Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

ديارنا ... متى العودة؟

بالصدفة وأنا أتمشى في أحد الأيام قرب أحد البيوت، سمعتُ امرأة مُسنة جالسة في الشباك تتأمل في البعيد، ويدها على خدها والحزن والألم يُحاصرها، تنادي على من تركوها ورحلوا، بصوتٍ مريرٍ وتقول:
عصافيرنْا مع بزوغَ الفجرِ راحلةٌ حزينةٌ بعدما طالَ انتظارها
تركتني أعيشُ وحيدةً بذكراها أتأملها وأراها في عيون المارّة
قالت عند رحيلها:
سنعود انتظروني ولا ترحلوا كي تفتحوا لنْا وتفرحوا
عصافيرنا ... متى تعودون... طال انتظارنْا
متى تعودون! فديارنا شبهُ خاليةٍ وأنا على وشك الرحيل.
بداية كان قرارهم للرحيل لأنهم شعروا بغربة النفس وغربة الوطن والأهل وهم بين أهلهم ووطنهم، عانوا شتىّ أنواع القهر والظلم، شردوّا، فرقوا، هجروا، قتلوا، ذبحوا، حرموا، اضطهدوا، ذاقوا خيبات أمل كثيرة وفقدان الأهل والأحباء، عاشوا الألم والمُعاناة.....الخ. نظروا إلى حياتهم وواقعهم، أنهُ يتغير، يتمرد عليهم، ينبذهم، يُحاصرهم بخنجره من كل جانب، ضيقها عليهم! فما كان منهم غير الهروب من هذا الواقع الأليم الذي يعيشونهُ إلى حياة أخرى جديدة ولكن مجهولة وغريبة. غرباءٍ عنها لا يعرفون هل ستكون الأفضل ويستقرون ويتجمعوا مرة أخرى، أم يتشتتوا في طرقاتها، ويتفرقوا ويطير كل واحدٍ في جهة، بعد أن كانوا في موطنهم مُوحدين وفرحين وراضين حتى بالقليل الذي كانوا يمتلكونهُ؟!
واليوم البقية الباقية منهم يرحلون لحاقًا بمنْ سبقوهم، أنهم أهلنا (المسيحيين) يرحلون يومًا بعد يوم ويتركون أملاكهم وأعمالهم وبيوتهم على أملٍ ورجاءٍ أن يعودوّا إليها في يومًا ما. يُعروّن أرضهم منهم ويتركونها صحراء قاحلة ومُتعطشة إليهم! موجات من المسيحيين تتدفق من أراضيهم وترحل إلى البلدان المُجاورة والتي هي بمثابة محطات انتظار ينتظرون فيها لحين الرحيل النهائي.
يرحلون ولكنهم في انتظار والقلق الدائم رفيقهم، أرواحهم وأجسادهم لا تستريح ولا تهدأ، سكون النفس هجرهم، وفكرهم مُشتت بين رحيلهم وبين أهلهم وموطنهم وأرضهم! حياتهم منذ خروجهم من ديارهم وهي في بحث دائم عن استقرار غائب وحياة هانئة. والبعض يتملكهم الخوف من المجهول وعن شكل الحياة الجديدة، يعيشون بنفس مضطربة، وأحيانًا بأوهام وأحلام في سبيّل أن ينسوا قلقهم ووضعهم.
لماذا يرحلون؟
الهجرة تعني الرحيل، وتعني أن تاريخًا طويلاً من التلاحم الأخوي ووحدة المصير والعيش المشترك والتعاون والتلاحم بين مختلف المكونات، وعلاقات الانفتاح الثقافي والاجتماعي والاقتصادي المتبادل على مرّ العصور، وتجاور الحضارات، يهددهُ خطر الزوال والاضمحلال تدريجيًا ثم الاختفاء النهائي.
فالهجرة ظاهرة طبيعية لدى جميع الشعوب، لها دوافعها وأسبابها ومُسبباتها المشروعة وغير المشروعة التي تطال مُختلف شرائح المجتمعات ويهاجرون من أجلها. مُرتبطة بظروف اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية ومهنية وتعليمية. كالهجرة من أجل حياة أفضل أو من أجل البحث عن سُبّل العيش والتقدم أو ربما اللحاق بعمل أو دراسة، المهم أن أسبابها عديدة. ولكن الهجرة بمعناها اليوم وخاصة في العراق وبالذات المسيحيين، فأن هجرتهم اليوم لها دوافعها، وليست مُنحصرة بالأسباب المذكورة فقط، بلْ تتعداها إلى أسباب أخطر، وهي نتيجة شعورهم وكأنهم منبوذين وغرباء أو ضيوف وهم في أوطانهم، وهذا الشعور لهُ أسبابهُ الكثيرة، فالمسيحي فقدَّ أي حسٍّ بالانتماء إلى وطنهِ وأرضهِ، وأحسَّ بالغربةِ قبل أن يغترب ويرحل!
فإذا كنت تعيش في بيتك وأنتَ تشعر أنك غريب فيهِ، وليس فيهِ أقل خدمات أو مُوفرات العيش الهانئ، ليس فيهِ أي حقوق أو ضمان لأي شيء، ليس فيهِ أمان ولا أمن بلْ قلق وخوف دائمي من مصير مجهول، ليس فيهِ حرية المشاركة الجماعية، ليس فيهِ تقدير لحرية رأي الآخر، لا تعرف إن كان لك مستقبل فيهِ أو مكان! فما سيكون منك غير الفرار إلى بلاد تبحث فيها عمَّا أنت مفتقدهُ من حرية وديمقراطية (حرية الفكر والرأي والكلمة) والى مُجتمعات فيها إنسانها ينعم بالأمان والضمانات والراحة والاستقرار من دون خوف وتوتر وقتل وترهيب، مُجتمعات لا ترفض الآخر ولا تهمشهُ ولا تنبذهُ، بلْ يتمتع بكامل حقوقهِ! هذا هو واقع الحال وهذه هي الحياة وإنساننا يبحث عن راحتهِ، وهذا من حقهِ المشروع!
قبل سنين كنْا ندخل كنائسنا لحضور القداس، وكان حضور المسيحيين فيهِ بأعداد لا بأس فيها، لكن اليوم من يدخل الكنيسة يفاجأ بهذا الوجود قد تقلص بشكل ملحوظ! أين ذهب كل ذاك الحضور؟! أنهم يرحلون الواحد تلو الآخر، مثل الزجاجة التي تقطر قطرةٍ قطرة إلى أن تنتهي بالكامل. فالوجود المسيحي في أرضهِ في تقليص مُستمر، وإذا أستمر الحال كما هو عليه فإنهُ سنفاجأ يومًا وديارنا خالية ومهجورة والغراب يسكنها! ومما يزيد من خطورَّة الهجرة وأثرها السيئ على نشاطات وفعاليات واستمرارية هذا المكون، هو هجرة شبابهِ طاقة المستقبل، وأصحاب الكفاءات والمهارات والثقافات، مما سيؤثر سلبًا على استمرارية المكون المسيحي وتواجده في أرضهِ، وعلى تراثهِ ومُوروثهِ وأصالتهِ ولغتهِ وهويتهِ، التي هي الأخرى ستضيع بين الثقافات المختلفة.
ومثلما كل بيت يتحمل مسؤولية أهلهِ، كذلك كل مُجتمع يتحمل مسؤولية أفرادهِ ومن ثم هذا المجتمع يتحمل مسؤولية هذه الهجرة. فإذا كان المواطن يشعر بالأمن والطمأنينة وبحقوق مُصانة، فأن هذا دافع يحفزه في البقاء والانخراط في مُجتمعهِ وفي تحمل مسؤولياتهِ، كما إن لدولة القانون والمؤسسات والمنظمات دور في خلق جو عام يقوم على الاحترام المتبادل والتآلف مما يؤدي بالنتيجة إلى إيجاد نسيج اجتماعي مُترابط ومُتماسك يصبُّ في خدمة الوطن ورقيهِ أسوّةٍ بالبلدان الأخرى.
ولكن إذا أستمر نزيف الهجرة يتدفق فأنهُ بمثابة ضربة قاضية وعميقة توجه إلى صميم مُستقبلنا ووجودنا ولغتنا وهويتنا نحن المسيحيين. فكل ما نحتاجهُ هو نظرة مُتكاملة وعمل جادٍ من أجل احترام الحياة البشرية بروح الانفتاح والمحبة والتشارك دون اعتبار لأي خلفية أو خاصية. فالهجرة كالمرض الذي بحاجة إلى مُعالجة لعلاجهِ، لأنها تترك جراح عميقة من الحنين والحسرة وفقدان الأحباء والوحشة القاتلة لكلا الطرفين! طرف من يهاجرون وطرف من ينتظرون المهاجرين وعودتهم. والذين تجمعهم أرض واحدة، وتوحدهم لغة واحدة وثقافة واحدة والآلام وآمال واحدة.

5/1/2012
Opinions