شجون آشورية من وحي السابع من آب
في مطلع الثمانينات وفي إحدى الامسيات تسللت إلى شرفة المنزل حيث كان والديّ (رحمهما الله) في حديث كان يبدو انه قد بدأ لتوه. كان الوالد قد وصل لتوه من العمل وقد استقبلته الوالدة بسؤال كانت قد طرحته للمرة الثانية أو ربما الثالثة:ـ ألا تريد ان تخبرني لما كل هذا الحزن والارهاق؟
ـ لا شيء.. لا شيء... انه العمل والمشاكل المعتادة اليومية.
ـ عيناك تقولان انه ليس العمل. العمل يرهقك ربما، اما أن يحزنك، فذلك لم أعتد عليه.
ـ ربما هو العمل وربما لا... لست أدري.. لست أدري. { قال جملته وأتبعها بتنهيدة }
ـ أفصح فقد أقلقتني.
ـ انه الجرح القديم ذاته.. يبدو ان الزمن هو الآخر عجز عن مداوته. اليوم تعرضت لموقف موجع، أثار شجوني وفتح جروحي، وكدت أن أفقد أعصابي...
ـ أي جرح؟ وهل تشاجرت؟ لا أفهم.. أفصح ماالخطب؟ { كانت الوالدة تلملم كلماتها وقد أتعبتها إجابات الوالد المبعثرة بدورها}
ـ كان الشيء الوحيد الذي يعزيني في جنسيتي السورية، ان فيها ركن كُتب فيه انني من مواليد العراق. يبدو ان المسألة أكثر تعقيداً، وعلينا ان نكون محصنين تجاه كل موقف يواجهنا، كذلك الذي عشته اليوم. فاليوم وبينما كنت أسوي بعض المعاملات في أحد الاقسام التابعة للمؤسسة، فإذا برئيس القسم ـ المنقول حديثاً إلى المؤسسة ـ ينتفض بمجرد ان رأى هويتي الشخصية:
ـ أنت من مواليد العراق وتحمل الجنسية السورية! منذ متى وكيف حصلت عليها ولماذا؟
ـ أحملها لانني أعيش وأعمل هنا منذ فترة طويلة.
[[ كانت العلاقة بين سورية والعراق في تلك الفترة سيئة للغاية، لاسيما بعد ان وقفت سورية علانية إلى جانب إيران في حرب الخليج التي دامت قرابة 8 أعوام. والحكومة العراقية انذاك كانت ترسل ومن وقت لآخر بعض العناصر لغايات تخريبية مستغلة أيضاً حالة الصدمة التي عاشتها سورية جرّاء الفوضى التي خلقها تنطيم الاخوان المسلمين بأفعاله الارهابية المروعة والمدعوم وقتها من الحكومة الاردنية. وقد كان ذكر اسم العراق أيامها لا يبعث على الارتياح ويثير الكثير من الشبهات، ويفتح قريحة رجال الامن وغير الامن على تطفّل ـ حدّث ولا حرج ـ وقد أراد رئيس ذلك القسم ان يلعب دور الانسان الوطني الحريص واليقظ والفطن!. بالمناسبة دور الوطنية في سورية يتقنه حتى الشحاذ إذا ما تطلب الموقف الراهن!. ]]
ـ لكنها المرة الاولى التي أرى فيها شخص يحمل الجنسية السورية وهو من مواليد العراق.
ـ ربما هي حالة استثنائية، لكن لها مسبباتها وظروفها.
ـ وما هي أسبابها؟
ـ انه موضوع طويل وليس لدي الوقت الان، فأنا على عجلة من أمري.
ـ ولكني أريد ان أعرف.
ـ الموضوع باختصار يخص قضية الاشوريين في العراق، وهناك مراجع كافية بهذا الشأن. بإمكانك الرجوع أليها.
ـ الآشوريين القدماء! وما هي علاقتك بهم وما قصة هذه القضية؟!
ـ نعم الاشوريين القدماء، وأنا واحد من أحفادهم، ولا بد انك سمعت ان مركز الامبراطورية الآشورية القديمة هو في العراق الحالي.
ـ { باستهزاء } امبراطورية وفي العراق الحالي! إذاً ماالذي تفعله في سورية؟
ـ قلت لك انه موضوع طويل... حسناً انه يتعلق بثورة الاشوريين وتداعياتها التي أسفرت عن مذبحة رهيبة، وتهجير أنا واحد من ضحاياه.
ـ ولماذا سوريا، وكيف دخلتم الاراضي السورية؟ ولماذا حصلتم على الجنسية؟
ـ كان ذلك اتفاق بين الحكومتين الانكليزية والفرنسية انذاك. { وقد بدأ يضيق ذرعاً بالاسلوب المخابراتي هذا } اسمع، إذا كانت اسئلتك بدافع المعرفة، أعدك بإحضار كل ما يتعلق بهذا الموضوع لاحقاً، إما إذا كنت تبحث عن شيء خلف هذه الاسئلة، فدعني أقول لك انك تضيع الوقت لا أكثر، وبصراحة..
ـ { مقاطعاً } اتفاق.. انكليز.. فرنسيين... شغلة كبيرة!
ـ يلعن ابو الانكليز على أبو الفرنسيين على أبو الساعة...
حدث بعدها تلاسن، انفض إثر تدخل بعض العاملين في ذلك القسم.
لم أعد أذكر الكثير من ذلك الحديث، رغم انه بقي بصورته في مخيلتي حتى الان. ولكني أذكر ان الوالدة وبلهفة ممزوجة بالخوف والبساطة التي كانت تتميز بها الامهات الاشوريات سألت، هل أخبرته انك كنت في جيش الليفي؟.
مع هكذا احمق وطفيلي! بالطبع لا. أجاب الوالد وطلب إحضار الطعام محاولة منه لإنهاء الحديث.
وما هي إلا ثوان، حتى رأيته يطلق تنهيدة عيمقة أشبه بصرخة ثم تمتم قائلاً: ليوي / الليفي /. بدا وكأنه يتحسر على تلك الايام. أطلق بصره محدقاً في الافق، وسرعان ما بدأ يرنّم لحن تلك الاغنية التي كانوا ينشدونها أثناء المسير. كان نوعاً من العلاج والعزاء يمارسه بين الفينة والاخرى، كنا قد عهدناه في البيت، وعهدنا طقوس أخرى، وعهدنا كل القصص، أحياناً كانت مكررة، لكننا مع الوقت أكتشفنا ان كل جانب فيها يصلح لان يكون قصة بحد ذاتها. البعد الانساني الكامن خلف تلك الذكريات والمآسي يجعلك تعاصر اناس لم ترهم من قبل، ويجعلك تألف أماكن لم تطأها قدماك. الاصرارعلى الحياة وبشموخ هو معنى أخشى اننا نفتقده في أيامنا... أما عن معنى الحياة وقيمتها في تلك الصفحات، فأخشى ان أخط كلمات غريبة عن قاموس النفاق الذي تغرف منه شريحة واسعة من الشعب الآشوري.
كنت أتابع وأراقب عن كثب أحاديث الليوي وقاعدة الحبانية وولاية الموصل التي كان الوالد يتبادلها مع أصدقاءه المُهجّرين. كان الحنين عراقياً، والالم عراقياً، والامل عراقياً. أحياناً كان الحديث يمتد إلى جبال الهكاري.. إلى بقع أخرى وفظائع أخرى سبقت سيميل. من يومها وأنا أعيش عقدة المكان والزمان. إلى أي مكان انتمي؟ هل توقف الزمان عند هذه الذكريات؟. أقسى ما كنت أسمعه هو موضوع فقدانهم لأهلهم وأقاربهم، ليس في المعارك أو المذابح التي تعرضوا لها، بل في طرقهم وهم راحلين هاربين وخائفين. ما أقساها من حياة تلك التي عاصروها. أكثر الصور تعبيراً عن مآسيهم كانت عندما يتلقى أحدهم خبراً ان له قريب في روسيا أو ايران أو امريكا، فيبدأ بالمراسلة أو الاتصال عبر الهاتف. كانوا يستدلون على بعضهم من خلال المأساة الفلانية والاعتداء الذي وقع في تلك المنطقة والمذبحة التي شهدتها القرية الفلانية!. تصلح طريقة وصف بعضهم ، وطريقة تصنيفهم للمجموعات وتحديد تواريخ هربها ورحيلها لان تكون مادة دسمة لكوميديا سوداء!.
هو السواد يلف هذا الشعب المُضطهد على أرضه. سيميل لم تكن الاولى.. وهي ليست الاخيرة... وغدر خان بيك لم يكن أول السفاحين في تاريخ الهولوكست الآشوري. وصوريا قد لا تكون أخر القرى المذبوحة. وسيفو قد تتكرر في أي بقعة يتواجد فيها الشعب الآشوري. وقد لا يكون الفاعل غريباً، يكفي ان يكون آشورياً وساذجاً فيشارك، يكفي ان يكون آشورياً وأنانياً فيشارك، يكفي ان يكون آشورياً ويتنكر لآشوريته، ذلك هو الهولوكست الحقيقي!.
لماذا الالم والشجون ؟
سألني أحد المتصيدين في الماء العكر: تتحدثون عن العراق وكأنكم قد حصلتم على الجنسية العراقية؟
قلت: نحن جيل مجروح. ذكرياتنا.. ماضينا.. حكاياتنا... هذا ما ورثناه وهذا ما نملكه. الجذور مسألة صعب أن أكتب فيها نظرية وأسأل أين وجه الصحة فيها وأين الخطأ. انه الالم ما يعتريني.. الالم عندما أجد دم الشهداء وقد أصبح سلعة للنفاق. لم أسمع ان دم الشهداء الآشوريين الذي أُريق على أرض النهرين.. الرافدين... كان من أجل ان يتعلم أطفالنا الان اللغة الكردية!. لم أقرأ في مذكراتهم انهم كانوا يحلمون بأرض يكونون فيها عبيد..ثمة علاقة بيني وبين هذه الارض أشبه بالوعد.. لا أزايد ولا أرفع شعارات.. هؤلاء هم أهلي واحبابي وهم في كل مكان مبعثرون.. احزانهم أحزاني.. وأفراحهم أفراحي... وجميعنا نتطلع إلى بقعة واحدة... جميعنا نبحث عن حل ينهي رحلة الالم هذه. وشجوننا وألمنا على أولئك الاشوريين الغارقين في المستنقع الكردي.أحياناً أشفق على البعض واحياناً أشمئز وكثيراً ما أقول، إلى جهنم وبئس المصير. انه الجرح وعندما نداوي هذه الجراح، ستجدني في اليابان أكتب عن شهداء هيروشيما وناغازاكي وسأقول:
غداً أيضاً وفي السابع من آب، ألقى حفنة من الأشرار نار غضبهم وحقدهم على شعب مسالم هو الشعب الآشوري.. في أرضه وارض أجداده.
المكان: سيميل. العراق
الزمان: 7. 8. 1933
الضحايا: أكثر من خمسة آلاف.
سبب المجزرة: محاولة طرد السكان الاصليين من بلادهم.