Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

سحر بابل - قراءة في كتاب " اصول الصابئة " المندائيين ومعتقداتهم الدينية


المؤلف : عزيز سباهي

الناشر : دار المدى



اصول الصابئة – المندائيين – ومعتقداتهم الدينية هو اول دراسة حديثة تظهر باللغة العربية عن هذه الطائفة التي نشأت في وسط وجنوب وادي الرافدين قبل ظهور المسيحية . البحث في المسألة المندائية قضية شائكة جدا ، اذ ينبغي على الباحث ليس فقط معرفة اللغة المندائية .. بل كذلك اللغة السريانية والعبرية والاغريقية . وربما تكون هذه العقبة هي السبب المباشر في احجام مراكز البحث في العالم العربي عن الخوض في مثل هذه المشاريع الشائكة . اما السبب الاخر فهو تحول الديانة الصابئية الى ديانة سرية بسبب الاضطهادات التي تعرضت لها الطائفة طيلة القرون الماضية . المؤلف عزيز سباهي ، وبسبب اعتماده المصادر الاجنبية وكتابات المستشرقين لا يستطيع ان يجزم فيما اذا كان الصابئة قد ظهروا في وادي الرافدين ام انهم جاءوا من فلسطين . وبسبب من طغيان النزعة المركزية الاوربية على البحث .. المركزية الاوربية التي ترجع اصل كل حضارة الى الاقوام الارية والعقل الاوربي .. فأنه يترك الباب مفتوحا للتأويل .. ( بادئ ذي بدء نؤكد انهم سواء كانوا قد ظهروا هنا او هناك فأنهم ظلوا على تفاعل مستمر مع الجماعات التي كانت تجاورهم رغم العزلة الى حد ما التي فرضوها على انفسهم او فرضها المحيط الذي عاشوا فيه عليهم . ومثلما اثروا في افكار من احتك بهم ، فأنهم تأثروا بمعتقدات الاقوام المجاورة رغم كل التحوطات التي كانوا يتخذونها لدفع هذه التأثيرات . ان هذا التفاعل المستمر الذي ظل يجري طوال القرون بوتائر سريعة مؤثرة احيانا او ببطء شديد وبتعديلات غير جوهرية كما جرى في القرون المتأخرة اوجد نوعا من الزركشة في المعتقدات زادت في تعقد مسألة البحث في اصلهم وتحديد مستويات هذه المعتقدات ) .

ومع ان هناك الكثير من المعطيات التاريخية التي تؤكد الاصل الرافديني للصابئة المندائيين .. الا ان المؤلف يكتفي بعرض هذه المعطيات دون ان يقدم رأيا قاطعا ( انه ليصعب القطع بأن المندائية تلقت التأثيرات اليهودية من فلسطين وحدها حين يكون مثل هذه التأثيرات قد وجدت في جنوب مابين النهرين ايضا وبقوة لا تقل عما هي عليه في فلسطين . لقد تخلفت في جنوب وادي الرافدين مجموعات كبيرة من اليهود بعد ان سمح الملك الفارسي الاخميني كورش بهذه العودة . والواقع ان القلة من اليهود الذين سباهم بختصر قد عادوا الى فلسطين .. اذ آثرت الاغلبية ان تواصل عيشها في بلاد الرافدين . وفي العهد البارثي كانت هناك مجمعات لليهود في جميع المدن البابلية ) . ان التلمود البابلي وهو من اهم الكتب الدينية اليهودية كان قد دون في جنوب العراق وباللهجة الارامية التي تشبه كثيرا اللغة المندائية .. لكن المؤلف لا يعلق على هذه النقطة .. كما ان عزرا الذي تخلف عن العودة الى فلسطين والذي اشرف على تدوين الادب اليهودي في اورشليم فيما بعد ، عاد الى ميسان وتوفي هناك في قرية اسمها العزير . كل هذه الاشارات القاطعة لا تثير المؤلف للتعليق عليها وكأني به يمارس التقية . فهو لا يريد ان يقول ان المندائية متأثرة بالديانة اليهودية المتأثرة بدورها بالاساطير السومرية والبابلية ، او انه واقع تحت تأثير التحريم الديني الذي تفرضه الطائفة في عدم اشاعة اسرار الديانة . ولكن على كل حال فأن الذنب ليس ذنبه خصوصا اذا كانت المركزية الاوربية والمستشرقون يشككون في الاصل ، واعني بذلك اصل السومريين . لذلك لابد لنا من تقديم وجهة نظرنا عن القضية السومرية رغم انها ستبعدنا قليلا عن هذه المراجعة ولكنها في الوقت نفسه تصب في الاطار ذاته .

يعتقد اكثر الباحثين والمهتمين بتاريخ الحضارات القديمة ان اصل السومريين ينحدر من مرتفعات ايران . كما يعتقدون ان النظرية الخليجية هي اكثر النظريات رجاحة في تحديد اصل السومريين . ولكن بالرجوع الى المصادر التاريخية نجد ان هناك تناقضا خطيرا ومعقدا في ما يتعلق بسكان المستنقعات – العبيد – الذين سكنوا منطقة ما بين النهرين منذ ما بعد العصر البرونزي . وسأحاول هنا ان اقدم بعض المقترحات ومن خلال المصادر التاريخية التي ترجح ان تكون الاقوام التي انحدرت من مرتفعات ايران هي الاقوام ذاتها التي هاجرت من جنوب وادي الرافدين اثناء الطوفان الكبير الذي امتد قرابة 400 سنة .

جاء في الموسوعة العالمية للاثار " اما في جيان وتل باكون وسوس فلا يوجد أي اعمار سابق لنهاية سيالك الثالثة . وبداية الالف الثالث ق. م شاهد على دمار سيالك الثالثة .. والاثار الباقية التي من العصر التالي تمدنا بالدليل على قيام حضارة دخيلة وهي حضارة سوسة التي تأثرت تأثرا قويا ببلاد وادي الرافدين " 1 . وفي مكان اخر من الموسوعة وتحت عنوان – السومريون – يرد التالي " لم يكن السومريون يعرفون الا من خلال نصوص الالواح المسمارية .. بينما بقيت المواد الاثارية من هذا العصر مجهولة . ولكن ما كاد يحل العام 1931 حتى اثبتت الحفائر العديدة ثلاث مراحل سبقت تاريخ الاسرات في سومر وقد اطلق عليها اسماء المواقع الاثرية التي عثر بها على شواهد كل مرحلة لاول مرة .... العبيد ، اوروك ، وجمدة نصر . وقد بينت حفائر العبيد ان سكان سومر الاوائل – شنعار –في التورات – جاءوا اصلا من مرتفعات ايران وقد استقروا في جنوب وادي الرافدين حوالي 4000 ق. م "2 . وبالعودة الى الاقتباسين نجد التناقض واضحا ، حيث تقول الموسوعة ( والاثار الباقية من العصر التالي تمدنا بالدليل على قيام حضارة " دخيلة " وهي حضارة سوسة التي تأثرت تأثرا قويا ببلاد وادي الرافدين في بداية الالف الثالث ق.م ) فكيف يمكن للسومريين الذين سكنوا بلاد وادي الرافدين قبل 4000 سنة ق . م كما تقول الموسوعة ان يكونوا منحدرين من مرتفعات ايران ؟!

ولكي نؤكد قيام تلك الحضارة الدخيلة في سيلك والتي اخذت الكثير من التقاليد العبيدية السومرية فأننا نعود الى الموسوعة التي تمدنا بالدليل المادي " والسكان الاوائل لسيالك في الالف الخامس قبل الميلاد كانوا صيادين وكانوا يكملون قوتهم بالزراعة وتربية الحيوان وسرعان ما استبدلوا مساكنهم التي تشبه العشش بمبان طينية – بيزيه – صغيرة " 3 . وبالرجوع الى سكان المستنقعات – العبيد – الذين سكنوا تلك المنطقة منذ ما بعد العصر البرونزي نجد ان طراز بناء المنازل هو نفسه الذي وجد في سيالك .. خصوصا وان المواد المستعملة في بناء هذه المنازل لا توجد الا في جنوب وادي الرافدين في المستنقعات وهما القصب والبردي .. وهما نباتان لا يمكن ان ينموا في مرتفعات ايران الصخرية والصحراوية . وارجح الظن في اعتقادنا ان العبيديين هاجروا الى مرتفعات ايران القريبة منهم بسبب الفيضانات السنوية التي كانت تهدد حياتهم ومزروعاتهم ونقلوا معهم تقاليدهم في بناء المنازل . وبما ان مرحلة العبيد استمرت 400 سنة وهي الفترة ذاتها التي انحسرت فيها مياه الفيضان عن جنوب وادي الرافدين ، فأن الاقوام التي هاجرت بسبب الفيضان عادت مرة اخرى الى موطنها الاصلي متأثرة ببعض التقاليد الموجودة في مرتفعات ايران .

واذا كانت حفريات العبيد قد كشفت عن ثلاث وراحل سبقت تاريخ الاسرات في سومر هي العبيد والوركاء وجمدة نصر .. فأن الحفريات تؤكد بما لا يقبل الشك ان العبيديين هم السكان الاوائل لجنوب وادي الرافدين . ولكن الذي يعنينا هو المرحلة الحضارية الثانية .. الوركاء .. وهو موقع بلدة من اقدم المدن السومرية ( اوروك ) اريخ في التورات مدينة الملك العظيم كلكامش .. تقول الموسوعة " وهي اكثر تقدما من اثار سكان المستنقعات الاوائل في العبيد توحي بحلول جنس اجنبي من اقوام جبلية جاءت من الاناضول وتفرقت شمالا وجنوبا في بلاد الرافدين " 4 . تقول الموسوعة – توحي – بحلول جنس اجنبي دون ان تقدم دليلا ماديا ملموسا عن قدوم جنس اخر له آثاره ومقتنياته وتراثه وتتجاهل ان يكون سكان العبيد الاوائل قد عاشوا ازدهارا اقتصاديا كبيرا بعد انحسار الفيضان وبتأثير هذا الازدهار انتعشت الحياة الدينية والاجتماعية للسكان فطورا بناء المعابد وانظمة الري للتخلص من فيضان دجلة والفرات الذي يسبق فترة الحصاد فأنتجوا بذلك حضارة الوركاء .

ثم ان الاقوام التي نزحت من الاناضول هي اقوام هندو- اوربية ولا يوجد أي مصدر تاريخي يقول بوجود مثل هذه الاقوام كما يشير الى ذلك الاستاذ علي الشوك ( السومريون ليسوا اكرادا ... (( وليس ثمة ما يشير في أي مصدر من المصادر التاريخية الى ان الاكراد استوطنوا كردستان الحالية قبل سبعة آلاف سنة .. لان الاقوام الهندو – اوربية لم يكن لها وجود او ذكر في الشرق الاوسط برمته في تلك المرحلة )) 5 .

تبقى لدينا حلقة مفقودة لم يهتم كثيرا الباحثون والعلماء في دراستها هي فترة الطوفان الذي حصل في اور والذي فقدت بسببه اثار الاسرتين السومريتين الاولى والثانية . فالاثار التي تركتها الاسرة الثالثة لا يمكن ان تكون قد انتجت من فراغ ، ولا بد ان تكون هناك حضارة سابقة لها قام الطوفان بتدميرها كليا ، خصوصا وان الحضارة السومرية الاولى قامت على الطين والقصب وهما مادتان لا يمكن ان تصمدا بوجه الفيضان الذي حصل . تقول الموسوعة " يبدأ الثبت التاريخي السومري بالاسرة الثالثة بعد الطوفان وهي الاسرة المعروفة بأسم اسرة اور الاولى . ويؤيد صحة هذه الرواية لوح مكتوب وجد في احد الاساسات في اور ويبين ان اول ملوك هذه الاسرة كان ملكا يدعى ميساني = باد حوالي 2900 ق . م وفي هذا العصر كانت اور العاصمة المزدهرة في جنوب وادي الرافدين " 6 .

نستنتج من كل ما تقدم التالي :

1- ان السومريين لم يقدموا من مرتفعات ايران بدليل ان الحضارة التي قامت في سيالك الثالثة بداية الالف الثالث قبل الميلاد كانت – دخيلة – و – متأثرة تأثرا قويا – ببلاد ما بين النهرين . مما يدل على ان السومريين سبقوا الايرانيين بحوالي 1000 سنة بداية الالف الرابع ق.م .

2- ان نمط بناء المنازل الذي وجد في سيالك الثالثة هو النمط ذاته الذي استخدمه العبيديون قبل ستة الاف سنة في جنوب العراق .

3- وان المادة المستخدمة في بناء العشش هي القصب والبردي ولا يوجد هذان النباتان في المرتفعات الايرانية .. حيث يستحيل ان ينمو القصب والبردي في المناطق الصخرية او الصحراوية .

4- بما ان المصادر التاريخية لم تشر مطلقا الى وجود اقوام هندو – اوربية في الشرق الاوسط فأنه من العسير القول ان اصل السومريين ينحدر من اصل هندو – اوربي . والرأي الراجح هنا هو ان الاسرتين السومريتين الاولى والثانية هاجرتا من جنوب العراق الى المناطق المرتفعة القريبة بسبب الفيضان وعادتا بعد انحساره أي بعد 400 سنة . والمشكلة الجوهرية في هذا الصدد هي ان الفيضان لم يبق على أي اثر للاسرتين مما يجعل من العسير ربط العبيديين بالاسرة الثالثة مباشرة .. على الرغم من التشابه الكبير بين العبيديين والاسرة الثالثة في ما يتعلق بأدوات الصيد والزراعة والعبادات . وبالعودة الى الموسوعة التي تقول " وفي كل مدونة تاريخية سومرية كان اول حادث له الاهمية القصوى هو الطوفان . وقد قسمً هذا الحادث قائمة الملوك السومرية الى قسمين تنتهي اولهما بالطوفان "7 .

ماذا نستنتج من هذا النص ؟ تقول الموسوعة ان – كل – مدونة تاريخية سومرية كانت تشير الى الطوفان كحادث له اهمية قصوى وانه قسمً قائمة الملوك الى قسمين ينتهي اولهما بالطوفان .. فكم ملكا كان في القسم الاول من القائمة ؟ وكم سنة حكم كل منهم ؟ ان مراجعة دقيقة ومتأنية لمرحلة الطوفان يمكن ان تكشف الحلقة المفقودة من تراث الاسرتين السومريتين الاولى والثانية واللتين تعدان الامتداد التاريخي الصحيح لسكان المستنقعات – العبيديين – وليس من المستبعد ان يكون السومريون ابناء او احفادا للعبيديين السكان الاوائل لجنوب وادي الرافدين .

بعد هذه الجولة الطويلة نسبيا في تقصي الاصول السومرية نعود الى كتاب اصول الصابئة المندائيين وبالتحديد الى الفصل الثاني ( المندائية والدين البابلي ) . يعقد المؤلف مقارنة بين الديانة والاساطير البابلية والمندائية فيجد انها واحدة ومتشابهة تماما فيتساءل مندهشا (( يثار هنا تساؤل مشروع هل كان المندائيون قد تأثروا بشكل مباشر بأفكار الجماعات البابلية التي كانت تجاورهم ، او ان يكونوا هم ذاتهم من بقايا البابليين وطورا معتقداتهم من خلال تفاعلهم مع الجماعات اليهودية والفارسية وغيرها التي كانت تعيش جوارهم )) ؟؟ لا اعرف بالضبط ما الذي يقصده المؤلف بالجماعات البابلية ؟ هل يريد بذلك ان يختزل حضارة بابل العظيمة الى شرذمة من الجماعات المتناثرة هنا وهناك مثل ؟؟ وتزداد دهشته وهو يستعرض الاسطورة المندائية التي تتحدث عن العالم السفلي (( فعدا عن التكرار الشائع في تراتيلهم الشعرية والذي ساروا فيه على غرار الادب البابلي .. فأن هناك جوانب عديدة تثير انتباها خاصا تتعلق بعراقية البيئة التي تدور فيها الاحداث التي توردها كتبهم ))(( وفي كتاب دردشة د يهيا – تعاليم يحيى – يشار الى صيد السمك على الضوء وهي طريقة معروفة في صيد السمك في اهوار العراق في موسم صيد الزرة )) . ان كل هذه الشواهد والمعطيات المادية والتاريخية لا تشجع المؤلف على القول بالاصل الرافديني للمندائيين ، لا بل انه يصر على نظرية الاصل الغربي للمندائية .. (( يظل هناك تحفظ معين يحسن ان نختتم به هذا الفصل هو ان الجماعات البابلية وغير البابلية التي اسكنها ملوك آشور وبختصر في فلسطين .. والسامريين كما يذهب بعض الباحثين من هؤلاء ، واليهود الذين عادوا من سبي بابل ايام كورش الى فلسطين ربما يكونون قد حملوا معهم الاساطير والمعتقدات البابلية . فهل برزت المندائية هناك كما تذهب نظرية الاصل الغربي للمندائية )) ؟

يبقى ان نقول ان المندائيين الذين عاشوا الفي سنة في ميسان وحدها كانوا يكتبون اسم المدينة مجزأ هكذا – مي – وتعني بالمندائية الماء و – شان – وتعني القصي اشارة الى وجودها في اقصى الجنوب الرافديني ، ويكتب الاسم بالطريقة نفسها باللغة السريانية ، اما بالعبرية فيكتب ميشين وبالفارسية ميشيون والعربية ميسان . والملاحظة الاخيرة التي نود طرحها في نهاية المطاف هي ان الصابئة المندائيين كانوا يكتبون اسم مدينة اورشليم مجزأ ايضا هكذا ( اور – شليم ) فهل هناك علاقة من نوع ما بين مدينة اور الرافدية وبين اورشليم الفلسطينية – القدس - ؟



هوامش

1- الموسوعة العالمية للاثار . اشراف ليونارد كوتريل . تأليف 48 عالما اثاريا . الهيئة المصرية للكتاب 1977 . موضوعة ايران ص 231 .

2- المصدر السابق نفسه ص 499

3- المصدر السابق ص 231

4- المصدر السابق ص 499

5- السومرين ليسوا اكرادا . علي الشوك جريدة الحياة

6- الموسوعة العالمية للاثار ص 500 .


عن كتابات



Opinions