دروس من الميلاد **
لا شك أن ميلاد السيد المسيح كان مناسبة فرح، فقد فرح الملائكة وأنشدوا نشيدهم الخالد: "المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر". ودعوا الرعاة أيضا للاشتراك معهم في الفرح، لأنه فرح لجميع الشعب. وما زال العالم يفرح، إنه فرح ببدء عهد جديد، تظهر فيه مباديء جديدة وقيم سامية عالية يقدمها السيد المسيح للعالم، وقد ظهرت في عظته الشهيرة على الجبل، وسائر عظاته وتعاليمه.. وما أودعه في قلوب تلاميذه من تعاليم.على أن ثمة دروسا عميقة نتعلمها من الميلاد، وما أحاط به من أحداث، وما نتعلمه أيضا من حياة السيد المسيح على الأرض.
عدم الاهتمام بالمظاهر
لقد وُلد، له المجد، في بلدة صغيرة، وفي مذود بسيط، وفي يوم لم يُعلن للناس الذين لا زالوا يختلفون في موعده.
وهو لم يولد باحتفالات أرضية كما يحدث لسائر الناس، إذ وُلد في أسرة فقيرة، وفي رعاية رجل بسيط، وقيل عن يوم ميلاده "لم يكن له موضع في البيت"، وُلد في يوم شديد البرد لم يجد فيه أقمطة كافية ولا دفئا، فقدم لنا درسا روحيا هو أننا بالابتعاد عن المظاهر الخارجية ندخل في مشاعر الميلاد.. بعيدا عن العظمة والترف. فالعظمة الحقيقية ليست بالمظاهر الخارجية التي فيها إعلان عن الذات.. إنما بالقلب المنتصر المملوء بالفضائل.
وعلينا بالتالي، إن أردنا أن يكون للميلاد فاعلية في حياتنا، أن نبحث عن مظاهر العظمة الخارجية التي نقع في شهوتها ونسعى إليها.. لكي نتجنبها.
الاتضاع
إن في ميلاد السيد المسيح درس بليغ في الاتضاع، وقصة الميلاد بدون اتضاع تفقد جوهرها.. سواءً في ظروف الميلاد التي أخلى فيها ذاته من كل مجد عالمي، أو في حياته الأرضية رغم ما حدث فيها من معجزات.
وعلينا، هنا أيضا، أن نبحث عن ماهية أعماق الاتضاع، وكيف تكون وكيف نحياها، وما هي الأمور التي تضاد الاتضاع في حياتنا لكي نتجنبها. لقد ترك لنا مثالا، حتى كما سلك هو.. نسلك نحن أيضا.
البساطة
لما بدأ رسالته، اختار السيد المسيح تلاميذ بسطاء، لكنهم كانوا أبرارا يمتلكون قلوبا مستعدة لتحمل الرسالة. كما أن بشارة الميلاد أعلنت لرعاة بسطاء.. لكنهم كانوا يمتلكون بساطة الإيمان وعمقه. والمجوس كانوا بسطاء القلب، لما سمعوا عن الميلاد صدقوا وآمنوا وفرحوا.. وذهبوا إلى المذود وقدموا هداياهم.
والقديسة العذراء كانت تمتلك هي الأخرى بساطة القلب، فآمنت بما قيل لها من قبل الرب عن طريق ملاكه، وصدّقت أنها ستلد وهي عذراء، فكانت لها هذه البركة، وكذلك يوسف النجار الذي آمن بأنها حبلى بحلول الروح القدس عليها.
ذلك أن أسرار الرب إنما تُعلن لقلوب بسيطة تفرح بها. أما الكبار، فلم تكن قلوبهم مستعدة ولا بسيطة، مثال ذلك هيرودس الملك، الذي لما سمع الخبر "اضطرب وكل أورشليم معه"، فاستخدم الفحص والاستقصاء.. والحيلة والدهاء في كيف يقتل المولود.
إن العالم المعاصر فيه الكثير من التعقيدات والمتطلبات الحياتية والتطور العلمي. والمؤمن يتفهم هذه التعقيدات ويتعامل مع المتطلبات ويؤمن بالعلم، لكنه في الأمور الخاصة بالله وتدبيره، ينبغي أن لا يفقد بساطة القلب، فالبساطة كنز عظيم، من الخسارة أن نضيعه.
والبساطة هي غير السذاجة، فمن الممكن أن نكون بسطاء وحكماء.
البساطة هي عدم التعقيد.. وليست عدم التعقل، وهي تتماشى مع حياة الإيمان، وبها نقبل ما يقوله لنا هذا الإيمان.
المحبة والسلام
ونحن نحتفل بالميلاد المجيد.. لا بد لنا، إلى جانب هذه الدروس، أن نتذكر التعاليم السامية التي نادى بها السيد المسيح، وفي مقدمتها المحبة والسلام.
جاء المسيح ينشر المحبة بين الناس، وبين الناس والله، ويقدم الله للناس إلها محبا، يعاملهم لا كعبيد بل كأبناء حرصا على محبته يعملون بوصاياه، لا خوفا من عقوبة بل حبا للخير.
وإلى جانب المحبة جاء المسيح أيضا ببشارة السلام: سلام بين الناس، وسلام بين الإنسان والله، وسلام في أعماق النفس من الداخل، سلام من الله يفوق كل عقل. وعلّم بأن الصلح أفضل من تقديم القرابين.
هذا بالضبط هو جل ما نحتاجه اليوم: عدم الاهتمام بالمظاهر، الاتضاع، البساطة، المحبة، وأخيرا.. السلام.
** (افتتاحية العدد الجديد، العدد 31 من مجلة الأفق).