Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

8 شـباط ، مـا أشـبه اليوم بالأمس ـ 2

اتـصل بـي أحـد الأصدقـاء ليقـول لـي : إن القسـم الأول مـن موضوعي عـن 8 شـباط كان طويـلا وحبـذا لـو جعلتـه حلقتـين . . رأي الصـديق صائب ، ولكـن نشـرته في حلقـة واحـدة لأنـه يتعـلق بفتـرة عبدالكريم قاسـم ومـا فيها مـن خيـر وألـم ، ولـم أرغـب تقسـيمها حفـاظا على ترابـط التـناول ، أمـا في شـأن الطول فإنـني مـع القـول : إذا أطعمـت فاشـبع ، وإذا ضربت فـأوجع ، وإذا كتبـت فاوضـح . . ومـع فإنـني مـع الإيجاز ومـن دعـاة " خيـر الكلام مـا قـلّ ودلّ " عنـدما تكون قلـة الكـلام وافيـة لإعطـاء الدلالة ، وقليلـه يـدل علـى كثيـره . .
ونبـدأ في القسـم الثاني ـ وهـو الأخير ـ مـن حيث انتـهينا في القسـم الأول ، إذ كنت في حيـنه مديـرا لمدرسة خانصـور ( القريبة مـن الحدود السورية ) في ناحية الشمال ـ قضاء سـنجار ، والحقيقـة كنت في أقصى درجات الضجر في اليوم الثاني بعـد إذاعة الإنقـلابيين لنبـأ إعـدام قاسـم ومـن معـه ، وتصاعـد تصفيات الحقـد البعثي مـع بيـان الحاكم العسكري للإنقلابيين رشـيد مصلح التكريتي ( تـمّ إعدامـه عـام 1970 مـن قبـل نظـام بعـث 1968 بتهمة التجسس ) . . وكان اليوم الثاني للإنقلاب السبت ولا يوجد دوام بسـبب الحـدث المشـؤوم ، وأنا جالس في البيت أسمع الراديو جاءني فراش المدرسة خضر حسين قائلا : إن صاحب الدكان المصلاوي ( نسيت اسمه ) دخـل المدرسة ، وكان بيتـي يبعـد عـن المدرسة نحـو عشرين مترا ، فذهبت وقلت لصاحب الدكان خيـرا ، قال : جئت لأمـزق صور عبدالكريم قاسم الموجودة في المدرسة ، قلـت له : أنت إلى مـا قبل يوميـن كان دكانك مملوءا بصور عبدالكريم وكنت تقول أنك قاسمي ، أجاب : لا ، أنـا بعثـي ، قلت لـه : أهلا وسهلا ، مـع بـدء الدوام سأطلب من الفراش إفراغ كل الإطارات مـن صور عبدالكريم ، قـال : لا أنـا أمزقها اليوم ، قلت : افعل مـا تشاء . . وأخذ ينـزع الصور ويشتم ويدوسها بأحذيتـه ، فقلت في نفسي : هنيئا لك ياعبدالكريم وأنت في الآخرة ( بقاسميك الأوفياء ) . .
وأخـذت الذكريات تجول في ذهني . . وتذكرت منـها ، بعد يوم مـن محاولة اغتيـال عبدالكريم من قبل البعثيين في تشرين الأول 1959 كنت أتطلع إلى مكتبات شارع النجفي بالموصل ووصلت إلى مكتبة ( العسلي ) المعروفة بأنها مكتبة البعثيين والقوميين ، ووجدت صاحب المكتبة وعدد مـن خلانـه يجمعون التواقيع لشـجب ( عملية إغتيـال الزعيم القومي الأوحد عبدالكريم قاسم التي قام بها الفوضويون الشيوعيون ) بالنص أتذكره جيدا وهو مـا كان مكتوبا في أعلى أوراق جمع التواقيع ، وكان صاحب المكتبة وخلانه يصيحون ( ندعوكم للتوقيع وشجب محاولة الفوضويين الشيوعيين لاغتيال الزعيم القومي الأوحد . . ) .
وعصـر ذلك اليوم ، كـان معاون أمـن قضاء سنجار ( القاسمي ) يؤدي واجبه تجاه الإنقلابيين ( بعدما علم بانتصارهم وإعدام قاسـم ) مع مفـوض شرطة ناحية الشـمال ، بتفقد الوضع في قرى الناحية ، وطلب المعاون منـي ومـن معلم المدرسة ( وهو من كاني ماصي ) خوشابا شـمعون مرافقـته إلى سنجار ، فقلت لـه لماذا ؟ قال : بعض الأسئلة وتعودان حالا ، قلنا : وهل نأخذ بعض الملابس ، أجاب : لا أبدا ساعة وتعودان ، قلنا : خيرا . .
وصلنـا سنجار وأدخلونا في قاعة كبيرة في شرطة سنجار ، كان فيها نحـو عشـرة أشخاص عرفنا بعضهم ، وسألناهم عـن وقت وصولهم هنا ، أجابوا قبل ساعة ، وحسب قولهم لأسئلة بسيطة وحتى الآن لاشئ ، قلنا : وهذا ما قالوه لنـا . . وتواصـل التجميع وخلال ثلاثة أيام وصل العـدد الخمسين ، غالبيتهم مـن المعلمين والباقي مـن الفلاحين . . ويبـدو أنهم استخدموا العدالة لأنهم اختاروا مـن كل قرية تمكنوا مـن الوصول إليها شـخصا أو إثنين والقـرى التي ليس فيها مدرسة أخذوا فلاحا لكي لايعودوا فارغين ، بعض الموجودين كانوا بـعيدين كليا عـن الشيوعية مثل منيـر ( مسيحي ) معلم سنوني وخـدر ( يزيدي ) مدير مدرسة بـارا ، وكمـا تبين أن معاون الأمـن ( القاسمي ) كان عـادلا ، فقـد اختار الذين اعتـقلهم بأعداد متساوية بالنسبة للأديان والقوميات . . وللتأريخ أقول ، أثبت أهل سنجار إيزيدية ومسلمين ومسيحيين كرما معـنا فقـد كانوا كـل صباح وظهر ينقـلون لنـا الطعام مـن بيوتهم ويقولون أنتـم ضيوفنا لاتأكلوا طعام الشرطة ، كمـا أن أميـن عبـدو ( وكان من وجهاء سنجار ، وهو عـم ووالد زوجة الشخصية الكردية سامي عبدالرحمن الذي استشهد قبل نحو ثلاث سنوات في تفجير إرهابي استهدف مقر الحزب الديمقراطي الكردستاني في أربيل ) مـن الذين عملوا كثيرا للإفراج عنّـــا .
ومضـت الأيام ، وكل الذين جمعوهم ، ظلّـوا في قاعـة شرطة سنجار مـن دون أي سؤال ، ومـن دون أن يستطيعوا رؤية معاون الأمـن بعد إعتـقالهم ، وكل الذي كان يصل مـن الشرطة ووجهاء سنجار ، أنـه لايوجد شاهد ضد أي منكم ولا بـدّ مـن الإفراج عنكم ، وبعـد أكثر مـن شهر ، أبلغتنا الشرطة جميعا أن نهئ أغراضنا ونرتدي ملابسنا الإعتيادية ، سألنا الشرطة : هل حلّ الفرج ؟ أجابوا : لانعرف هذا مـا طلبوا أن نبلغكم بـه ، وخرجنا حيث كانت سيارات بانتظارنا ، وبعـد مسيرة قصيرة عرفنا أننا باتجاه الموصل . . وكانت محطتنا في الموصل سرداب مركز للشرطة ( أعتقد اسمه الفاروق ) وعلى رغم سعة السرداب فقـد صار لكل شخص نحو متر واحد طولا وأقل من نصف متر عرضا لكثرة تدفق حشر الناس فيه ، نحن من سنجار ومن الموصل وألقوش وبرطلة وتلعفر وغيرها .
وبحسـب ما علمنا فقد كان من أفضل مراكز الإعتقالات بالموصل راحة وسماحا بالزيارات ، بفضل مسؤوله المفوض حاجم ( هذا اسمه ) الشاب الذي لايتجاوز عمره 25 سنة مـن أهل الجنوب ، الذي كان في منتهى الطيب والخلق والإحترام والبقاء في المركز باستمرار خشية أن يحدث إضرار بالمعتقلين . . لكن ذات يوم جاء إلى المركز ( العريف سمّـير ـ رئيس عرفاء الإنضباط العسكري في لجنة التحقيق ) وكنّا سـمعنا به وبأنه أسوأ البشر خلقا وهوايته ضـرب الناس بالعصي والبسـطال لاغيـر وكان كل الطيبين في الموصل يتجنبون التصادم معه وقاية لشـره ، وطلب من الشرطة إخراج كل المعتقين إلى ساحة المركز ، فاستجابت الشرطة على مضض ، وفي تلك الأثناء كان حاجم يأكل في مطعم قريب ، فأسرع إليه أحد الشرطة وأبلغه بما يحدث ، فترك حاجم الطعام وجاء مسرعا إلى المركز ، واتجه نحو العريف سـمّير وقال له : ماذا تفعل ؟ أجابه سمّير : مـو شـغلك ، فصاح به حاجم : كيف مو شغلي أنا مفوض هذا المركز ومسؤول عن هؤلاء الناس ، وألتفت إلى شرطة المركز وقال لهم : أخرجوه خارج المركز قبل أن أفرغ طلقات مسدسي في رأسه ، فشكرناه ، فأجاب : لا أحتاج إلى شكر لأن هذا واجبي . . لكن الذي حصل بعد ثلاثة أيام استدعى مدير شرطة المحافطة المفوض حاجم ولـم نشاهده ، وقيل لنـا أنـه تـمّ تسفيره إلى جنوب العراق .
وخـلال وجودنا في مركز الشرطة ، لـم يجـر أي تحقيق معنا ، ولهـذا تـمّ نقل غالبيـتنا إلى القطاع الثاني للحرس القومي الذي كان يقوده سـالم مـلا علو ، وكنـا سمعنا قبل نقلنا بأنه بالرغم مـن سوئه كأي مقر للحرس القومي ، إلاّ أنه أفضل مراكز الحرس القومي في الموصل ، وكانت عـادة تحال إليه القضايا البسيطة ، وذهبنا إليه وكان فيه بعض الذين يمكن التفاهم معهم ومنهم سالم ملا علو نفسه وأشخاص من عائلة شيخو وشخص كان كما تبين يكتب الشعر اسمه محسن عقراوي ( وهو كردي مستعرب ) لكن كان يوجد شخص في منتهى السوء يسمونه حازم الأعور ( كان مشهورا باغتيال الناس لقاء مبالغ زهيدة في عهد قاسم ، وتم إعدامه بعد أيام قليلة مـن حركة 18 تشرين 1963 التي قام بها عبدالسلام عارف ضد البعثيين ) وأبلغونا في القطاع بوضوح بأن الذي يأتي هنا يجب أن يعترف أنه شيوعي سواء بالطيب أو بالضرب ، ونقترح أن يعيد كل منكم كتابة هذه الورقة ويوقعها من دون تعذيب ويعـود الى المركز ، ملخص الورقة ـ كما لازلت أتذكر ـ انتميت الى الحزب الشيوعي وأنا الآن أتبرأ منـه بعـدما عرفت أنه حزب عميل ومجرم . . قلنا ولكن سننكرها ونقول الحقيقة إذا تم التحقيق معنا في مكان آخر أو استدعتنا المحكمة بنـاء عليها ، قالوا : بعدما تخرجون من القاطع قولـوا مـا تشـاءون ، وبعد ثلاثة أيام عـدنا إلى مكاننا في مركز الفاروق .
وبعـد عودتنـا ، علمنا أنه سيتم أخـذنا إلى لجنة التحقيق في شأن ورقة قاطع الحرس القومي ، وعريف سمّـير هو مسؤول انضباط اللجنة ، والذي يذهب إلى اللجنة عليه أن يعرف أمرين : إما أن يدفع أهلـه مبلغا مـن المال للعريف سمّـير ويعطوه اسمه ليسلم مـن عصاه وبسـطاله ، أو أن يسـتعد ( لحمام ) جيد منه ، وغالبيـتنا آثـر حمّـام الضرب لنحو عشرة دقائق ( حيث أن الضرب لم يكن يستغرق أكثر لكثرة ضيوف عريف سمير كل يوم ) على ( دفع الإتـاوة ) لهـذا المجرم ، وأخذونا إلى اللجنة ( وكانت في مبنى دائرة ري الموصل في الساحل الأيسر ) واستلمنا عـند مدخل اللجنة العريف سمير وقادنا إلى غرفة واسعة وأخرج من جيبه ورقة بأسماء الذين دفعوا الإتـاوة وقرأ أسماءهم وطلب مـن جندي كان معه نقلهم إلى غرفة مجاورة ، ثـم أخذ الباقين وأنا منهم واحدا واحدا إلى غرفة أخرى ليقضي حوالي عشرة دقائق بين شتائمه وكلماته البذيئة وعصاه الغليظة وبسـطاله الجديد ، ليعود بعدها إلى الغرفة التي تـم نقل دافعي الإتـاوة إليها ، ثمّ أخـذوا كل واحـد منـا إلى مفوض شرطة يقوم بالتحقيق ( كان كما أتذكر أكثر من خمسة مفوضين يتوزعون كل واحد في غرفة ) ويسأل اسـمك عمرك إقامتك شغلك . . وبعدها أعمالك في الحزب الشيوعي العميل ، الجواب : لم أعمل . . ولكن يوجد اعتراف موقع من قبلك ، الجواب : هذه قصته . . هل يوجد لك شئ آخر تقوله : نعم لم تسألني حول الدقائق العشر مع شتائم وعصا وبسطال عريف سمّير . . قال المفوض : هذا لايخص التحقيق . . يقول المتهم : جيد شكرا ، ينادي المفوض شرطيا : خـذه هو والأوراق عند حاكم التحقيق ( كان في غرفة مجاورة ، وهو من عائلة كشمولة ، نسيت اسمه ) الحاكم : أجلس وأقرأ إفادتك . . بعد القراءة ، الحاكم هل أنت أدليت بها ومن دون ضغط : نعم : الحاكم : وقع أمامي . . شرطي خذه انتهى . . العودة إلى غرفة أخرى ، ثـم إلى مركز الفاروق . . وانتظر . .
أمـور كثيرة حصلت في مركز الفاروق ، بين الضار والمفيد والمؤلم والباعث للفخر . . أذكر ذات يوم جاء عبد كرموش الخشاب إلى سرداب المركز يهـدد إثنين من عائلة الشهواني بالموصل هما : سـوعان وشقيقه الأصغر منه طارق ، موقوفان بتهمة قتل سعدو أخو عبد كرموش أثناء تمرد الشواف ، فنهض بوجهـه سـوعان وكان ضخم قـوي الجسم وطوق رقبته بيديه وكاد يقضي عليه خنقـا لولا جهود الموقوفين بتخليص عبد من قبضة سوعان ، وسمعنا بعد فترة أنهما أحيلا إلى المجلس العرفي بالموصل الذي حكم على طارق بالإعدام وسوعان بالسجن وبعد وقت قصير علمنا أن طروقي إبن عبد كرموش أختطف وعثـر على جثته خارج الموصل علما أن طروقي هذا كان مجرما شهيرا بالقتل حيث قيل أنه قتل مالايقـل عن مائة شخص خلال الإغتيالات التي حصلت في الموصل خلال السنوات الثلاث الأخيرة من حكم عبدالكريم قاسم ، أما عبد كرموش فقد تـمّ إطلاق النار عليه في الموصل ولم يمت لكنه أصيب بشلل كامل ومات بعد فترة قصيرة . .
ومن الأخبار التي سمعناها بتفاصيلها من المعتقلين الجدد في مركز الفاروق ، إعـدام الشـهداء سلام عـادل ورفاقه الذين كانوا معتـقلين في قصر النهاية ( الملكي سابقا ) واللافت أنـني قرأت قبل نحو أربع سنوات حلقات عـدة لحديث طويل أجرتـه جريدة الحياة مع حازم جواد وزير داخلية الإنقلابيين الذي قـال إنه كان المسؤول العسكري للبعث أثناء الإنقـلاب وأنه وضع خطتـه وهو كان رئيس مـا سـمي بمجلس قيادة الثورة ، أشـار خلال حديثـه بأنه تفاجـأ حين علم بإعـدام سلام عـادل ورفاقه لأنه لم يعلم بذلك وعـندما سأل عرف بأن صالح مهدي عماش الذي كان من قادة الإنقلاب هو الذي أمر بإعدامهم بتصرف شخصي . . وأنا أقـرأ حديثـه الطويل قلت مع نفسي : حقيقة هؤلاء كانوا فالتون كل واحد منهم كان حكومة همه أن يصب شـره على الشعب العراقي . . وأيضا تذكرت تصريح علي صالح السعدي الذي كان من زعماء البعث في حينه ونائبا لرئيس الوزراء أحمد حسن البكر في حكومة 8 شباط ، الذي قال بعد حوالي سنة من هذا الإنقلاب : ليعلم الجميع جئنا في هذا الإنقلاب إلى السلطة بواسطة قطار أميركي . . وصدفـة التـقيت علي صالح السعدي ( وكان ترك السياسة ) عام 1974 أو 1975 ( لا أتذكر بالضبط ) في مأتـم عـزاء ابـن أخيه الذي كان يعمل معنا في جريدة الثورة ، في داره الذي أعتـقد كان في شـارع فلسطين ، وخلال أحاديث متشعبة سألته : هل صحيح ما قرأناه لك حول القطار الأميركي ، أجاب : قلت الصحيح ولا أريد أن أزيد الآن . .
وسمعنا أيضا ونحن في مركز الفاروق ، عـن صمود المعلم بنيامين أمام تعذيب الحرس القومي له ، إذ كان بنيامين يقـود حركة عسكرية تنطلق من معسكر فايدة ( بين الموصل ودهوك ) للسيطرة على الموصل ، وكذلك صمود طالب عبدالجبار الذي كان مسؤولا عن لجنة الموصل المحلية للحزب الشيوعي ، وكذلك سمعنا عن حركة العريف حسن سريع الذي سيطر على معسكر الرشيد ببغداد وكاد يقضي على حكم انقلابيي 8 شباط لولا أخطاء وقع فيها بعض رفاقـه في الحركة وأنه عندما جرت محاكمته سأله الحاكم : كيف يصبح العريف عقيد ( في إشارة إلى أن حسن سريع وهو عريف وضع على كتفيه رتبة عقيد ) فأجابه حسن : صار هذا ، لأن قبله العقيد حمل ولا يزال رتبة مشير ( في إشارة إلى أن عبد السلام عارف كان عقيد وأصبح بعد 8 شباط يضع رتبة مشير ) ، كما أتذكر ذلك الكردي الطيب الذي كان يعمل عاملا في مخبز وهو عضو في محلية الموصل للحزب الشيوعي الذي أعتـقل وكان نصيبه معنا في مركز الفاروق .
ونظـرا للزحام في مركز الفاروق ( حيث كانت المراكز والملاعب والدوائر الحكومية التي أتخذت معتقلات قد إمتلأت لكثرة جمع الناس من دون تحديد ) فانفتحت قريحة بعثيي الموصل بفتح مراكز جديدة خارج الموصل ، وكان أحدها في مستوصف المدينة الآثارية الحضر ، حيث أن المعتـقلات في ذلك الوقت كانت أهم من المراكز الصحية . . وجرى اختيار عدد من الأشخاص من كل مركز ، وفي مركز الفاروق كان الإختيار لا على التعيين ، تعال أنت تعال أنت وأنت أيضا . . خذوأ أغراضكم لنقلكم إلى معتـقل الحضر ، قلنا لهم ما السبب : قالوا لأن الدنيا صيف حار والسرداب مزدحم جدا ونخشى عليكم من الحر والإختناق . . وانتـقلنا إلى الحضر . .
كـان الجو في مستوصف الحضر مختلفا بأشخاصه ، فقـد التـقيت بأشخاص طالما سمعت بهم وتمنيت لقاءهم ، المربي الوطني الذي لم يرضخ في حياته لظالم يحيى قـاف ، كنت أعرف ابنـه سـعد جيدا ، كان يحيى قاف رائد تعليم الأميين في الموصل وقضى معظم خدمته مديرا لمدرسة القحطانية الإبتدائية وكان يعلم الذين لايعرفون القراءة والكتابة مـن الموجودين في معتـقل الحضر ، ومن الموجودين كان جرجيس فتح اللـه الذي كنت مطلعا على كتاباته من خلال جريدته ( الحقيقة ) وكان موسوعة في الأمور التأريخية والسياسية والإعلامية . . والحقيقة كان الأكثر قربا إلى إهتماماتي وكان يهمني أن أستمع إليه وأسأله مستفيدا من هدوئه وصدره الرحب باستمرار ، ومن الموجودين أيضا يوسف الصائغ وكان يقضي غالبية وقته بكتابة الشعر ورسم الأشخاص وخصوصا الفلاح الشعبي الخمسيني رشيد حلبي وكنت أعرف يوسف الصائغ بشكل أعتيادي حين كان عضوا في لجنة مديرية تربية الموصل التي تشكلت برئاسة بهنام شماس توما وعضويته هو وحسن عمر الأفغاني بعد مؤامرة الشواف 1959 ولكن في الحضر توثقت الصداقة بيننا ، وكذلك تعرفت في الحضر على المحامي ادريس علي خان الذي كان متابعا لقضايا عشائر شـمر في المحاكم ولهـذا كان على إطلاع واسع بتأريخ وأحوال العشائر العراقية . . ومن الذين جذبوا انتباهي ذلك الفنان الكردي الشـاب ( مع الأسف نسيت اسمه ) المولع بعمل بيادق الشطرنج من لـب الصمون إذ كان يجمع لب الصمـون الزائد ثـم يضيف إليه السكر ويعجنه بصورة جيدة ويعمل أولا البيادق البيضاء ثـم يضيف إلى العجين المتبـقي رمـاد السكاير ليجعل لونه أسود ويخلطه بصورة جيدة ويعمل البيادق السوداء ويتركها حتى تجف جيدا فتصبح صلبة وبحيث من المتعذر معرفة أنها ليست أصلية ، ثـم يأخذ القطعة الجيدة من قميص أبيض عتيق ويعمل فيها المربعات المطلوبة ويقدمها هدية لمن يريد تعلم لعبة الشطرنج .
ولـم أمكث أكثر من عشرين يوما في معتـقل مستوصف الحضر ، حيث كانت قـد بدأت عملية الإفراج عن الموقوفين بقرارات يصدرها الحاكم العسكري للمنطقة الشمالية ( كان لقبه الصقلي ) الذي مقره في قيادة الفرقة في كركوك ، وكنت ضمن الوجبة الثانية التي يطلق سراحها من الحضر وأخذنا عريف شرطة ونحن في طريقنا الى الموصل توقف العريف ظهرا في إحدى القرى العربية أمام مضيف الشيخ أو المختار ( لا أتذكر ) الذي هيأ لنـا طعاما سريعا وتناولنا الغداء وودعناه وواصلنا طريقنا الى الموصل حيث سلمنا العريف إلى مديرية شرطة الموصل التي بعد إجراءات استغرقت حوالي نصف ساعة أطلقوا سراحنا . .
فأخذت سيارة في الحال إلى تللسقف ونزلت أمام بيتـنا ، وعندما دخلت فوجئوا ، وقالوا : هل هربت ، قلت: لا أطلقوا سراحي . . وبقيت فترة في تللسـقف ثـم ذهبـت إلى محطة كي ثري ( قرب حديثة ، حيث كان والدي يعمل ) وبقيت فترة وذهبت إلى محطة تي وان حيث كان عمي يونو وأقاربي يعملون وبعد فترة ذهبت إلى بغداد عند أقاربي وصادف أثناء وجودي في بغداد إنقلاب عبد السلام عارف على البعثيين في 18 تشرين 1963 ورأيت وأنا في منطقة البتاوين كيف كان الحرس القومي البعثي يترك سلاحه وملابسه في المقرات ويهرب . . كمـا وصلني خبـر أن القائمين بانقلاب تشرين كانوا يعتقلون البعثيين ويودعوهم المعتقلات التي جعلها البعثيون مكتظة بالشيوعيين والوطنيين ، فيسـتقبلهم الموقوفون من الشيوعيين والوطنيين بالأغنيـة العراقية الشهيرة ( سـبحان الـلي جمعـنا بغـير ميعـاد . . ) . Opinions