رسالة مفتوحة إلى سماحة الفقيه العلاّمة الشيخ عبد اللطيف الهميّم
رسالة مفتوحة إلى سماحة الفقيه العلاّمة الشيخ عبد اللطيف الهميّم
المونسينيور د. بيوس قاشا
إلى سماحة العلاّمة الفقيه الشيخ عبد اللطيف الهميّم السامي الإحترام
رئيس ديوان الوقف السني في العراق
والأمين العام لجماعة علماء ومثقفي العراق
في البدء
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ونحن نحتفل بذكرى ميلاد المسيح الحي الذي به بشّرت الملائكة في الإنجيل كما في القرآن، يسرني أن أرفع إلى مقامكم السامي أجمل التهاني وأطيب الأماني طالباً من الذي كان كلمة إلى مريم:"يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ" (سورة آل عمران؛ سورة 3؛ آية 45) "فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا" (سورة التحريم؛ سورة 66؛ آية 12). كما يسرني أن أهنئكم بحلول العام الميلادي الجديد طالباً من ربّ السماء أن يمنح بلادنا السلام والأمان وأن يعيد أبناءنا إلى دياره وقراه ومدنه وكفانا حروباً وقتالاً... وبعدُ؛
بهذا الإيمان وبهذه الثقة بربّ السماء الذي ينظر إلينا بعين الرحمة والحنان "الرحمن الرحيم" أكتب إلى مقامكم السامي أسطراً قليلة نابعة من محبتي لكم واحتراماً لمركزكم السامي وشخصيتكم الموقرة، كما أتمنى فيها لكم عمراً مديداً وساعداً أميناً لخدمة شعبنا المهجَّر والمطرود من دياره، ولنداوي سويةً جراحات عراقنا الذي إبتُلي بالحروب والحصار والإحتلال وأخيراً بداعش الإرهابي، ولندرك فساد الفكر الداعشي وسموم المسيرة الداعشية بتفسيره لآيات الكتاب كما يحلو له وكما يشاء، وهذا ما يجعل شعبنا المسيحي أن ينازعه الخوف ويصارعه الأمان، ولأن ذلك قد حصل فينا فقد يتجه إلى حمل حقائبه ويرحل بل ويهاجر متأملاً عظمة الحياة وبؤس الدنيا التي يحياها وفساد المسيرة الزمنية التي يعيشها، ففكره يقوده إلى أجياله وأحفاده وأولاده مفتشاً عن بلد أمين وعن وطن وفيٍّ له.
نحن وداعش
سيّدنا العلاّمة: ما يحصل في عراقنا مؤلم جداً، فهل رأيتم شعباً أصيلاً مهجَّراً ونازحاً من دياره دون أي سبب ودون وجه حق؟، ومن المؤسف أن المهجَّرين من ديارهم لحدّ اليوم قد بلغ عددهم حوالي مليون ونصف المليون، ونتساءل: هل بنينا ليحرق داعش ديارنا؟، هل زرعنا ليشعل داعش حقولنا؟، هل خلّفنا نسلاً ليقتله داعش ويمحو أصوله وأصالته؟، هل جمّلنا مدننا وقرانا لكي يأتي داعش ويهدمها ويفجّرها على رؤوس أصحابها ويفخّخها فتكون حجارةً وركاماً وكأنه قد فُوِّض من العلي ليجعل من الأرض التي حملت الحياة والإنسان، يجعلها موتاً ودماراً؟.
شجرة وتهنئة
فباسم دينكم الحنيف ورسالتكم السامية وفقهكم المشرِّف أتوجه إليكم أن تُدركوا الخطر الذي لا زال يداهمنا كما يداهمكم، والموت الذي ينتظرنا وينتظركم، والرحيل الذي كُتب علينا وعليكم، والنزوح الذي أُصدر بحقنا دون إرادتنا، أنْ تُسكتوا أفواهاً تزرع الفتنة والبلبلة، وتُدينوها بل وتكفّروا أناساً يحملون الحقد والكراهية في مسيرتهم الزمنية. فالمسيحيون بميلاد المسيح يفرحون، بشجرة الميلاد أو بزينة، وما الشجرة إلا زينة الخضراء والحياة فأيّ ضرر منها أن لا يحتفل الأخوة الإسلام بشرائها، وحسب قول الشيخ المحترم إمام جامع "أبواب الجنة"، كما إن التهنئة بالعيد رسالة محبة وفرح واحترام وسلام وليست رسالة قتل ودمار وكراهية. أليس أنتم القائلون "وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا" (سورة النساء؛ سورة 4؛ آية 86)؟، وألستم أنتم مَن تقولون "السلام عليكم" وهذا يعني سلامكم يحلّ على جميع الناس كما نحن علّمنا المسيح الحي أن نقول دائماً "السلام معكم" وكلانا نعمل من أجل السلام. وهنا يسرني أن أنقل إليكم البادرة الإنسانية المُحِبَّة من شيخ الأزهر حيث نشرت جريدة صوت الأزهر على صفحتها الأولى صورة احتفالية كُتِبَ عليها "كلمة الله المسيح عيسى بن مريم. سلامٌ عليه يوم وُلِدَ"، وأضافت الجريدة "إن المشيخة الأزهرية بشخص رئيسها الشيخ أحمد الطيب اهتمت بالميلاد، وهو حَرَصَ دائماً على تهنئة البابا وخصوصاً منذ خروج دعوات تحريم تهنئة غير المسلمين في أعيادهم، وتعتبر ذلك من البِرّ".
فأناشدكم كي تكونوا علامة لمحو الخوف من قلوب أبنائنا، ولزرع الفرح في حقيقة مسيرتهم، وكونوا أمناء لرسالة الرحمة التي أُرسلتم من أجلها، واحملوها إلى أهلكم وجاركم وأصيل بلدكم كي لا نضيع في مجاهل الدنيا ونرحل عبر المحيطات والبحار والرب شاهد على أفعالنا فهو القدير الذي قال "وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ" و"هُوَ السَّمِيعُ المُجِيبُ" (سورة سبأ؛ سورة 34؛ آية 50 وسورة المائدة؛ سورة 5؛ آية 76).
جامع وخطيب
نقلت إلينا وكالات الأنباء خبراً مفاده أن خطيب جامع "أبواب الجنة" في منطقة عَرَفَة بكركوك وخلال خطبة الجمعة 15/12/2017 قد حرّم زينة أعياد الميلاد وتهنئة المسيحيين بهذه المناسبة، ووصف تلك الأعمال بأنها أعمال الكفّار... انتهى الخبر.
وفي اليوم التالي علمت بطريركية الكلدان بهذا الخبر ومن مصادر موثوقة ووصفته بأنه خبر مسموم للتعايش بين المكونات المختلفة في كركوك، فأدانته بشدة. كما إن غبطة أبينا البطريرك مار روفائيل الأول ساكو بطريرك بابل على الكلدان أدان محذِّراً من أن هذا الخطاب يؤجّج الكراهية بين المسيحيين كما يصبّ في مسار عدم التعايش المشترك ويُبعد قيم التسامح والأخوّة والاحترام والتي أحوج إليها البلاد في هذا الوقت بالذات، كما أدانت هذا العمل مما يتعارض مع التعاطف الكبير الذي نراه في بغداد ومدن أخرى مع المسيحيين في عيد الميلاد من خلال إقامة أشجار الميلاد في أماكن عديدة، كما أضاف أن مثل هذا الخطاب يعمل على تفكك النسيج العراقي والعيش المشترك.
البقية الباقية
أمام هذا الخطاب وخطابات أخرى، ستبقى مسألة وجودنا وحقيقة مسيرة حياتنا على المحكّ في هذا الوطن الذي نحن أصوله وأصلاءه، وربما مثل هذه الخطابات ستجعل الضعفاء منا أن يحملوا حقائبهم ويرحلوا خوفاً من تكرار مسيرة داعش الإرهابية والأفكار التي زرعها في العديد من الأنفس الضعيفة، كما يسبّب هذا الخطاب خوفاً عميقاً من تقاسم الحياة والتعايش مع غيرنا والمختلف عنا وبالخصوص مع الأخوة المسلمين، ويصبح تعايشاً قاسياً وصعباً بعد أن كنا إخوة في التنوع وعبر ديانات مختلفة. وإنني في هذا المسار لستُ متشائماً بل أقولها حقيقةً أخاف إذا ما تكررت هذه الخطابات وأمثالها إذ لا يمكن أنْ تُحمَد عقباها، فوطننا اليوم بحاجة إلى أن نداوي جراحاته بسبب ما حلَّ فينا وبشعبنا بعد أنْ طُردنا من قرانا ومدننا وبدخول داعش الإرهابي، فقتل ما قتل، وسبى ما سبى، جاعلاً من نفسه إلهاً شريراً لدنيا فاسدة، وأخاف أن لا تُفسَد نياتِ آخرين كانوا ولا زالوا من الخلايا النائمة لتكون يوماً داعشاً آخر وبلباسٍ آخر فتهلك بقيتنا الباقية فنبقى بلا وطن، وتلك كارثة وأقل ما تعني هو الهلاك في عاصفة هوجاء من الكراهية وحبّ الأنانية بروح آيات تُفسَّر بما يحلو لهم.
طاعة وانصياع
أليس هذا مسارٌ مُنَظَّم ليزيلوا المسيحية من الوجود في العراق كما في الشرق؟، وماذا سيقول المسيحي حينما يسمع نفخات الهلاك وخطب الموت من على المنابر والمنائر، والسامعين فاتحين أفواههم ولا يفقهون شيئاً كما لا يفهمون إلا ما يقوله الخطيب ــــ مع احترامي ومحبتي للخطباء المعتدلين ولخطاباتهم أيضاً ــــ الذي جعل نفسه وليّاً وأميراً بآيةٍ أُنزِلَت إليه من السماء ويفسّرها ويحلّلها بالشكل الذي يطيب له وما على السامعين والآخرين إلا الطاعة والإنصياع، فلا مَن ينطق ببنت شفّة ولا من شجاع يسدّ أفواهاً كهذه؟، فالله محبة، قبل أن يختار رجالاً يبث فيهم روح الحقد والكراهية، وقبل أن يجعل من النصارى كفّاراً وأهل ذمّة ويدعو إلى قتلهم وإهلاكهم وطردهم، لذا فلا يجوز تهنئتهم ولا المشاركة في أعيادهم... ليس إلا!.
حقوق ودستور
نحن لا نريد شيئاً غير حقوقنا في وطنيتنا وفي دستور عادل وأمين، فيه الجميع متساوون، فليس هناك أغلبية أو أقلية بل هناك وطن ومواطنون، ولا نقبل أن تحكمنا قوانين وشرائع لا تعترف بحرية إيماننا وبحرية عباداتنا، وتُملي علينا ما تراه مناسباً قبل أن يكون مناسباً لنا. وليعلم الجميع إننا فقدنا الكثير الكثير مثل بقية المواطنين، نعم فقدنا أولادنا في الحروب وفي الحصار وفي هذه السنين الأخيرة مع داعش الإرهابي، كما خسرنا ما ربحناه بعرق جبيننا وما جمعناه لمستقبل أجيالنا وأولادنا، فكل شيء قد ضاع ولم يبقَ لنا إلا الوجود الصوري، فهل قد أتت الساعة وحلّ وقت محو وجودنا؟، فقد ضاع منا الكثير بسبب وجودنا وعيشنا في بلدان كانت مُلْكُ آبائنا وأجدادنا، كما كنا أخوة للمسلمين والمسيحيين، واعلموا كنا في بلدنا نزرع حقولنا ونحصد سنابلنا ونجمع غلاّتنا ونربّي مواشينا وأبقارنا، وكم كنا في بلدنا هذا نبنيه بطابوقة عقلنا النيّر وفكرنا المسالم ويدنا المليئة بالحنان وقدمانا السائرتان في طريق الخير والمحبة والسلام، نعم نحو السلام، ولم نقتل يوماً أو نتكبّر يوماً على جارنا بل كان جارنا أخانا نتقاسم الحياة بمُرّها، فللمسيحيين تاريخ أصيل في هذا البلد وفي الشرق بأكمله وبالخصوص في بناء حضارة الرافدين وما بين النهرين... والله عالم بكل شيء، إنه عالم الخفايا والظواهر... فنجّنا يارب "رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ" (سورة التحريم؛ سورة 66؛ آية 11).
وقف ... وكركوك
لقد صرّح مدير الوقف السنّي في كركوك الشيخ الأستاذ أحمد المدرّس بقوله:"لقد وصلت مثل هكذا أقاويل"، وأضاف قائلاً:"لقد اتصل بي محافظ كركوك وكالة راكان سعيد حول ذلك وبدورنا أبلغناه بعدم علمنا بهكذا أمور"، ثم أضاف:"إن الوقف السنّي يتبرأ من هكذا أفعال ولا تمثّله"، كما أكد عزمه على فتح تحقيق في الموضوع والإيعاز بتشكيل لجنة لتحقق وتحلل الخطبة وسوف تتخذ القرارات المناسبة.
داعش والنهاية
نعم، إستنكر مدير الوقف السنّي الشيخ أحمد المدرّس في كركوك هذا الخطاب التحريضي وصرّح بأن خطيب الجامع المذكور ليس تابع لمديرية الوقف السنّي إنما هو شخص متبرع في أن يكون إمام وخطيب جامع دون مقابل. أتساءل: هل يمكن أن نفهم ماهي الصورة الحقيقية؟، أليس الذي يعمل إماماً في الجوامع والمساجد مُعيَّن من قِبَل الوقف السنّي؟، هل يمكن لإمام أن يصعد المنارة دون تعيينه رسمياً في خدمة المسجد والجامع لأنّ مهمته لا تنحصر فيما يقول فقط بل بما يسمعه الحاضرون من خطب وأحاديث؟، وهل يجوز تحريض الإخوة المؤمنين في الإسلام على غير ما ينادي به الدين الحنيف؟، ألا يعلم الشيخ الخطيب أن مدينة كركوك يسكنها العديد من المكوِّنات والأقليات (العربية، الكوردية، التركمانية، السريان والكلدان والآشوريين) ويختلفون في المذاهب؟، فمن الصحيح أن يبشّر بعيش مشترك وبسلام وأمان والعمل به ومن أجله، وأكثر من ذلك بأن يُشعرهم دون خوف إن وطنهم واحد وإن كلّهم للوطن ومن أجل الوطن، أليس مثل هذه الخطابات التحريضية والقاتلة خطابات مميتة وتحمل أفكاراً داعشية وربما من نوع آخر؟.
نعم، لقد أعلن معالي رئيس الوزراء إننا قد قضينا على داعش عسكرياً، والشكر لقواتنا المسلحة بانتماءاتهم المختلفة، إن ذلك حقيقة، ولكن ما نحتاج إليه الآن أن نقضي على أفكاره وآياته وخطاباته وتفسيرها القاتل والمميت، ومحاربة التطرف بجميع أشكاله وتسمياته، وتعزيز الأخوّة بالوطن والإنسانية، والتعاون على الحب والتسامح، وقد يختلف الكثيرون في طرق وطقوس العبادة والمقدسات ولكن يبقى المسيحيون والمسلمون أخوة بل أكثر من ذلك... إنه فساد بصور داعشية، أليس كذلك؟!.
احترام وحوار
هل تعلم سيّدنا الفقيه والعلاّمة الهَمِيْم والهميّم ــــ وأنت من كبار العارفين ــــ أنه حينما يدخل الحقد والكراهية والعدوانية قلب الإنسان يضيع كل شيء وتبدأ العنصرية والطائفية والأنانية والأصولية بحصادها ودمارها للحياة كما يفعل الجراد، وتحرق الأخضر واليابس، وتدمّر ما بنته الإنسانية المتطلعة إلى حياة آمنة، وتهدم أركان السلام، وتشوّه وجه الحقيقة السماوية، وهنا يأتي دور الأديان والحوار من أجل العيش في العمل وبكل اجتهاد على محاربة كل أشكال العنف والدمار والإرهاب ومن أجل الحفاظ على القيم عبر حوار أمين ورسالة محبة. وفي الدين المسيحي كما في الإسلام دور إنساني ثم إيماني لزرع الإنسجام والاحترام وقيم الحياة، وفي هذا الصدد يقول وإليه يدعو رئيس المجلس البابوي للحوار بين الأديان الكاردينال توران:"إن العالم بحاجة إلى مسيحيين ومسلمين يتبادلون الإحترام والتقدير، وعليهم العمل معاً والمضي قُدُماً في درب الحوار. وإذا كانت قد نشأت على مرّ القرون منازعات وعداوات كثيرة بين المسيحيين والمسلمين فالمَجْمَع الفاتيكاني الثاني المقدس يحضّ الجميع على أن يتناسوا الماضي ويتصرفوا بإخلاص إلى التفاهم المتبادل ويصونوا ويعزّزوا سوية العدالة الإجتماعية والخيور الأخلاقية والسلام والحرية لفائدة الناس" (تصريح "في عصرنا"، رقم 3). وفي هذا الصدد أيضاً يقول قداسته مؤكداً أن العنف لا يتوافق وطبيعة الله ولا مع طبيعة النفس البشرية بل الحوار الذي يساعد على البحث في دروب المصالحة والعيش ضمن احترام هوية الآخر. والمَجْمَع الفاتيكاني الثاني واضح أمام الإخوة الإسلام حيث ينطلق المَجْمَع الفاتيكاني الثاني تجاه الإسلام "تنظر الكنيسة بعين الإعتبار أيضاً إلى المسلمين الذين يعبدون الإله الواحد، القيوم الرحيم، الضابط الكل، خالق السماء والأرض، إله كل البشر". فقد صرّح البابا بندكتس السادس عشر في زيارته إلى جزيرة قبرص (4-6/6/2010):"على الرغم من الإختلافات، فالمسلمون إخوة لنا وعلينا أن نشجّع على رؤية مشتركة للحوار معهم".
فليس هناك دين صحيح أو غلط، فكل الأديان صحيحة إذا ما كنت تدعو إلى المحبة والتفاهم كون علاقتها مع الله عمودياً ومع الإنسان أفقياً، وحتميتها سماوية بالذين يؤمنون بها. فالأمر ليس متعلق بالله بقدر ما هو متعلق بمحبتنا ورسالتنا الإنسانية، فالله أعطانا الخلاص وعلّمنا طريق السماء، وعلينا أن نكون أوفياء لهذا العطاء ولهذا التعليم ولهذا الحب، ولايجوز أن نشوّه ذلك.
الخاتمة
ولكي لا أطيل عليكم أختم ببعض الكلمات شاكراً صبركم ومعتذراً من طول رسالتي، فإنني أكنُّ لكم المحبة الخالصة والاحترام المتبادل. نعم، قلنا إن مسيحيي العراق أصلاء أرض الرافدين، وقد استقبلوا الإسلام بروح التعايش والمحبة، وعاشوا بروح التسامح مع مكونات أرضنا الجريحة، وأطاعوا الحكومات والقوانين، ولما جاء داعش فتك بهم وكأنهم أعداء، وطردهم من قراهم ومدنهم... إنها مأساة الزمن.
لذا أسأل: أليس بالإمكان أن نكون لهم أخوة ونتمسك جميعنا بأرضنا وأصالتنا؟، أليس من الوجدان أن نقول إن أرضنا حقنا قبل غيرنا؟، ألا يكفي الاضطهاد الطائفي والتبديل الديموغرافي؟، أليس من الواجب تبديل الدستور إلى مواد وأبواب تكون في خدمة الشعب والوطن وليس من أجل الأغلبية والعشائرية والقومية؟. فشعبنا يهاجر ويرحل، نعم بسبب داعش ولكن بسبب الوضع الأمني الغير المستتب، وفي ذلك لا زالت السياسة الرسمية تتجاهل العواقب التي تنجم عن وحدانية الانتماء وإلغاء وتهميش الهويات وهذا سيقودنا إلى غياب المسيحيين، وكما ويعني طغو وطغيان الصراع الطائفي على السطح، ذلك إن وجود المسيحيين إلى جانب المسلمين يعطي للأمّة هذا الطابع المتنوع.
أمام هذا كله أناشد سماحتكم وأقول: إن المسيحيين هم بحاجة إلى مساندتكم في أن تسدّوا الأفواه التي تضطهدنا من أشخاص جعلوا أنفسهم وكلاء السماء، وأن تُصدروا توضيحاً وتعليمات من قِبَلكم باسم وقفكم الموقَّر أن تصمت هذه الخلايا النائمة كي لا يعود داعش جديد بلباسٍ جديد، وأن تزرعوا كلمات المحبة والتسامح من على المنائر والمنابر وتُعلنونها جهاراً بأن المسيحيين أخوة للإسلام، وكلانا نتقاسم مسيرة جراح العراق، وما علينا إلا أن نكون أمناء لتربتنا وأوفياء لوطننا ومتعايشين في المحبة والأخوّة، فالمسيح الحي يقول:"أَحِبُّوا بَعْضكُمْ بَعْضاً كَمَا أَنَا أَحْبَبْتُكُمْ" (يو12:15).
وختاماً، أدعو ربّ السماء أن يمنح بلادنا السلام والأمان وأن يحفظكم من كل مكروه وشر... ودمتم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته