سناء الانصار- سنوات إزدحمت بالمجد
باغتني ذلك الجهاز في صمته .وكنت منشغلا فيه ، احاول ايجاد الخلل ، رغم اني ، لا أعرف شيئا في هذا المجال .
ولاادري اذا كان هو معطلٌ ، ام كانت هي الحرب .
النهارُ..
شمسهُ مذهبة ..
صبحهُ يبعثُ الندى ..
وظلاله تضفي اخضراراً على بعض الاحجار ، فتبدو جميلة كالزبرجد . { ئه رموش } ، هو اسم ذلك المكان ،قرية صغيرة ، هجرها اهلها ، هرباً من قلق الحرب .
ينابيعها صافية ، واشجارها طرية كثيفة .
حين اتأملها ، اشعرُ وكأنّي اسكنُ في قصيدة ، انها تحملُ السحرَ ذاته . هناك .. انظرُ في الافاق ، وحدها التي تراني ، فلا شكّ عندي ، بانَّ علاقتي بالسماء والوانها ، علاقة مطلقة، هي كانت جزء من خيال شعري ، رغم حجب السحب احيانا .
مجموعة صغيرة من الانصار، لم يكن قد شابهم الجبل ، ولا استحال في رؤوسهم الامل ، اجتمعنا هناك ، لنشكل مفرزة استطلاعية ، تتقدم مقرات الاعلام والمكتب العسكري للانصار في وادي { خوا كورك }.
انقطاع الاتصال مع القيادة ، امر يبعث على القلق ويثير في نفوسنا الحيرة. لكن وجب مناقشة الموقف .
القصف المدفعي لا يصمت ، إلاَّ حين يحلق الطيران العمودي فوق المنطقة . وهناك في الجانب الاخر ، اطلاق نار كثيف ، مصدره جهات كثيرة ، والصدى يردهُ الوادي ، مما يشعرك ، بأنّ اشتباكا قد حصل . بعد جدل استمر لساعات ، اختلطت فيه السياسة ، بالموقف العسكري ، قررنا ان نترك المكان في سفح الجبل الى قمته .
الصعود الى الاعلى ، يستغرق نصفا وساعتين ، ويكون حادا ومرهقا . دفنّا بعض الاثقال تحت الارض ، وحملنا بعض امتعتنا على ظهورنا ، وعلى الحيوان مايسد الرمق ليومين او ثلاثة .
اينما تعلو في كردستان الجبلية ، فانت مازلت في الوادي ، فذلك جلبابُ السماء ابداً ، وان هناك قمما لم تصلها بعد .
وجدنا مكانا مناسبا ، وبدأنا كما يفعل الانصار عادة ، بالاستطلاع ، ثم ترتيب المكان ، وجمع الحطب ، وبعدها ، تُوزع على المجموعة بعض المهام العسكرية الاخرى .
مازال جهاز الاتصال لايعمل ، ولم نعرف شيئا عن رفاقنا في مقرهم { بير بنان }. بتنا ليلتنا الاولى ، وكان يحدونا امل ، بان رسولا سيصل ، يحمل لنا اخبارا مطمئنة .
والحقيقة النافعة ، اني اعرف ُ، تفاصيل تلك التضاريس جيدا ، فلم يراودني اي هاجس خوف بالضياع . لكن جلّ مانخشاه ، هو ان يكون الجيش قد قطع طريق العبور باتجاه الرفاق . وكنا ايضا مترددين في العبور، فليس عندنا امر بالانسحاب ، وربما يريدون منا ان نكون في المكان .
لاندري ...
ولكن عندما جاء الرفيق زمناكو ، بعد جولة استطلاعية ، و اخبرنا بانه راى الجيش يتقدم نحو المقرات ، دون توقف ، قررنا هذه المرة الالتحاق برفاقنا وفي الحال ، رغم اعتراض البعض منا . ان بقائنا في ذلك المكان ليوم اخر يعني محاصرتنا ، ووضعنا امام خيارين ، اما الموت اوالانسحاب الى الاراضي التركية . وعلى كل حال ، كل شئ كان مغامرة .
ايّ ثقوب في راسي ..
اين زورقنا والفرات ..
والقنديل مضاء..
تتراقص حوله فراشاتنا المنزلية !؟
لِمَ انهالت على اجسادنا الحرب
حتى خجلت من شهدائنا الافلاك
فارسلت نجومها ، شموعا لقبورهم !؟
المسافة الى هناك ، تستغرق من زمننا اربعة الى خمسة ساعات ، ان لم تكن هناك عوائق ، والطريق شديدة الوعورة ، ملأى بالصخور الكبيرة ، لذلك لابد من الحذر من كمائن الجحوش .
تحركنا على عجل .
وقد حبستُّ خواطري في رف ٍ، صنعتهُ من خشب الذاكرة .
الطريق المفعمة بالحياة ، كانت خالية ، والقصف لايهدأ ، اطلاق النار مازال متواصلا .
اينَ خط الاستواء ..
يمرُّ من هنا ..
فالزمن ، نسيتهُ منذُ إعتليتُ صهوةَ الجبل .
والعشبُ الاخضر ..
يدججُ رأسي ..
باوهام الليالي البليلة ..
ومحابس مشذرة ..
ومسافةٌ تمتدُّ بي الى الناصرية ، استريح في حضن فراتها الدافئ .
طرائفُ ابو حسين وسخريته اللاذعة ، تتجلجل لها قهقهات النصير زمناكو الجميلة ، وتبددُ الصمتَ ، وهاجس القلق ، في ان ٍ معا ً.
وصلنا بعد ساعة ونصف الساعة ، الى مكان ، انتشر في كهوفه وعلى صخوره المئات من بيشمركة الحزب الديمقراطي الكردساني ، وحزب الشعب ، والاسلاميين ، وكانت هناك بعض العوائل ، التي فرَّت من جحيم النار .
قال لي بعضهم ، ان الجيش يلتف حولنا ، وان علينا الاستعداد ان نخوض معركة ، فليس لنا من حيلة اخرى .
فقلتُ .. ياطيور الحذاف خذيني الى اهلي والقصب ..
لقد طال بي المقام ..
واحلامي تهربُ ..
من ليلٍ ، تشتدُّ عتمته ، كلما اخترقته قذيفة .
لم اكنْ مقتنعا بما اخبروني ، ومازلتُ متاكداً بانَّ هناك بعضاً من منافذٍ ، لم يصلوا اليها بعد . وانَّ المعركة َ مافُتأت مبكرة .
بعد استراحة قصيرة ، تركنا تلك الجموع ، وانحدرنا نحو الروبار ، اشتد الظلام في منتصف المنحدر ، واشتد القصف المدفعي ، كانت القذائف تسقط بكثافة قربنا ، وكأنَّ احداً يترصدنا ، وكنا ننحدر بسرعة ، يقع بعضنا متعثرا بالصخور بعد ان ضاعت معالم الطريق في العتمة القاتمة .
قررنا ان نمضي ليلتنا على ضفة النهر .
عزفُ خريره .. لحنٌ حزين ..
امواجه ُ هادئة .. كأنها تختبئ خائفة ، من شظايا القذائف ..
ومتعبة ، ارهقها طول المسافة مثلنا .
نحذو حذو الموجة ..
وانبلاج الصبح ، ليس نهاية الحرب ، وتحت العيون اسئلة كثيرة ، لا احد يجيب عنها .
لا احد هنا، نحن وإنسياب النهر، ونيرانٌ ، تدلُّ على انّ القتلة قد استشروا كثيرا ، وعلى الشفاه سؤال واحد ..
هل سلك الرفاق هذه الدروب قبلنا ؟ ، والى اين ؟ . لااحد يدري .
بعد ساعات من المشي المتواصل ، ولاريب ، ان في راس كل واحد منا ، هاجس ما ، ينذر بخطر ما . لكن كلّ ما نسعى اليه في ذلك الوقت ، هو ان نعرف الى اى مكان اتجه الرفاق .
على تلة غير قريبة ، هناك من يلوِّح لنا ، ترددنا اول الامر ، ثم اتسعت المسافات بيننا ، وكنا مستعدون للقتال ، كما بدى لنا بان الاشتباك لابد منه . اقتربنا ، نسمع صراخا ، لا نستطيع ان نميزه ، ثم تقدمنا اكثر، حتى سمعنا ان احدا ينادي باسمائنا ، فصاح الرفيق سعيد عرب ، ان ذلك صوت الرفيق ابو حمدان .
كم كنا مسرورين ،عندما التقينا باربعة من رفاقنا ،وقد كانوا يبحثون عنا ، في تلك الدروب القاسية ، التي لاتؤدي الى فضاء .
وبعد استراحة قصيره ، أكلنا فيها شيئا ، مما جلبهُ الرفاق معهم ، واصلنا تحركنا ، وامامنا عدة ساعات لكي نصل الى المكان الذي انسحبوا اليه. وهناك .. وقعت الحرب .
تلكَ سأروي تفاصيلها ، في المرةِ القادمةِ .