سناء الانصار ... سنوات ازدحمت بالمجد – 4 –
مرة اخرى ، وإن كنتُ اختبأ دوما في محبس ذاكرتي ، الا أنرائحة الخردل مازالت تزكم انفي ، هي وانفاسي ، يختلطان ويلتصقان ببعضهما كدبق ثقيل ، لزوجته اخترقت اسوار رئتي ، وحرارته احرقت عيني ، دموعي مافتات تنهمر وترسم بين الحين والاخر ظلالا قاتمة ، فارى الاشياء كاشباح تتحرك وسط سحابة دخان كثيفة ، والجبال كطناطل متوحشة توشك ان تنقض علي .
ومع كل هذا الخوف ا لقادم من جبروت ، لا سلطان لي عليه ، فقد كان يتناهى لي من خلف الافق ، صوت يخترق الضباب ، برسل انغاما ضامئة تدعوني الى الرقص في دائرة من الحب والياسمين .
ارتفعت حرارة العواطف في لحظة زمنية غائبة ، فلاجلها قررت ان اهاجرولاجلها همت في صحراء شاسعة وملتهبة ، ساشتري لها الماسا وذهب وسابني لها بيتا زجاجه من القرنفل ، وستحسدها فتيات قريتنا على هذا الذي هي فيه.
فكان الوادي بيتنا الفسيح و فردوسنا العالي ، كقصر ارستوقراطي ، سُيج بسلسلة من القمم لحمايتها ، والزا ب العظيم ، مجرد ساقية من الزهور تستحم فيه كل مساء .
لا ليس هكذا .. ساخذها ا لى هنااك ، حيث ولدت طفولتنا ،ا لى الالوان الحمراء والعطر الدا فئ ومآذن المتصوفيين .
هذه الخواطر كانت تداهمني دائما في الليل ، عندما اتهالك على فراشي واي فراش ! ، لكنها اليوم تتسرب في كل وقت ، ولا ادري اذا كان الغثيان الذي سببه لي الخردل له علاقة بذلك ، حيث الليل صار ازلا .
اذن .. بداتُ وكثيرون غيري ، نتجاوز مكيدة الغاز السا م ، لكننا نحتاج الى المزيد من الوقت والمزيد من الغذاء ، لكي نكون قادرين على تحمل مشقة مسالك جبل متين .
في ذلك الفجر، حيث لم يظهر قرص الشمس الذهبي من خلف الجبل بعد ، ولكن انتشرت هالة من الضوء فوق قممه الشاهقة . جاء ناحيتي امر المفروة وامرني بالاستعداد الى التوجة الى كلي خوى كورك ، كانت مفرزتنا عندما عدنا من مقر كافيا باتجاه كلي زيوة ، كبيرة ، واليوم علينا التحرك بنصف تلك المفرزة وبنصف قوانا الجسدية وبنصف بصر . كنت مشغول الذهن ، كيف لي ان افتح عيني على وسعهما في ظلام حالك ، فانا دليل المفرزة وهذه مسؤولية كبيرة وجميع المسالك في هذا الوقت بالذات فيها الكثير من المخاطر وتحتاج الى شئ من المجازفة والمغامرة ، وستكون المسؤولية اكثر ثقلا عندما يكون في المفرزة كبار السن من الكادر الحزبي او من المرضى .
كان الرفيق ابو عامل يلح على الحركة ولايحبذ البقاء في كلي زيوة مدة اخرى ، لذلك تابطنا جبل متين وتضاريسه القاسية وسفوحه الصخرية الصعبة ومشينا . بتنا ليلتنا الاولى والثانية في القرى الواقعة على الطريق حيث كنا نتحرك اثناء النهار وعلى الرغم من شعورنا بالتعب وحاجة اجسادنا الى غذاء مختلف ، يقتل ماعلق فيها من سموم متبقية ، الا ان ذلك لايمنع من ان نواصل المشي لكي نصل الى كلي خوى كورك .
كانت هناك مسافة ليس قصيرة علينا ان نسلكها ليلا ، اي علينا ان نمشي ليلة كاملة تقريبا او اقل من ذلك بقليل .
وصلنا الى احدى محطات استراحة البيشمركة ، وهي عبارة عن قرية هجرها اصحابها دون ان يتركوا معلما يدلني على اسمها ، او اني نسيته لعدم اهميته عندي في زحمة الهواجس ، فقد تعودت ان احفظ اسماء القرى والوديان والجبال التي امر بها .
في هذا المكان الذي لايفصله عن الحدود التركية ، سوى امتار قليلة واعتقد ان جزءا من هذه القرية الخالية يقع فعلا في الاراضي التركية ، كانت استراحتنا في النهار .
ليلتنا الثانية بتناها في قرية ادلبي ، تلك القرية التي احببتها لكثرة ينابيعها ولجمال نسائها وود اهلها وحرارة ترحيبهم بالانصار . و تحركنا منها في الصباح الباكر، كنا نسير ببطئ ونقيم الاستراحات الكثيرة فلدينا من الوقت مايكفي ، حيث مسيرتنا القادمة ستكون اثناء الليل .على كل حال وصلنا الى هذه القرية المهجورة بعد الظهر بقليل ، وهناك اشعلنا نارا وعملنا شايا واكلنا من امتعتنا شيئا زهيدا ، كان في المكان مجموعة من البيشمركة وبعض المهربين وهم موزعون على شكل مجاميع صغيرة لاترتبط مع بعضها باية علاقة .
هناك شد انتباهي رجل واقف يتكأ على عصا من الجهة اليسرى ، و كانت احدى عينيه غائرة ، وانفه معكوف قليلا ، فيبدو كنسر يبحث عن فريسة وسط غابة من اشجار البلوط والصفصاف ، كان طويل القامة مربوع الجسم ويحملق بنا واحدا واحدا .
لايبدو ذلك الرجل على انه من اهالي المنطقة ولم تبد عليه مايدل على انه من الفلاحين بل كان منظره يوحي انه ممن يسكن المدينة .
كان يغيب لبعض الوقت ثم يظهر امامي من جديد، يلتقي ا لفلاحين الذين يتدحرجون من الجبل او الذين يتسلقونه ، كان يستوقفهم بالحديث او السؤال عن شيئا ما . وكنت في البداية اشغل نفسي عنه واحاول اهماله لكني كلما ظهر امامي او نظرت في عينيه يزداد ارتيابي به ، ورحت افكر بطريقة اخرى ، حتى توصلت الى قناعة بان علي ان اخبر امر المفرزة وابو عامل بذلك ، ففعلت .
الطريق الذي اعتدنا ان نسلكه هو ان نصعد القمة باتجاه عادل بك وهذه المنطقة مليئة بالجواسيس ومن كل الاصناف والاجناس ، واذا كان الرجل يخبئ شيئا ما فلابد ان تكون الكارثة عند عبور القمة مباشرة . جرت مناقشة للامر وبدى لنا بان امر ما سيحصل .
ترك رفاق المفرزة القرار في اختيار الطريق المناسب لي ، ولهذا اخترت مغامرة اخرى ، وهي ان نمشي لليلة كاملة في عمق الاراضي التركية هذه المرة . وعلى الرغم من اني اعرف هذا الطريق ، فقد سبق لي وان مررت به ، لكن ذلك كان من مدة طويلة وليس لدي اية معلومات ، اذا كانت هناك تطورات جديدة ومخاطر محتملة في هذا الطريق ولااستطيع ان اسال احدا ففي هذا المكان تكون الثقة مفقودة ولايمكن التعامل بها ابدا ، لذلك تركنا الامر في طي الكتمان .
قبل المغيب بقليل ، وفي غفلة من الرجل الذي غاب عن الانظار لبعض الوقت ، شددنا الرحال ، ولمسافة جدا قصيرة ، بدأنا نسير وسط عتمة رهيبة ، كنت افتح عيني على قدر مااستطيع لكي اتبين شيئا من معالم الطريق ولكن دون جدوى ،حتى اني شعرت بالخوف من اننا نتجه نحو المجهول ، حيث كنا نمشي تحت معسكرات الجندرمة ، ويزداد خوفي كلما خطر ببالي ذلك الرجل المشبوه ، ترى هل كان يراقبنا عندما تحركنا وهل عرف باننا غيرنا اتجاهنا المعتاد .
مرت ساعات على حركتنا ، هنا لاصوت ولابصيص ضوء ولاتدخين ولا استراحة حول موقد للنار ، هنا صمت وحذر وتأهبا للقتال .اذ علينا ان نصل قبل النهار مهما كانت شدة التعب .
وصلنا الى الروبار الذي يفصلنا عن العراق قبل الفجر ، كانت امواجه تتلاطم ، كالعواصف العاتية ، وهدير صوته يثير الرعب ، و لايمكن عبوره في الليل ، ويجب ان ننتظر الى ان تظهر خيوط الفجر الاولى لكي يتسنى لنا انقاذ بعضنا بعضا .
هناك اكلنا قليلا ، ولم يبقى الكثير من الوقت لكي ننام ، ولمدة ساعة تقريبا من الانتظار والتقاط الانفاس ، حتى بدات قناديل الضوء تدق اجراسها في الافق ، فنهضنا نستعد للعبور ، وبسرعة فائقة استطعنا ان نكون في الجانب الاخر وكان المفيد هو ان لا اثقال معنا وليس بيننا من المرضى وكبار السن عدا الرفيق ابو عامل وهو معروف بقدرته على المشي كالشباب وما ان عبرنا الروبار حتى انهال علينا بعض من رصاص الجندرمة ، ومع ان تلك المنطقة خالية من الاشجار والصخور وهي امتداد لدشت براز كرت ، الا اننا استطعنا التخلص من الرصاص وذلك باننا سلكناوادي ضيق وصغير وكنا نخشى الطيران ، ولكن يبدو انه لايستطيع ان يحلق هنا .
على الرغم من ان الاراضي العراقية اشد خطرا ، لكنني شعرت بالطمانينة وتملكني شئ من الفرح .
ذلك لم يدم طويلا عندما عادت رائحة الخردل ترتدي جسدي من جديد .