ستسكن الذئاب مع الحملان..يوماً
من العالم..سُئل احد كبار المؤرخين في العالم ممن كرسوا حياتهم لدراسة التاريخ وتسجيل احداثه: " ما هو اهم درس تعلمته في حياتك من خلال دراستك لاهم الاحداث البارزة في التاريخ؟".
فاجاب على الفور: " عندما تشتد ظلمة الليل، تلمع النجوم".
وللكثير من الشخصيات التاريخية قصة مع هذا (الظلام) وهذه (النجوم)..فهناك جون ستيوارت مل، الفيلسوف الاقتصادي الانكليزي، الذي عانى من ازمات نفسية حادة قبل ان يرى (النجوم) في ليله المظلم ، ويصبح من اكبر الفلاسفة الاقتصاديين في تاريخ انكلترا، جبران خليل جبران، الاديب اللبناني العالمي، الذي ابدع في خلق (نبيه) بعد ان (تكسرت اجنحته) وعاش (تائها) ..وكذلك ابراهام لنكولن، الرئيس الاميركي الاسبق، وقصته المعروفة مع نجوم الليل..
وسنورد مقتطفات من هذه السيرة كما وردت في كتاب دايل كارنيجي عن سيرة وحياة لنكولن ، اذ يقول: "لقد اصبح لنكولن مريضا الى درجة الخطر جسديا وعقليا، كما انه غرق في نوبة عميقة وخطيرة من الميلانخوليا ( احد اخطر امراض الاضطرابات العقلية) بحيث انه كان يبرطم بألفاظ غير متناسقة ويهدد على الدوام بإنهاء حياته، حتى انه كتب قصيدة يمجد فيها الانتحار..ما جعل اصدقاؤه يخفون سكينه الخاص به بهدف منعه من الاقدام على الانتحار".
مع هذا، وعندما وصلت ظلمة الليل ذروة اشتدادها في حياة لنكولن..لمعت النجوم في افق فكره، وتخلص من حالته،واضحى رئيسا عظيما للولايات المتحدة الاميركية..وجعل منها الدولة التي طالما حلم بها، "امة واحدة موحدة، ومرتعا للحرية والعدالة المتوفرة للجميع".
ونحن؟؟
اليوم، قد ( يشكو) بعضنا، افراداً كنا او مؤسسات، من اننا كشعب سرياني كلداني اشوري، نمر بحالة القنوط واليأس التي مر بها لنكولن.. حالة الظلمة الحالكة..و(إنعدام الرؤية) ..بسبب (سواد الليل) الذي لم نعد نرى في سماءه اي نجوم تلمع.. هذا السواد هو مرآة عاكسة للسلبية المعششة في تفكيرنا..والتي نترجمها على ارض واقعنا بمشاعر وتعابير لا تعمل الا على اثارة الافكار السلبية لدى الغير، فنمسي بذلك مصابين بمرض السلبية الذي ننقله للاخرين، وهو (سريع الانتقال) خصوصا في ظروف قد (نرى) انها لا تحمل اي بصيص امل..فنتداول اصطلاحاتنا تلك لتضحى تعابيرا متعارف عليها، تستخدم (وبسهولة وسلاسة وتلقائية) في احاديثنا، حواراتنا، ومقالاتنا..وهاك منها :
الانقسام الكنسي، انعدام الشعور القومي، لا مؤسسات ، لا مستقبل للشعب الكلداني السرياني الاشوري في العراق، احزاب كرتونية، شعب غير واعي ، تطرف، متطرفين، تشرذم، إنقسامات، شراء ذمم، ارتماء في احضان الغريب.. والقائمة طويلة، و(الاختراعات) كثيرة..
ان احتمالية اصابة اطفالنا وصغارنا بعدوى هذ المرض (مرض السبلية) هي احتمالية كبيرة جدا.. فالاطفال يتلقفون ويترصدون كل كلمة يسمعونها من والديهم وأفراد عوائلهم، فهم يترصدون كلامنا وافعالنا ليقلدوننا.. ونحن هنا نقوم بدور العامل المساعد لنقل عدوى المرض من خلال نشر هذه الانطباعات (وسنحاول التطرق الى خطورة هذه المسألة في مقالات قادمة)..
حوار..
و(قد) تكون بعض هذه (الحالات) من واقع حياتنا، ولكل منا ان يسطر عشرات بل مئات (المشاكل) (كما يحلو لنا تسميتها) والتي (تملأ) مجتمعنا (كما نتصور) ، وانقل هنا (مقتطفات) لحوار دار بين مجموعة مكونة من 5 اشخاص ، عن (حالتنا) (الغير صحية).. وقد كنت شاهد عيان على (الحوار)..
الاول: المشكلة في (الاثوريين) وبالذات في الحركة الديمقراطية الاشورية، فلو انها قبلت ان تتنازل قليلا لما كان ما كان..
الثاني: ليس للحركة دخل في المشكلة، فالقوى الكلدانية هي التي شاءت ان تصعد على اكتاف الغير دون ان تقدم شيئا..
الثالث: لو كانت الكنيسة موحدة لحلت كل هذه المشاكل.. ان رجال الدين هم السبب الاول فيما نحن عليه..
الرابع: المشكلة مشكلة الشعب بأكلمه، فهو غير واعي.. و(متخلف) ولا يهتم بشئ غير معيشته..
الخامس: ليس للمشكلة حل، وكل ما نقوله هو اضاعة للوقت..الافضل ان نهتم بحالنا ومعيشتنا..
كما ذكرت، فهذه مجرد مقتطفات، من الحديث الذي كان طويلا، ومبنيا على هذه (النظريات) و(التحليلات).. والذي قد يتكرر في ازمنة وامكنة مختلفة..
ليس لأحد منا ان ينكر وجود اختلافات في وجهات النظر وعوائق تظهر بين الفينة والاخرى في مسيرة الشعب، ، لكن تركيزنا عليها، وجعلها محور حديثنا، والتطرق اليها في كل حين، يحول وجهة تفكيرنا من الايجابية الى السلبية، وهذا التحول في التفكير هو اول مراحل الاصابة باليأس والميلانخوليا، التي سيكون الشعب الخاسر الوحيد فيها ..
عودة الى لنكولن..
اصيب لنكولن باليأس واقصى درجات الاضطراب النفسي..و(مجّد) الانتحار..ثم خلص..وتخلّص..من مرضه النفسي..وانتهى به المطاف رئيسا للولايات امتحدة الاميركية..فهل نمر بما مر به لكي نحقق نجاحنا ووجودنا؟؟
حيث كثرت الخطيئة ازدادت النعمة..هذا ما قاله الرسول بولس في رسالته الى اهل رومية 5:20..لكنه اضاف..أنبقى في الخطيئة لكي تكثر النعمة؟؟ حاشا..نحن الذين متنا عن الخطيئة كيف نعيش فيها بعد؟؟
انه هنا يتجلى بوضوح دور الروح القدس في تكثير النعمة فهو ..المعزي..المنشط..العامل الايجابي الاساسي في تطور الانسان.. وهو المحرك.. الداينمو..علامة الموجب في معادلاتنا.. شرارة الايمان..والخير.. التي تكمن في اعماقنا..
اجل ..انه ذات التفسير الذي يجب ان نعتمده في مسألة ظلمة الليل ولمعان النجوم.. فليس الحري بنا ان نستسلم لليأس والقنوط لكي نحلم بالامل..بل على العكس، ان ادراكنا لليأس ومحاولة عدم الانزلاق في تياره، انما هو اولى خطوات تحقيق الامل.. فالتعايش مع الواقع بإيجابية، والحلم بمحاولة تغييره نحو الافضل..هو الامل المنشود..
ويحق لنا ان نحلم بذاك الامل ونعمل على تحقيقه..فقد حلم ابراهام لنكولن بـ "امة واحدة موحدة، ومرتعاً للحرية والعدالة المتوفرة للجميع". ولمعت نجوم لنكولن في سماءه، و طبعها على علم بلده..
وكذلك حدث مع مارتن لوثر كينك .. ألم يبدأ مشروعه العظيم، مشروع المساواة بين السود والبيض بحلم؟؟ حلم عميق..وغريب..فكيف له ان يحلم بأنه في يومٍ من الأيام وعلى تلال "جورجيا" الحمراء، سوف يجلس أبناءُ العبيد السابقين، وأبناء أصحاب العبيد معاً على مائدةِ الأخوّة.
كيف له ان يحلم بأنه في يومٍ من الأيام ، حتى ولاية "المسيسيبي"، والتي تُعدّ صحراء قائظة بفعل حرارة الظلم والاضطهاد، سوف تتحولُ إلى واحةٍ للحرية والعدالة.
كيف له ان يحلم بأن أطفاله الأربعة سوف يعيشون يوماً ما في دولةٍ لا يُحكم عليهم فيها على أساس لون بشرتهم، وإنماشخصهم وافعالهم..
ان حلمه لم يتناسب وواقع وظروف بيئته في زمنه، وهو يشبه حلم اشعيا النبي، فهو الاخر كان حلمه بعيدا عن المعقول، حلم غير منطقي..فهو قد حلم بأن " يسكن الذئب مع الخروف، ويربض النمر مع الجدي والعجل والشبل والمسمن معا..وصبي صغير يسوقها، والبقرة والدبة ترعيان، تربض اولادهما معاً"
ان ايمان مارتن لوثر كينك بمشروعية حلمه، وانسانيته، وما سيفيضه من خير على ابناء شعبه، جعلته ان يعيش واقعه المؤلم بإيجابية، ولم يجعل من نفسه اسيراً لأفكار سلبية، ويأس مفرط.. اذ ان ايمانه كان بمثابة الروح القدس.. المحرك.. المنشط.. لروح هذا الحلم..وهذا العمل الجبار..فحلُم مارتن لوثر كينك بصوت عالي..وامام مرأى ومسمع ملايين البشر..وشاركته حلمه، تلك الملايين..بقوة الروح القدس..الذي يعمل فينا..ومنا..ولنا.. وعملوا جميعا على تحقيق الحلم..وبتضحيات جمة..وصعوبات غزيرة..ومعارضات كثيرة..الان ان الحلم تحقق اخيرا و تساوى السود مع البيض في حقوقهم وواجباتهم..وارتقى مستوى الانسان..مع اخيه الانسان..
قد يكون ما تحتاج اليه مشاريعنا السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية..هو شرارة الروح القدس تلك..شرارة الخير..و النقاء..التي تولد الجرأة في احلامنا..ومشاريعنا..
فمن منا يحلم بأن تسكن الذئاب مع الخرفان؟؟ ويؤمن عميقا بذلك..وبإيجابية وجرأة؟؟
من منا يؤمن بأن يربض النمر مع الجدي؟؟ وان ترعى الدبة والبقرة معا؟؟
من منا يؤمن بأيجابية وجرأة انه يستطيع يأمر الجبال بأن تنتقل الى البحر فتفعل؟؟
ان هذا الايمان يحتاج الى تفكير ايجابي عميق.. وهذا لايعيش في عقول ملأة بالسلبية..فالاثنان متنافران..لا يتقابلان..ولا يلتقيان...هنا قد نشعر اننا بحاجة الى ان نتحول بتفكيرنا قليلا عن المألوف (السلبي)..ونحاول التفكير ايجابيا في بعض ما يدور حولنا..وننظر اليه بعين الخير..فكل الاشياء تعمل لخير الانسان.. فعيننا سراج جسدنا..وعيننا هي نور لافكارنا.. ولنحاول ولو قليلا ان نضع على الطاولة بعض المسائل والاشياء الايجابية التي نملكها (وهي كثيرة ان حاولنا تشخيصها)، علها تغير نظرتنا الى واقعنا..
من تراثنا..
من جملة ما ينعش الذاكرة بذكريات الوطن..اننا اذ كنا صغارا، كنا نحوم حول تنور الخبز الطيني الذي كانت (تخلق) لنا به امي اقراص الخبز الشهية، منتظرين وبفارغ الصبر، تحرر الخبز من تلك النيران المثيرة..كي نتسارع الى البحث عن قطعة محروقة في القرصة.. وهنيئاَ لمن يحصل عليها، فهو بتناوله لها، سيعيش يومه متأملاً ان يجد شيئاً ثميناً، نقود ربما..لعبة، او قصة من قصص الاطفال..وهو..بهذا الامل الذي خلقته فيه تلك القطعة المحروقة، سيقضي وقت فراغه، باحثاً في البيت، او خارجه، بجدية وحماسة ونشاط عن كنز مفقود..ملقى على الارض..
تساؤل
ان عقولنا بحاجة الى ان تلتهم قطعة الخبز المحروقة تلك، فتثير فينا الايمان والتفاؤل والامل المشع، وهذا مطلوب منا على مستوى الافراد والمؤسسات، وعلى مستوى الحوارات والمقالات.. كيما نستطيع ان نحقق احلامنا ومشاريعنا..ونرتقي بها الى مستوى المقارنة بأحلام لنكولن، ومارتن لوثر كينك، تلك التي كان الايمان والامل محورها الرئيسي.. فضُحّي بالكثير من اجلها، وتحققت.. فهل ان تحقيق مشاريعنا اصعب من ان ترعى الحملان مع الذئاب..وأن تُنقل الجبال الى البحر؟؟