عن عملك، وان تتقي الله في حديث غيرك}.

ينقل اهالي النجف الاشرف الكرام قصة عن الامام السيد محسن الحكيم (قدس سره) مفادها انه، وبينما كان ذات يوم يسير في الشارع اذا به راى معمما وقف على قارعة الطريق ياكل من بائع متجول بعض الفول، فلما رآه المعمم ارتعدت فرائصه واحمر وجهه خجلا من الامام، اذ لم يكن في العادة في تلك الايام ان ياكل المعمم في وسط الشارع، فقد كان مثل هذا المنظر يعتبر مخافا للمروءة، فجاءه الامام بوقاره المعهود واقترب منه وقال له (هات عمامتنا وافعل ما شئت).

سابعا: ان على العمامة ان تتجنب اثارة ما يلي:

الف؛ الشكوك، خاصة عند الشباب، لان وقت المجلس محدودا قد لا يتسع لاثارة شك والرد عليه بشكل مفصل لدرجة الاقناع، خاصة وان مستوى الوعي والثقافة والادراك يختلف بين المتلقين.

باء؛ ضعف الايمان، اذا لم يعر الخطيب الاهتمام اللازم للروايات قبل ان يذكرها على المنبر.

جيم؛ الاستخفاف والاستهزاء، فالحديث العاطفي المجرد عن العقل والمنطق والفطرة، الحديث الذي لا يحاكي الروح والجسد والعقل معا، يثير عند الكثير من الناس الاستخفاف بالمنبر والاستهزاء بالعمامة، ولذلك يجب تجنبه من خلال الاهتمام بالحديث لياتي رصينا ورزينا، بعيدا عن الخرافات والاباطيل.

دال؛ التفرق والتمزق، سواء الديني الديني، او الاسلامي الاسلامي او الشيعي الشيعي او المرجعي المرجعي او المناطقي المناطقي او اي تفرق وتمزق آخر.

اما عندما يجري الحديث عن الارهاب الاموي الذي ارتكب ابشع جرائم الانسانية في عاشوراء عام 61 للهجرة، وكيف انه امتد الى اليوم ليمارس القتل والذبح بالاستناد الى فتاوى التكفير الاموية، التي يطلقها بين الفينة والاخرى فقهاء البلاط ووعاظ السلاطين، فيلزم العمامة ان تتجنب التعميم، وانما عليها ان تحدد هوية القتلة لتعزلهم عن الامة لتحاصرهم الاخيرة بعد ان تتبرا منهم ومن افعالهم الشنيعة.

هاء: الياس والقنوط، سواء من تغيير الذات او تغيير الواقع، فلقد قال امير المؤمنين عليه السلام {الفقيه كل الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يؤيسهم من روح الله، ولم يؤمنهم من مكر الله}.

ومن اجل ان يحقق المنبر الحسيني هذا الهدف فان على العمامة ان تتسلح بالمنطق والدليل والابتعاد عن السباب والشتيمة، وتجنب الانتقاص من رموز الاخرين والاستهزاء بعباداتهم.

والى المحطات الفضائية اقول، من منطلق الحرص على الاسلام وعلى رسالة الحسين السبط عليه السلام:

لا تبثوا على الهواء مباشرة كل المنابر، فليس كل ما يقال على كل المنابر هو لكل الناس، فقد يتحدث الخطيب الى ثلة من المؤمنين في مجلس محدد المعالم ومحدود الحضور، بطريقة ما لايصال الفكرة ولترشيد مفاهيمهم وحل مشاكلهم، قد لا يكون حديثه هذا مفيدا للملايين التي تتابع حديثه على الهواء مباشرة، ولذلك فعندما تريد فضائية ما ان تنقل منبرا على الهواء مباشرة، فان عليها ان تخبر الخطيب ليعرف ان حديثه عاما سيتابعه متلقون بمستويات مختلفة من الثقافة والايمان والثقة والاتجاهات، في كل العالم او ان تفلتر المنابر قبل ان تبثها مسجلة على الهواء.

واو؛ حرمة التحريض على العنف والتكفير والتكبر والاستهزاء بدين الاخرين ومعتقداتهم.

ثامنا: كما ينبغي للمنبر الحسيني ان يحث في كل مجلس على الاسس الاستراتيجية التالية، من اجل ان لا تتكرر عاشوراء فيقتل الحسين عليه السلام في كل يوم:

الف؛ القراءة والمتابعة، ليتعلم الناس ويوسعوا من مداركهم ويستوعبوا تطورات الزمن الحاضر، فلقد قال الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام {العالم بزمانه، لا تهجم عليه اللوابس}.

باء؛ التدبر والتفكر، ولنتذكر دائما صفة الصحابي الجليل ابو ذر الغفاري الذي قيل عنه (وكان اكثر عبادة ابا ذر التفكر).

حثوا الناس على ان يفكروا قبل ان يؤمنوا بما يسمعون او يقراون، ليتعلموا كيف يغربلوا الافكار ويفلتروا الثقافات قبل ان يسلموا بها او يعتقدون بها.

علموهم ان يسالوا ويناقشوا ويجادلوا ويبحثوا ليتاكدوا من وجود شئ ما قبل ان يثقوا بوجوده ويعتبرونه حقيقة مطلقة، فلا يقبلوا عن عمى ولا يؤمنوا عن جهل ولا يثقوا بلا يقين.

كذلك، علموهم حرية التفكير والتعبير عن الراي، فلا يخافوا اذا تحدثوا الى مسؤول، ولا يترددوا او ترتعد فرائصهم اذا سالوا عالما او خطيبا او زعيما.

علموهم الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، او ما يسمى اليوم بالنقد البناء ليساهموا في الاصلاح والتصحيح، وعلموهم الفرق بين الاصلاح والفتنة، حتى لا تخيفهم الانظمة البوليسية بمثل هذه المصطلحات.

جيم؛ العمل الصالح، بما يخدم الناس، ويطور المجتمع وياخذ بالبلد الى مصاف التقدم والازدهار، ففي الحديث الشريف عن رسول الله (ص) قوله {خير الناس من نفع الناس} ولا ينفع امرءا الناس الا بالعمل الصالح، الخال من الرياء والبطر والمنة والاذية.

دال؛ مواجهة الظلم والتمرد عليه، بدءا من العائلة، حتى لا يظلم اب ولا تظلم ام ولا يظلم طفل.

علموهم النقد والمحاسبة والمساءلة، فليحاسب الانسان نفسه مثلما يحاسب الاخرين، ولينقد نفسه مثلما ينقد الاخرين، علموهم الجراة والشجاعة في كل ذلك.

هاء: التعاون على البر والتقوى، ففي الاية الكريمة {وتعاونوا على البر والتقوى}.

واو: الابداع والانتاج، كل في موقعه، ومن كل حسب عمله، خاصة الانتاج على مستوى الافكار، فلقد قيل قديما (في البدء كانت الفكرة) وانما تقدم الغرب علينا لانه لم يتوقف لحظة عن انتاج الافكار، سواء تلك التي تساهم في تحسين الجانب المعنوي في المجتمع، كاحترام القانون مثلا، او التي تدخل في صميم المدنية وتطوير الجانب المادي، ولذلك تحول الغرب الى منتج في كل شئ، وتحولنا الى مستهلكين في كل شئ، حتى في الافكار والنظريات والازياء والاطباق وفي كل شئ.

زاء: اشاعة ثقافات مثل التعايش والحوار والمحبة والاخاء والراي والراي الاخر والوسطية واللاعنف، والتعدد والتنوع والمواطنة وروح المسؤولية والحقوق والواجبات.

علموهم التسامح الديني والثقافي والحزبي والاجتماعي، وكل انواع التسامح، ليقضوا على التعصب بكل اشكاله والتطرف بكل انواعه والطغيان بكل الوانه.

حذروا الشباب تحديدا من خدع الارهابيين، وحصنوهم من الاعيبهم، حتى لا ينخرطوا في جماعات العنف والارهاب والتكفير، التي تبني نهجها على اساس الكراهية والحقد والتكفير واستباحة الدم الحرام واحتكار الحقيقة.

تاسعا: ان الخطابة رسالة وفن، فاما الرسالة فلقد لخصها الامام السجاد عليه السلام عندما طلب من الطاغية يزيد ان يرتقي اعواد المنبر في مسجد الشام بقوله {أتاذن لي حتى اصعد هذه الاعواد فاتكلم بكلمات لله فيهن رضا ولهؤلاء الجلساء فيهن اجر وثواب؟} فرسالة المنبر هي؛

الف؛ رضا الله تعالى والى هذا المعنى يشير الحديث الشريف عن رسول الله (ص) {من استمع الى متحدث فقد عبده، فان كان المتحدث عن الله فقد عبد الله، وان كان المتحدث عن الشيطان فقد عبد الشيطان}.

باء؛ الاجر والثواب بمعناهما الاعم والاشمل، والذي يدخل في حياضه كل ما يمس مصالح الناس الدنيوية والاخروية، فاشاعة ثقافات كالحرية والاسقلال والعدل والاخوة والشورى والحوار والوحدة والحقوق والواجبات والمساواة والاحسان والتعاون على البر والتقوى والبناء والتنمية والتعليم والتفكر، وغيرها الكثير، تدخل في اطار مبدا الاجر والثواب، لان كل هذه الثقافات وامثالها تساهم في بناء مجتمع صالح وسوي ومتمدن وعادل، ما يحقق مصالح الناس على قاعدة {لا تظلمون ولا تظلمون}.

ان من اعظم الثواب يناله الخطيب عندما ياخذ بيد اعمى البصيرة الى جادة الصواب، وبيد سئ الخلق الى مكارم الاخلاق، وبيد الارهابي الى رحاب النمرقة الوسطى، وبيد المظلوم ليتلمس طريق النجاة من الظالم فياخذ حقوقه منه.

اما الفن، فالهدف منه التاثير على قناعات الناس، سواء بشكل مباشر من خلال الاقناع الفوري، او بشكل غير مباشر من خلال اثارة دفائن العقول وحثهم على البحث والتفكر لاعادة النظر فيما يعتقدون به، خاصة من رؤى يراها الخطيب انها غير صحيحة.

ومن الواضح جدا فان التاثير في قناعات الناس لا يتحقق اذا لم ياخذ المنبر بنظر الاعتبار ضرورة الارتقاء بفن الخطابة لينسجم مع التطور الحضاري الذي تمر به البشرية، الى جانب اهمية ان يتطور هذا الفن آخذا بنظر الاعتبار تطور ادراكات ومفاهيم الناس بشكل عام.

ان تكلس بعض العمائم على الطرق القديمة في الخطابة، هو السبب الحقيقي لفشلها في اداء رسالتها الحضارية، وذلك بسبب شعور المتلقي بانها لا زالت تمارس سياسة الفرض والاكراه في عملية الاقناع وتغيير المتبنيات، وهذا ما يرفضه جل الناس في القرن الواحد والعشرين.

عاشرا: الاهتمام بسلامة اللغة، لا فرق في ذلك ان كانت لغة الخطيب عربية او غير عربية، اذ ان عليه واجب التاكد من سلامة لغته لينجح في ايصال الرسالة، ولكنني هنا اخص بالذكر اللغة العربية.

ان من المخجل حقا ان استمع احيانا الى عمامة لا تجيد من قواعد اللغة العربية شيئا، فترفع وتنصب وتجر كيفما تشاء وانى شاءت، فيما اصغ احيانا الى عمائم لا تجيد ترتيب جملة مفيدة واحدة، فضلا عن ان بعضها يخطا في الاية ولا يجيد ذكر نص الرواية فيلجا الى قاعدة (ما معاناه).

ان سلامة اللغة لها وقع السحر في عقول الناس ووعيهم، فكلما كانت اللغة سليمة والبلاغة راقية كلما كان الخطيب اقرب الى النجاح والعكس هو الصحيح، فاذا كان الخطيب لا يجيد اللغة ويخطا في ذكر الايات ولم يشا ذكر رواية صحيحة بنصها، فانه، والحال هذه، ابعد ما يكون عن النجاح، فهو الى الفشل اقرب.

المتلقون ينتظرون من العمامة ان تعلمهم كل شئ عندما ترتقي منبر الحسين السبط عليه السلام، واللغة هي اظهر شيئ في حديث العمامة على المنبر، فهي الجزء الظاهر من جبل الثلج كما يقولون، فاذا كان بامكان العمامة ان تخفي جهلها وقلة وعيها، او بساطة ثقافتها، بطريقة بهلوانية ما، فانها لا تستطيع ان تخفي جهلها بقواعد اللغة العربية ابدا، ولذلك اتمنى على كل عمامة ترتقي المنبر ان تهتم بهذا الجانب، اذ ان من المفترض بها ان تكون قد درست اللغة العربية وتعلمت فنونها، قبل ان ترتقي المنبر.

حادي عشر: تسعى بعض العمائم الى استعراض عضلاتها فوق المنبر، من خلال الظهور بمظهر (الموسوعة) فتراها لا تمر على علم الا وتطرقت اليه، ولا حادثة الا وولجت فيها، ولا امر الا وتحدثت فيه، ولا راي الا وادلت به دلوها، وهذه، برايي، محاولة فاشلة، فليس المهم ان تظهر العمامة بهذه الصورة على المنبر، انما المهم ان تستوفي الموضوع حقه وتعطي المحاضرة ما تستحق من البحث والتحليل، اما ان تذكر شيئا عن كل شئ، فان ذلك يضيع عليها المطلب، كما يقول العلماء، كما انه يضيع على المتلقي الهدف من الحديث والجوهر في الموضوع.

ان التركيز في الموضوع وعدم التشعب به، يزيد من تركيز المتلقي للخطيب من جانب، ويعطي الموضوع حقه بالكامل من جانب آخر، ولذلك انصح ان لا تتورط العمامة بما ليس لها فيه سبق او معرفة، ولتتذكر قول امير المؤمنين عليه السلام {لا تخض في موضوع ليس لك فيه صنعة} وصدق الامام الحسين السبط الشهيد عليه السلام عندما قال {لا تتناول الا ما رايت نفسك له اهلا}.

ان التشعب والظهور بمظهر (الموسوعة) يساهم في اغلب الاحيان في عملية تسطيح العقول والاستخفاف بها، الامر الذي يجب ان يبتعد عنه الخطيب ولا يورط نفسه فيه، لان مثل ذلك يكون على حساب سمعته ورزانة مجلسه وعمق حديثه وبحثه.

كما ان الاستعجال في الخطابة وسرد الروايات وتقديم المعلومات على عجل وادخال بعضها ببعض، لا يساهم في ايصال المطلب، لان ذلك يضيع على المتلقي فرصة الاستيعاب وتنظيم المعلومات في ذهنه.

ثاني عشر: حذار من ان يتحول المنبر الحسيني الى دكان لارتزاق العمائم.

وليس المقصود بذلك ان لا ياخذ الخطيب اجرا على صعوده المنبر، فان ذلك من حقه الطبيعي، كفله له الشرع والعقل والمنطق والقانون، فحال الخطيب في ذلك كحال المعلم واستاذ الجامعة والصحفي والكاتب والشاعر والمؤلف، واي صاحب صنعة او رسالة اخرى، ولكن المقصود هو ان يشترط الخطيب مبلغا قبل ان يعتلي المنبر، فهذا هو الارتزاق بعينه.

ان للعمامة على منبرها مكافاتان، الاولى وهي الاهم، من الله تعالى ومن صاحب الرسالة المقدسة، واعني به الحسين السبط، والثانية من الناس من خلال صاحب العزاء او الموكب، ولذلك فان انتظار الخطيب ما سيجود به صاحب العزاء من مكافأة حق مشروع له ما يبرره، خاصة العمائم التي ليس لها مورد رزق غير المنبر الحسيني، وفي مواسمه المعروفة، تلك التي تصرف كل وقتها وجهدها من اجل ان تعطيه ما يستحقه من جهد مبذول وطاقة مطلوبة، اما ان يشترط (المكافأة) والتي ستتحول في هذه الحالة الى معاملة، فهذا ما لا ينبغي للخطيب ان يتورط فيه، لان مثل هذه المعاملة تفسد الرسالة كما يفسد الخل العسل، كما انها تلغي المكافأة المعنوية التي سوف لن تكون من نصيبه في هذه الحالة، لانه استلمها من الناس من دون ان ينتظر شيئا من الله تعالى.

انا استغرب من بعض العمائم التي تصر على تحديد المبلغ بلا مرونة، فتراها مستعدة لان تترك المنبر فارغا، خاصة في الحالات التي لم يسعف فيها الوقت اصحاب المجلس للبحث عن بدائل، وكانها تستغل الحرج لفرض المبلغ الذي تريده، او ان لا يكون في المكان مجلس، فاية رسالة تريد ان تبعثها مثل هذه العمامة في مثل هذا الموقف وفي مثل هذه الحالة؟.

ثالث عشر: علموا الناس الحسين الامام، الحسين القائد، الحسين المؤمن، الحسين الابن، الحسين الزوج، الحسين الاب، الحسين العالم، الحسين القائد العسكري الشجاع، الحسين المدرسة، الحسين المعلم، الحسين الانسان الذي بكى على اعدائه وهو ينظر اليهم يتورطون بدمه الطاهر فيساقون الى نار جهنم زمرا.

لا تكتفوا بتعريف الحسين القتيل والعطشان والسليب ومحزوز الراس.

لماذا يتعلم شبابنا نظريات ارسو وافلاطون، ولا يتعلمون شيئا عن نظريات الحسين السبط في الحياة الحرة الكريمة؟ لماذا يدرس اولادنا نظريات جان جاك روسو في العقد الاجتماعي، ولا يتعلمون شيئا عن نظريات الحسين في علوم الاجتماع والاخلاق والسياسة والتربية والفسلفة وغير ذلك من العلوم الانسانية العظيمة التي تركها لنا الحسين السبط واهل البيت عليهم السلام؟ لماذا يدرسون الثورة الفرنسية والثورة الاميركية، وثورات حصلت في كوبا والهند والصين، ولم يدرسوا ثورة كربلاء، بمعانيها الانسانية وقيمها الحضارية؟ لماذا يدرسون وثيقة اعلان حقوق الانسان الدولية، ولم يدرسوا رسالة الحقوق للامام علي بن الحسين السجاد عليه السلام؟ لماذا يتعلمون فلسفات الاغريق والاوربيين ولا يتعلمون فلسفة امير المؤمنين عليه السلام؟ لماذا يدرسون علوم الادارة الشرقية والغربية ولا يدرسون علوم الادارة عند امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام؟.

ان على المنبر الحسيني ان يهتم بالدراسات المقارنة بين كل ما يخص ثورة الحسين عليه السلام، وبمختلف جوانبها الحضارية، وبين ما شهدته الانسانية من تطور في المنهج والفكر، عبر ثوراتها المختلفة التي شهدتها مختلف دول وشعوب العالم، ليعرف الناس، بالمقارنة، مدى عمق المحتوى الانساني لهذه النهضة التاريخية العظيمة.

علموا نساءنا وبناتنا تحديدا زينب العالمة، زينب الفقيهة ، زينب المربية، زينب المراة المؤمنة الواثقة بدينها وحجابها، زينب الجبل من الصبر، زينب الجبل من البطولة والتحمل من دون تردد او خوف او وجل او شك في الحق، ولا تكتفوا بتعليمهن زينب المظلومة، وزينب البكاءة.

علموا شبابنا علي الاكبر الشاب المؤمن الواثق بدينه وامامه، والقاسم المضحي في زهرة شبابه من اجل ان يحيا الدين وتحيا الاخلاق، وعلموا صغارنا واطفالنا رقية الطفلة الصابرة، وعبد الله الرضيع الذي ضحى من اجل القيم، ومن اجل ان يحيى الانسان بكرامة.

رابع عشر: ان على العمائم ان ترتفع بالمتلقين الى مستوى المنبر، وليس العكس، فتهبط بالمنبر الى مستوى المتلقين.

لقد رايت بعض العمائم تداري الحاضرين على حساب الرسالة، وتداري صاحب المجلس والموكب على حساب قول الحقائق وشرحها للناس، وكأن مجرد صعود المنبر هو الهدف لمثل هذه العمائم، ابدا، اذ لا خير في منبر لا يقال من فوقه الحق، ولا خير في مجلس لا تقال فيه الحقائق التاريخية، ولا خير في منبر يخشى لومة لائم، ولا خير في مجلس تتقدم فيه عادات الناس وتقاليدهم وموروثاتهم البالية على حساب الحقائق والصحيح من السيرة النبوية والتاريخ الاسلامي.

ان المنبر فرصة ذهبية لتصحيح المفاهيم الخاطئة وكنس الموروثات البالية، والا فلو لم يؤد المنبر مثل هذه الرسالة، فسيمنح الشرعية لكل ما هو خطا من التاريخ والدين والسيرة.

يكون المنبر حجة على الناس اذا ارتقى بهم وبوعيهم وثقافاتهم والتزامهم الديني والاخلاقي، اما اذا هبط بهم فانه، والحال هذه، سوف لن يكون حجة ابدا، فالحجة على الناس تتحقق من خلال العلم والتعليم وليس من خلال التبرير والسكوت عن الخطا والمداراة على حساب الحق، ابدا، والى هذه الحقيقة يشير امير المؤمنين عليه السلام بقوله {ما اخذ الله على اهل الجهل ان يتعلموا حتى اخذ على اهل العلم ان يعلموا}.

خامس عشر: فسروا للناس، وتحديدا في بلاد الغرب، اهمية الدين في القرن الواحد والعشرين، وكذلك اهمية القران الكريم ونهج اهل البيت عليهم السلام، لتحصنوهم من ظاهرة الكفر والالحاد التي يقودها منافقون عليمو اللسان على حد وصف امير المؤمنين عليه السلام.

اشرحوا لهم ماذا يعني الرسول والامام في القرن الواحد والعشرين، وما ينفعنا تاريخ الرسل والانبياء والامم السالفة في القرن الواحد والعشرين، وماذا تنفعنا عاشوراء اليوم بعد مرور 14 قرنا عليها، وماذا تعني كربلاء اليوم بعد كل هذا التاريخ الذي مر عليها، وما الذي يميزها عن غيرها من احداث التاريخ وثوراته ونهضاته؟.

اقتحموا المحذور ومناطق الفراغ في التفكير لتصلوا الى عقول وقلوب الناس، خاصة الشباب منهم، من الذين تكتظ عقولهم بالكثير من الاسئلة المحرجة التي ربما يخافون من التصريح بها.

استنطقوا عيونهم وايماءاتهم لتستخرجوا منها مثل هذه الاسئلة الحرجة، لتجيبوا عليها بمنطق وحكمة وعلمية.

حاولوا ان تستفيدوا من مختلف المظاهر والظواهر الموجودة والشاخصة في بلد الاقامة لتقريب وجهات نظركم الى الناس، خاصة الشباب، فالمقارنة في احيان كثيرة تقرب المعنى وتشرح القصد كثيرا، خاصة بالنسبة الى من انبهر بالغرب ومدنيته، فهو يثق بدينه اذا راى من مظاهر الغرب ما يوائمه، وهو كثير جدا.

خامس عشر: واخيرا فان للمظهر الذي تظهر فيه العمامة امام الناس الاثر الكبير في التاثير عليهم، لان الناس ينظرون الى العمامة كرمز وقدوة في كل شئ، ولذلك فهم يتاثرون بمظهرها اشد التاثر.

ان على الخطيب ان يهتم بمظهره وهندامه بشكل دقيق، كما يهتم بمادة خطابه وطريقة حديثه، فليس خافيا مدى اهمية المظهر في عملية التواصل مع المتلقي والتاثير عليه.

لقد رايت خطباء يصعدون المنبر الحسيني باسوء حالاتهم، فالعمامة غير منتظمة لا بلفتها ولا على راسهم، والعباءة مرقعة والصاية قذرة، اما اللحية فحدث عنها ولا حرج، وبعد كل هذا ينتظر من المتلقي ان ينظر اليه ويصغ اليه ويستمر في حضور مجلسه.

قد يعتبر البعض مثل هذه المظاهر دليل على الزهد والتواضع، ابدا انه ليس كذلك، اولم يكن رسول الله زاهدا ومتواضعا؟ فلماذا يحدثنا التاريخ، اذن، عن مظهر رسول الله (ص) الذي يشد النفس والروح والعقل اليه؟ خاصة عندما يستعد للذهاب الى المسجد والصلاة في الناس والحديث اليهم؟ وكذا كان امير المؤمنين عليه السلام، فالزهد ليس في النظافة، وانما في ان لا يمتلكك شئ كما في القول الماثور.

لقد ذكرت لنا كتب التاريخ ان الحسين السبط عليه السلام كان في اجمل مظهر واروع قامة في يوم عاشوراء، وهو يعلم انه مقتول بعد قليل، لماذا؟ اولم يكن الامام زاهدا عابدا؟ ام انه نسي شيئا من قوانين الزهد في تلك اللحظة؟ ابدا، فلا هذا ولا ذاك، بل انه اراد ان يظل القدوة حتى آخر لحظة في حياته ا Opinions