دلالات اغتيال بنظير بوتو
بنظير بوتو (1953- 2007) اسم على مسمى، أي (لا نظير لها) لأنها تتفرد في كثير من الصفات الرائعة نادراً ما تجتمع في شخص واحد، ناهيك عن اجتماعها في إمرأة تنتمي إلى مجتمع ذكوري إسلامي شوفيني ينظر إلى المرأة نظرة دونية مزمنة كجزء من ثقافته الموروثة، مدعوما بالنصوص الدينية التي لا يجوز حتى مناقشتها لأنه (لا جدال في الدين)!! فبينظير إمرأة جميلة وذكية ومثقفة، تخرجت من أرقى جامعتين عريقتين في العالم وهما: أوكسفورد البريطانية، وهارفارد الأمريكية، وسياسية بارعة ذات كارزما نادرة، وتبنت أرقى المبادئ الإنسانية: الحداثة والديمقراطية والعلمانية وحبها لشعبها وللإنسانية، وتسنمت رئاسة الحكومة الباكستانية مرتين عن طريق صناديق الاقتراع، ما بين عامي 1988 و1990، وما بين عامي 1993و1996. وهي بذلك تشبه إلى حد ما الراحلة أنديرة غاندي، ابنة رئيس وزراء الهند الراحل جواهر لال نهرو، فكلتاهما انحدرتا من عائلة سياسية عريقة، فبينظير هي ابنة ذوالفقار علي بوتو، رئيس الوزراء الباكستاني الراحل الذي أعدمه الطاغية الجنرال ضياء الحق، وكلتاهما تعلمتا السياسة من أبيهما، وخطت على نهجه، وكلتاهما تسنمتا رئاسة الحكومة في بلديهما وأغتيلتا على أيدي المتطرفين.إن ذكر هذه الصفات الحميدة لبينظير بوتو، ليس من باب (اذكروا محاسن موتاكم)، فهي لا تخلو من بعض الأخطاء والتي كانت سبباً في نهايتها التراجيدية المؤلمة على الطريقة ذاتها التي ينتهي بها أبطال شكسبير، بل كونها امرأة نذرت نفسها لقضية شعبها وفي عمر مبكر من حياتها حتى صارت شخصية سياسية عالمية أشغلت الدنيا بنشاطها وذكائها في سبيل تطبيق الحداثة والعلمانية والديمقراطية في بلد يعتبر معملاً لتفريخ الأصوليين الإسلاميين في العالم. فمعظم الإرهابين في العالم ومنهم طالبان أفغانستان، هم خريجو مدارس باكستان الدينية. واسم باكستان هو من اختيار الآباء المؤسسين تسميته أي (الأرض الطاهرة) لأن شعبها مسلمون يعتبرون أنفسهم طاهرين وأرض بلادهم طاهرة لا يمسها إلا المطهرون، تمييزاً لهم عن بقية أبناء الشعب الهندي الذين أغلبهم من الهندوس والسيخ وديانات أخرى.
إن ممارسة السياسة في العالم الثالث، وخاصة في دولة إسلامية مثل باكستان، أشبه بدخول غابة مليئة بالضباع الضارية، وبدون وسائل حماية. فالسياسي في هذه الحالة يعتمد على خبرته في ترويض الضباع مثله كمثل بطل السيرك الذي يدخل قفص حديدي مع السباع التي روَّضها، ولا يعرف متى تنقلب عليه فتفترسه. فما بالك وهذا البطل امرأة مسلمة في بلد من تقاليد شعبه احتقار المرأة، تلك التقاليد المدعومة بالنصوص الدينية والتي منها قولهم الذي ينسبوه لنبي الإسلام (لعن الله قوما تحكمهم إمرأة)، ولهذا تم افتراس البطلة بنظير بوتو في لحظات وهي تقابل شعبها في حملة انتخابية تأمل من ورائها بناء نظام ديمقراطي وتخليص بلادها من حكم العسكر ومخاطر الفاشية الإسلامية، حيث كانت الأكثر حظاً لتبوأ منصب رئاسة الحكومة القادمة (لتحكمهم إمرأة).
ليس لديَّ أي شك أن القاتل هو من الإرهابيين الإسلاميين وذلك لأنه بعد إطلاق الرصاص على الضحية، فجر نفسه ليقتل المزيد من الأبرياء وليسرع هو بدخول الجنة التي وعده بها أولئك الذين قاموا بعملية غسل دماغه وبرمجوه بأيديولوجية الحقد على الحياة وحب الموت وقاموا بتحويله إلى عبوة ناسفة، ووضعوا في روعه أن الرسول ينتظره الآن على بوابة الجنة لحظة تنفيذ العملية، وما هي إلا أجزاء من ثانية، حتى ويكون في لقاء الرسول وسيتناول العشاء معه، ومن ثم سيتزوج بـ72 حورية وغير ذلك من النعيم الذي حرم منه في هذه الحياة، مع اختزال الخصم الضحية إلى حشرة ضارة لا تستحق الحياة. فأي إنسان يغامر بقتل نفسه وعشرات آخرين ما لم يكن مبرمجاً بأيديولوجية الإسلام السياسي المتطرف من صنع فقهاء الموت وأعداء الحياة؟ لذلك ومهما قيل عن الجهات المسؤولة عن اغتيال بينظير بوتو، فالجاني في رأيي بدون أي شك، هو من تنظيمات الإرهاب الإسلامي أقدم على الانتحار قتل الآخرين لمرضاة الله، وبذلك فهو من صنع الإسلام السياسي أي القاعدة وطالبان وأتباعهما ومهما تنكرت هذه الجهات. أما إذا كان للسلطات الباكستانية ضلع في الجريمة، فدورها ليس أكثر من اختراق أجهزتها الأمنية بالإرهابيين الإسلاميين، والسماح للقاتل بارتكاب الجريمة. وهذا ليس بالأمر الغريب، فالجنرال برويز مشرف نفسه ورئيس وزرائه السابق شوكت عزيز، تعرضا عدة مرات لمحاولات الاغتيال من قبل منتسبي القوات المسلحة.
دلالات الاغتيال
إن اغتيال بنظير بوتو يحمل دلالات عديدة جديرة بالذكر والاعتبار نوجزها كالتالي:
أولاً، إن نظام الفوضى هو الذي يتحكم بالعالم الثالث، ودليل على غياب العقل لأن هذه الشعوب مازالت تمر في مرحلة المراقة السياسية والفكرية، وأن الأمور تسير في هذه البلدان وفق الصراع بين القوى العمياء على السلطة والنفوذ، ففي المراحل المتخلفة من تطور المجتمع تكون الغلبة للأقوى وليس للأفضل وعبر كوارث، إلى أن تستنفد قوى الشر طاقاتها، ولكن في نهاية المطاف لا يصح إلا الصحيح، وأن الغلبة في النهاية لقوى الخير المتمثلة بالقوى المحبة للحداثة والديمقراطية والحرية وتقدس حياة الإنسان وكرامته.
ثانياً، الإسلام السياسي الذي كان لباكستان دور رئيسي في انتشاره في العالم منذ تأسيس الدولة الباكستانية، حيث ساعدت حكوماتها على تخريج عشرات الألوف من طالبان أفغانستان وغيرهم من الإرهابيين الإسلاميين وذلك عندما سمحت حكوماتها المتعاقبة، العسكرية والمدنية على حد سواء، فتح أكثر من 13 ألف مدرسة دينية منتشرة في طول البلاد وعرضها، وبتمويل سعودي، والتبشير بالعقيدة الوهابية الفاشية الشريرة، في نشر ثقافة العنف الديني والكراهية والتكفير ضد غير المسلمين وضد المذاهب الإسلامية من غير أتباع الوهابية، ووجوب قتلهم تقرباً إلى الله!! فانقلب السحر على الساحر مرة أخرى، وهذه باكستان صارت ساحة لتفجيرات الإرهابيين الإسلاميين وراح يدفع شعبها الثمن الباهظ.
كما ويجب أن لا ننسى أن باكستان في عهد حكومة بينظير بوتو، كانت الدولة الوحيدة في العالم التي اعترفت بحكومة طالبان الموغلة في الظلامية والتخلف في أفغانستان. وهذا درس بليغ آخر للحكام، أن الذي يزرع الشر لا يحصد إلا الشر، وكما حصل لأنور السادات الذي هو الآخر حاول التقرب إلى الإسلاميين على حساب الديمقراطيين في مصر، فافترسوه أخيراً، وبذلك أثبت الوحش الإسلامي السياسي، مثله كمثل الوحش الفاشي البعثي، أته لا يمكن ترويضه، ولا يقتنع بتقسيم غنائم السلطة مع الحليف، بل يصر على كل شيء و إفناء الآخر الذي تساهل معه في السابق.
ثالثاً، دفعت الشهيدة بينظير حياتها وحياة المئات غيرها من بنات وأبناء الشعب الباكستاني ثمناً لانتصار الديمقراطية ودحر الإرهاب، وبذلك قدمت الدليل على أن الديمقراطية ليست بلا ثمن، وبموتها دفعت الشعب الباكستاني للمزيد من الإصرار على النضال من أجل تحقيق المبادئ التي ضحت من أجلها بوتو وغيرها من الشهداء، وهذا يعني أنه كلما سقط شهيد نمت شجرة الحرية والديمقراطية أكثر وتصلب عودها، ولا تراجع عن الديمقراطية مهما بغى وطغى الإرهابيون.
رابعاً، أتبت الإرهاب في باكستان، كما في الجزائر، أن ما يجري في العراق من إرهاب ليس "مقاومة وطنية" ضد ما يسمى بـ"الإحتلال الأمريكي" للعراق، بل هو إرهاب فاشي بشع ضد الشعب العراقي بدوافع أيديولوجية دينية لا تقيم أي اعتبار لحياة الإنسان، وإلا فهل باكستان والجزائر بلدان محتلان من قبل أمريكا؟ وإذا كان الاحتلال الأجنبي هو سبب الإرهاب الإسلامي، فلماذا لا يتوجه هؤلاء الانتحاريون "المجاهدون" إلى فلسطين ومرتفعات الجولان السورية لتحريرهما من الاحتلال الإسرائيلي بدلاً من قتل الأبرياء في العراق والجزائر وباكستان؟ ومن هنا نطالب أولئك الذين يسمون الإرهاب في العراق "مقاومة وطنية"، بإعادة النظر في حساباتهم، علماً بأن أحد قادة هذه "المقاومة الوطنية" وهو الشيخ حارث الضاري قالها بكل وقاحة وصراحة أن "القاعدة منا ونحن منها".
خامساً، كرست الشهيدة بينظير بوتو حياتها من أجل الحداثة والديمقراطية والعلمانية وتحقيق حياة أفضل لشعبها، وكانت تمثل رمزاً لهذه القيم الانسانية النبيلة، وبما إنها كانت تتمتع بشعبية واسعة جداً لدى أبناء شعبها كما ظهر ذلك واضحاً ساعة عودتها من المنفى حيث استقبلتها الملايين من أبناء شعبها رغم تفجيرات الإنتحاريين، كذلك ما حصل من ردود أفعال عنيفة على جريمة اغتيالها، كل هذا قدم لنا دليلاً قاطعاً على أن معظم الشعب الباكستاني هو مع هذه الأهداف والمبادئ التي ناضلت وضحت من أجلها الشهيدة بنظير بوتو، وضد الإسلام السياسي، وإن الأصوليين في باكستان يمثلون الأقلية، ولذلك يلجؤون إلى العنف لفرض إرادتهم على الشعب بالقوة بدلاً من الاحتكام إلى صناديق الاقتراع. فالعنف هو سلاح المفلسين سياسياً وفكرياً وإخلاقياً.
سادمساً، أثبتت الشهيدة بينظير بوتو، كمعظم الأبطال الشهداء في التاريخ الذين ضحوا بحياتهم من أجل مبادئهم الإنسانية النبيلة، من أمثال السيد المسيح، وعلي بن أبي طالب، والحسين، والمهاتما غاندي، وعبدالكريم قاسم وجيفارا وغيرهم كثيرون، أنها صارت أقوى بموتها مما كانت عليه في حياتها، حيث صارت أيقونة النضال من أجل المبادئ التي استشهدت في سبيله، كما وكشفت بتضحيتها مدى انحطاط عقلية وإخلاقية وهمجية وتخلف الفاشية الإسلامية، عدوة الإنسان والحياة والحضارة.
سابعاً وأخيراً، نؤكد مرة أخرى، كلما تمادى الفاشيون الإسلاميون بارتكاب المزيد من الجرائم بحق الإنسانية ورسل الحضارة، فإنهم يعجلون بذلك في نهايتهم المحتومة، ويقربون ساعة انتصار الحرية والديمقراطية على الهمجية والتخلف. فباغتيالهم لبينظير، ساعد الإرهابيون على نهايتهم.
مجداً لك أيتها البطلة بينظير بوتو، والخزي والعار لأعداء الحياة والحرية.