صدام والفخ الأمريكي / كتاب في حلقات/ الحلقة 8 / 17
26/7/2009الموقف العربي الرسمي من الأزمة
بدءاً أقول، رغم أن أحداً ممن يحمل عقلاً سليماً، وفكراً ناضجاً، لا يمكنه أن يقرّ النظام العراقي على فعلته بغزو الكويت، ولا يقبل أن تحكم العلاقات العربية قعقعة السلاح، ويشجب العدوان على أي بلد كان، فكيف إذا كان البلد شقيقا؟
إلا انه رغم كل ما جرى، ورغم كل الجرائم التي أقترفها نظام صدام، يتبادر لنا السوآل التالي:
هل خدم الموقف العربي الرسمي مصالح الأمة العربية؟
وللإجابة على هذا السؤال، بروح من الدقة والعقلانية، أستطيع القول أن ذلك الموقف، وبشكل خاص موقف مصر وسوريا والمغرب، وكذلك السعودية، ودول الخليج، ليس فقط لم يخدم قضية العرب المصيرية، بل على العكس من ذلك قد أدى إلى انهيار لم يشهد له العالم العربي من قبل، أدى إلى تهديم كل ما بنته الأمة العربية، عبر نضالها الطويل من أجل التحرر من ربقة الإمبريالية، وهيمنتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وأضاع جهود عشرات السنين، التي بذلتها الشعوب العربية، وغدت حركة التحرر العربي التي قادها جمال عبد الناصر، ورفدها الزعيم عبد الكريم قاسم، قائد ثورة الرابع عشر من تموز في العراق عام 1958، وانتصار ثورة الشعب الجزائري على المستعمرين الفرنسيين.
لقد كان الأجدى بتلك الدول، السعي لحل الأزمة ببذل الجهود العربية المكثفة والجماعية، وعدم فسح المجال أمام الولايات المتحدة لتوجيه ضربتها لا للعراق فحسب، بل لمجمل حركة التحرر العربي، ولكن الحكومات العربية المذكورة آثرت السير في ركاب الولايات المتحدة، ودعمت مخططاتها، والتقت بذلك مع صدام حسين في إحداث ذلك الانهيار الذي لم يرَ العرب له مثيلا من قبل.
إن ما نراه اليوم من نتائج تلك المواقف الخاطئة، من تفكك التضامن العربي، والصراع، والعداء بين الدول العربية، وتهالك الحكومات العربية على الارتماء في الحضن الأمريكي والصهيوني، وعقد معاهدات الصلح مع إسرائيل، من دون أن تحقق هدفاً جوهريا للأمة العربية، وقيام العديد من الدول العربية بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل، في وقت لا تزال تحتل مساحات واسعة من الأراضي السورية واللبنانية والفلسطينية، وتماطل حتى في تطبيق الاتفاقات التي وقعتها مع منظمة التحرير الفلسطينية.
إن كل هذا هو نتاج مباشر لجريمة نظام صدام في غزوه للكويت، ونتاج المواقف الخاطئة، والمتخاذلة للأنظمة العربية. لقد وصل الأمر لدى بعض حكام الخليج أن يمدوا أيديهم لتصافح قادة إسرائيل، والتعاون معهم، بدلاً من أشقائهم العرب، وأصبح معظمهم ينظر لشعب العراق نظرة عداء وكره شديدين، حتى لكأنما صدام هو الشعب العراقي، والشعب العراقي هو صدام!!، ودون أن يعيروا أي اهتمام لما يعانيه الشعب العراقي على أيدي صدام وزمرته المتحكمة برقابه.
إن هذا الموقف موقف، اللا مبالاة لما كان يعانيه شعب العراق على يد جلاده، وعلى يد الإمبريالية الأمريكية على حد سواء، قد خلق فجوة كبيرة في علاقات الأخوة التي كانت تربط العرب ببعضهم، وسوف يأتي اليوم الذي تدرك فيه الأنظمة العربية مدى عمق الجريمة التي ارتكبت بحق العراق وشعبه، وبحق المصلحة العربية العليا.
إن نظام صدام حسين كان سيزول لا محالة، مهما طال به الزمن، ولكن شعب العراق باقٍ لن يزول، وهو بلا شك سيتذكر دائماً وأبداً، المآسي والجوع و فتك الأمراض والحرمان بأبنائه، وستبقى تلك الصورة المرعبة في ذاكرته، وسوف تتناقل الأجيال القصص والحكايات حول تلك المآسي، كما يتحدث شيوخنا عن جرائم الأتراك إبان الحرب العالمية الأولى، والمجاعة التي سببوها للعراقيين، وسوف يبقى شعب العراق يتذكر مواقف الحكام العرب الذين وقفوا بجانب العدوان على العراق وشعبه، وضغطوا على شعوبهم بكل الوسائل والسبل لمنعها من التعبير عن رأيها في تلك الحرب المجرمة، ولا شك أن هناك بوناً شاسعاً بين الشعوب العربية وحاكميها.
نظام صدام في حيرة
أصبح النظام العراقي واقعاً في حيرة لا يعرف كيف يخرج منها، فهو في الوقت الذي كان يراقب عملية الحشد العسكري الغربي بقيادة الولايات المتحدة تتسارع يوماً بعد يوم، ولهجة التحدي الصارمة للرئيس الأمريكي بوش وهو يعلن تصميمه ليس على طرد القوات العراقية من الكويت فحسب، بل ونزع أسلحة الدمار الشامل العراقية، وتقليص قواته العسكرية، وهذا ما أعلنه بوش، ولكن ما كان قد أخفاه كان أعظم، فلقد صمم وخطط لتدمير البنية التحتية للاقتصاد العراقي، وإعادته إلى عصر ما قبل الثورة الصناعية، كما صرح وزير خارجيته بيكر.
لقد جعل الموقف الصارم للولايات المتحدة النظام العراقي يصعّد من تحديه، وإصراره على موقفه، وكان خوف صدام حسين من أن يقدم العراق على تقديم تنازلات يمكن أن تؤثر على الموقف العام له، ويثبط همة القوات المسلحة، دون أن يحصل في المقابل على أي شئ.
كما كان خوف صدام من نوايا الولايات المتحدة تجاه العراق حتى لو أقدم على سحب قواته من الكويت، فقد كانت كل الدلائل تشير إلى أن بوش قد ذهب بعيداً في خططه لضرب العراق مهما كانت الظروف، ومهما فعل النظام العراقي، لأنه قد وجد فرصته التي ربما لا يستطيع الحصول عليها مرة أخرى، لإزاحة خطر النظام العراقي عن الخليج كما يدعي.
لقد حاول صدام حسين، عن طريق الاتحاد السوفيتي، ووسطاء آخرون في الحصول على ضمانات من الولايات المتحدة فيما إذا أقدم على الانسحاب من الكويت، بأن لا يتعرض العراق وجيشه إلى الهجوم، وحرص صدام على أن لا يتحدث عن الانسحاب بصورة علنية، بل ويعلن إصراره على ضم الكويت، وهذا ما أراده بوش بالضبط.
لقد أراد بوش أن يفهم العالم أن لا مفر من استخدام القوات العسكرية ضد العراق، ولذلك فقد أعتبر صدام حسين أي حديث عن ضرورة الانسحاب عمل خياني يرمي إلى إضعاف معنويات الجيش، وأصدر صدام تعميماً إلى كافة أعضاء حزبه ومؤيديه بالامتناع عن الحديث عن الانسحاب. (4)
وهكذا كتم نظام صدام أفواه الشعب العراقي، ومنعه من إبداء رأيه في أهم مسألة تتعلق بوجوده ومستقبله، فقد كان الشعب العراقي مدركاً تمام الإدراك عمق الكارثة التي ستحل به بسبب إصرار صدام على سياسته المتهورة، لكنه لم يكن يملك حولاً ولا قوة، وسيف النظام مسلط على رقابه، وهو ينتظر اللحظة التي يسوقه فيها الجلاد إلى المجزرة.
ورغم وجود عدد من الأحزاب والقوى السياسية المعارضة لحكمه، إلا أن أساليب القمع الوحشية، وحملات الاعتقالات والتعذيب، والإعدامات بالجملة، جعلت معظم قيادات الأحزاب المعارضة تختار المنفى مجالاً لعملها السياسي، تاركة جماهير الشعب العراقي دون قيادة فعالة، قادرة على تعبئتها والسير بها نحو إسقاط النظام، هذا بالإضافة إلى عمق التناقضات في توجهات الأحزاب المعارضة، وكل ما استطاعت عمله هو عقد ميثاق دمشق، وإصدار عدد من القرارات التي لم تستطع أن تفعل شيئاً ، وباتت مجرد ورقة تذروها الرياح.
المبعوث السوفيتي بريماكوف يقابل صدام:
في الوقت الذي كانت حرارة الأزمة تتصاعد، والحشود العسكرية تتوالى على السعودية، ظهرت في صفوف القادة العسكريين السوفيت اعتراضات شديدة على سياسة وزير الخارجية [شيفرناتزا]، تلك السياسة التي أصبحت متطابقة مع السياسة الأمريكية، وسببت قلقاً لهم، مما دفع الرئيس [غورباتشوف]، بعد أن شعر أن العراق قد أعطى السوفيت إشارة حول إمكانية الانسحاب من الكويت إذا ما حصل على ضمانات بعدم تعرضه للعدوان الأمريكي، أن يرسل مبعوثاً خاصاً له إلى بغداد.
جرى اختيار[بريماكوف] العضو المرشح للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي لهذه المهمة، وكان اختياره لهذه الشخصية بسبب العلاقة الوثيقة التي تربطه به من جهة، وعلاقات بريماكوف وصلاته القديمة بصدام حسين، وطارق عزيز، حيث كان بريماكوف يقوم بزيارات متكررة للعراق عندما كان مندوباً لصحيفة البرافدا في الشرق الأوسط.
وصل بريماكوف إلى بغداد يوم 5 تشرين الأول، حيث عقد مساء ذلك اليوم اجتماعاً مع صدام حسين، وتباحث معه حول سبل الخروج من الأزمة، وأبلغ بريماكوف صدام حسين، وجهة نظر غورباتشوف، والتي تتلخص بكون الموقف قد بات خطيراً، وإن إصراره على مواقفه سوف يزيد من خطورة الوضع، وإن عليه أن يبادر بأسرع وقت ممكن إلى الانسحاب من الكويت.
كان صدام حسين يبدو عليه التردد والحيرة لكي يعلن عن رغبته بالانسحاب حيث رد على بريماكوف قائلاً: { إنك تطلب مني أن أعلن الانسحاب، وكأن هذه الكلمة السحرية التي يمكن أن تحل كل المشاكل دفعة واحدة، وأنا لن أقول هذه الكلمة ببساطة، وحتى لو انسحبنا من الكويت فإن ذلك لن يكون كافياً لجعل الولايات المتحدة تشعر بالرضا، وانتم ليست لديكم الضمانات التي يمكن أن تقدموها لنا ضد أي هجوم أمريكي}. (5)
لكن صدام عاد وابلغ بريماكوف عن قبوله بالانسحاب إذا ما حصل على الضمانات اللازمة بعدم الاعتداء على العراق، وعدم المساس بالنظام القائم.
إلا أن بريماكوف أجابه بأن طلب الضمانات سينظر فيها الرئيس الأمريكي بوش، كشرط للانسحاب، وهو الذي أصر على أن يسحب العراق قواته من الكويت دون قيد أو شرط، ويشاركه في إصراره الكونجرس الأمريكي، وكذلك كافة الحلفاء الغربيين.
وهكذا لم يستطع بريماكوف من زيارته لبغداد أن يحقق أي تقدم باتجاه حل الأزمة، فقد كان الغرب بزعامة الولايات المتحدة مصراً على ضرب العراق، و كان صدام حسين يخالجه نفس الشعور بأن الولايات المتحدة عازمة على تحطيم القدرات العسكرية والاقتصادية للعراق، وربما استغلت انسحاب الجيش من الكويت لتوجه له الطعنات في ظهره.
وقبل انتهاء الزيارة انتقل بريماكوف إلى الحديث مع صدام حسين حول مسالة الخبراء السوفيت في العراق والبالغ عددهم [7830 خبيراً]، وضرورة السماح لهم بمغادرة العراق، وقد وافق صدام على مغادرة 1500 خبير كل شهر.
وبعد انتهاء الزيارة، غادر بريماكوف العراق، ليقوم بزيارة الولايات المتحدة، ويقابل الرئيس بوش، ويطلعه على ما دار في المباحثات التي أجراها مع صدام حسين.
إلا أن الرئيس بوش لم يعر أي أهمية لتلك المباحثات، وكان جلّ اهتمامه ينصب حول معرفة شخصية صدام حسين وتصرفاته، ولم يزد على ذلك شيئاً، وكان في حقيقة الأمر لا يريد أن ينسحب صدام حسين من الكويت، فلا يستطيع عندئذٍ تنفيذ السيناريو الذي أعده لتدمير العراق.
وعندما ألح عليه بريماكوف ليسمع رأيه في سبل حل الأزمة، أجابه بوش بأنه سوف يلتقي بمستشاريه، ويتباحث معهم، وكان يريد بذلك التهرب من إعطاء أي جواب لبريماكوف، وعاد بريماكوف بخفي حنين، كما يقول المثل، ولم يحصل على أي نتيجة من زيارته لواشنطن. (6)
وفي طريق عودته إلى موسكو، توقف بريماكوف في لندن والتقى رئيسة الوزراء ماركريت تاتشر لإجراء مباحثات معها حول الأزمة، لكنه وجد تاتشر أكثر بأساً وصرامة وإصراراً على تدمير العراق من بوش، فقد ردت بعنف على بريماكوف قائلة له:
{ نحن لا نريد لأي طرف أن يتدخل الآن لعرقلة أهدفنا، وليس هناك خيار آخر غير الحرب}.
وعندما حاول بريماكوف أن يشرح لها رأيه في حل الأزمة، أجابته مقاطعة إياه قائلة: {لا، لا أريد أن اسمع شيئاً}.(7)
غادر بريماكوف لندن عائداً إلى بلاده، حيث قدم تقريراً للرئيس غورباتشوف عن نتائج مباحثاته في كل من بغداد، وواشنطن، ولندن.
واستمرت دقات طبول الحرب بالتصاعد في الغرب، وأخذت الحرب تقترب شيئاً فشيئاً، ورأى غورباتشوف أن يبعث بريماكوف إلى بغداد مرة أخرى للالتقاء بصدام، وحثه على الانسحاب بأسرع ما يمكن، وبالفعل وصل بريماكوف إلى بغداد في أواخر تشرين الأول، والتقى بصدام حسين، ونقل له وجهة نظر الرئيس غورباتشوف بضرورة أن يعلن العراق انسحابه من الكويت، قائلاً له:
{إن الأيام تمر في غير صالح العراق، وكل يوم يمر تتغلب كفة المتشددين في الغرب، الذين يلحون على توجيه الضربة للعراق}.
ولكن صدام حسين أصّر على موقفه بالحصول على ضمانات بعدم الاعتداء، وبتزامن الانسحاب مع انسحاب القوات الأمريكية والحليفة، ورفع الحصار عن العراق، والحصول على منفذ على الخليج.
غادر بريماكوف بغداد متوجهاً إلى باريس لمقابلة الرئيس غورباتشوف، الذي كان في زيارة رسمية لفرنسا، وليطلعه على نتائج رحلته إلى بغداد، وقام غورباتشوف بدوره بإطلاع الرئيس الفرنسي [فرانسوا ميتران] على تطورات الأزمة، ومحاولات بريماكوف نزع فتيل الحرب، وقد أكد ميتران أن انسحاب القوات العراقية من الكويت دون قيد أو شرط، هو السبيل لتفادي الحرب.
صدام ومسألة الرهائن:
ركزت الدول الغربية الكثير من اهتمامها لمسألة الرهائن، الذين أحتجزهم نظام صدام، وهدد بتوزيعهم على كافة المراكز العسكرية والاقتصادية، كدروع بشرية ضد أي هجوم محتمل من قبل القوات الأمريكية والحليفة. وقد سارع مجلس الأمن بإصدار القرار 664 في 1990 والذي دعا النظام العراقي إلى السماح للرهائن بمغادرة العراق، وحمله مسؤولية الحفاظ على حياتهم، لكن صدام أصر على احتجازهم مدعياً بأنهم ضيوف على حكومة
العراق!!.
وإزاء هذا الموقف المتعنت من صدام حسين، باشرت الدول الغربية بإرسال العديد من الشخصيات السياسية، غير الرسمية إلى العراق، لمقابلة صدام حسين والتباحث معه حول مصير الرهائن.
وكان من أبرز الشخصيات التي زارت العراق والتقت بصدام كل من[كورت فالدهايم] رئيس جمهورية النمسا، والأمين العام السابق للأمم المتحدة، و[ولي برانت] المستشار السابق لألمانيا الغربية، وزعيم الحزب الاشتراكي فيها، و[إدوارد هيث] رئيس وزراء بريطانيا السابق و[ناكاسوني] رئيس وزراء اليابان السابق، وغيرهم من الشخصيات التي لعبت دوراً هاماً، يوماً ما في السياسة الدولية.
وفي حقيقة الأمر، كان مجيء هؤلاء الزعماء إلى بغداد يرمي إلى تحقيق هدفين في آن واحد:
الهدف الأول:
السعي لإطلاق سراح الرهائن الغربيين، والسماح لهم بمغادرة العراق، قبل أن تقع الواقعة، وتنشب الحرب، وهم يدركون أن الحرب واقعة لا محالة، وبالفعل استطاع هؤلاء أخذ أعداد كبيرة من الرهائن معهم، عند مغادرتهم العراق، بعد الزيارة.
الهدف الثاني:
كان يرمي إلى التعرف عن كثب عما يدور في ذهن صدام حسين، ولتكوين فكرة دقيقة عن شخصيته، وقد بذلت تلك الشخصيات جهوداً كبيرة في محاولة لإقناع صدام بالسماح للرهائن بمغادرة العراق، محذرين من أن وجود هؤلاء لن يمنع الحرب، فأمام المصالح الاقتصادية الغربية في منطقة الخليج، يهون كل شيء.
كانت تلك الشخصيات تستغل وجودها في العراق ولقائها بصدام حسين لتثير معه مسألة الغزو العراقي للكويت، وخطورة الوضع بالنسبة للعراق مؤكدين على ضرورة انسحاب القوات العراقية من الكويت فوراً لنزع فتيل الحرب.
لكن صدام لم يكن مطمئناً إلى كل النصائح التي قُدمت له، وكان إحساسه أن الحرب ستقع سواء انسحب من الكويت أم لم ينسحب، وأراد صدام أن يخفف من غلواء الغرب حول مشكلة الرهائن، فأخذ يطلق سراح أعداد منهم عند كل زيارة للشخصيات السياسية العالمية، ويسمح لهم بمغادرة العراق بمعيتهم.
وفي نهاية المطاف قرر صدام حسين في 17 تشرين الثاني أن ينهي مسألة الرهائن لعلها تساهم في تهدئة الموقف، فأصدر قراراً بالسماح بمغادرة الرهائن جميعاً قبل حلول عيد الميلاد، وبذلك أسدل الستار على هذه المشكلة.
لكن بوش وحلفائه الغربيين قابلوا خطوة صدام بكل برود، ولم تؤثر تلك الخطوة على تصميمهم على توجيه الضربة القاصمة للعراق.
الغرب يكمل استعداداته الحربية
في الشهرين الأخيرين من عام 1990، أخذت الاستعدادات الغربية للحرب تتكامل، فقد بلغ مجموع القوات التي تم حشدها في السعودية حوالي 350 ألفاً من الجنود والضباط، وما يزيد على 1000 طائرة حربية بالإضافة إلى ألوف الدبابات والمدفعية والصواريخ، وأعداد كبيرة من القطع البحرية، وحاملات الطائرات التي أخذت مواقعها في الخليج العربي، وخليج العقبة، وسواحل إسرائيل، وهي تحمل الصواريخ البعيدة المدى، والموجهة إلكترونياً، والقادرة على ضرب أي منطقة من العراق، بانتظار ساعة الصفر لبدء الحرب.
أما صدام حسين فقد أستمر في حشد قواته في الكويت، حتى بلغت 450 ألف ضابط وجندي، تساندها ما يزيد على 4000 دبابة و 3000 قطعة مدفعية، و800 طائرة حربية، إضافة إلى قواعد إطلاق الصواريخ البعيدة المدى.
غير أن التكافؤ بين القوتين كان بعيد المنال، نظراً لما يمتلكه الغرب من التكنولوجيا الحربية المتطورة، هذا بالإضافة إلى عدم قناعة الجندي العراقي بتلك الحرب التي ساقه إليها صدام حسين دون مبرر، ولم يمض سوى سنتين على انتهاء حربه الكارثية ضد إيران والتي دامت 8 سنوات، ودفع ما يزيد على النصف مليون من الجنود والضباط حياتهم في تلك الحرب التي خاضها صدام نيابة عن الولايات المتحدة الأمريكية.
كان تحشيد هذه الأعداد الضخمة من الجيوش من قبل الولايات المتحدة وحلفائها، يتطلب أموالاً كثيرة جداً، ليس في وسع الولايات المتحدة تحملها لوحدها، ولذلك فقد ضغطت على دول الخليج بان تدفع نصيبها من التمويل.
وسارعت السعودية والكويت، وبقية دول الخليج بسحب مدخراتها، وتقديمها إلى الولايات المتحدة.
كما ضغطت الولايات المتحدة على اليابان، وألمانيا الغربية لتقدم نصيبها من تكاليف الحرب، واستطاعت أن تجمع ما يقارب 90 بليون دولار، دفعت منها ألمانيا 10 بلايين، واليابان 10 بلايين دولار أخرى، ودفعت السعودية والكويت وبقية دول الخليج الباقي، وبلغت حصة الولايات المتحدة من هذا المبلغ 54 بليون دولار، في حين بلغت تكاليف حربها 31 بليون دولار، أي أنها حققت ربحاً قدرة 23 بليون دولار!.
أما بريطانيا فقد حصلت على 6 بلايين دولار، في حين بلغت تكاليفها الحربية 3 بلايين دولار، أي إنها حققت ربحاً قدرة 3 بلايين دولار!.
كما حصلت تركيا على 3 بلايين دولار!.
أما إسرائيل فقد حصلت على6,5 بليون دولار، مع تسهيلات بقيمة 10 بلايين دولار لغرض إنشاء المساكن للمهاجرين اليهود إليها !.(8)
وهكذا استطاعت الولايات المتحدة الحصول ليس على تكاليف الحرب فحسب، بل حققت ربحاً صافياً مقدار 23 بليون دولار، لقاء حماية المصالح الغربية واليابانية في منطقة الخليج.
وفي أواخر شهر تشرين الثاني من عام 1990 كانت الاستعدادات الحربية الأمريكية قد اكتملت، وتم إعداد الخطة التي سينفذها الجنرال [شوارتزكوف] التي أطلقت عليها الولايات المتحدة [عاصفة الصحراء]، والتي ارتكزت على المراحل التالية (9)
المرحلة الأولى:
قيام السلاح الجوي بهجوم شامل على مراكز قيادات الجيش، وقواعد الصواريخ، والدفاعات الجوية، ومحطات الرادارات، والاتصالات، والمطارات الحربية، وطرق المواصلات، والجسور ومصانع الأسلحة بأنواعها، ومحطات الكهرباء، وبدالات الهاتف، والاتصالات السلكية واللاسلكية ومصافي النفط وكافة المنشآت النفطية وجميع المصانع المدنية.
المرحلة الثانية:
هجوم جوي شامل على القوات البرية العراقية المتواجدة في الكويت، وجنوب العراق، لإنهاكها، وتحطيم معنوياتها، ذلك عن طريق القصف المركز والمستمر بأحدث ما توصلت له تكنولوجيا المصانع الحربية الأمريكية، وقطع الإمدادات الغذائية والمياه عنها، وقطع صلاتها بمقر القيادة العامة.
المرحلة الثالثة:
الهجوم البري الشامل لسحق الفرق العسكرية العراقية، وتدميرها، مع استمرار القصف الجوي لكافة المرافق الاقتصادية في كافة أنحاء العراق، والتأثير على معنويات الشعب العراقي وإرهابه.
لقد كانت الخطة تعتمد على قوة السلاح الجوي في مرحلتي الحرب الأولى والثانية، وتجنب الالتحام بالقوات العراقية في البداية، لكي لا تقع خسائر كبيرة في صفوف قواتهم، وجعلت الهجوم البري، مرحلة متأخرة، لحين استكمال القصف الجوي لكافة الأهداف المحددة في المرحلتين الأولى والثانية، وكانت القوات الأمريكية والقوات الحليفة وأسلحتها من الضخامة والقوة أن بدت وكأن الغرب يعد لحرب عالمية ثالثة، وليس حرباً ضد بلد صغير من بلدان العالم الثالث!. (10)
لقد وقف الرئيس الأمريكي جورج بوش يخطب في الكونجرس الأمريكي قبيل بدء القوات لأمريكية والقوات الحليفة للحرب ضد العراق قائلاً:
{ إنني احتفظ بالحق في الانتقال إلى مرحلة الهجوم العسكري لتحقيق الأهداف الأمريكية في الخليج}.
وهذا هو واقع الحال، فلو لم يوجد النفط في منطقة الخليج لما جاءت الولايات المتحدة وحلفائها بجنودهم إلى المنطقة، ولما أصدرت هذا العدد الكبير من القرارات ضد العراق.
لقد اعتدت إسرائيل عام 1967 على البلدان العربية، واحتلت الضفة الغربية من فلسطين، وصحراء سيناء في مصر، وهضبة الجولان السورية، وأجزاء من غور الأردن، كما اعتدت على لبنان عام 1980، واحتلت العاصمة بيروت، وهي اليوم لا تزال تحتل أجزاء من جنوب لبنان، والجولان.
لكن الولايات المتحدة لم تكتفِ بالسكوت عن العدوان، بل دعمت وساندت إسرائيل في عدوانها، ولم تحرك ساكناً على انتهاك كل قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، منذُ قيامها عام 1948 وحتى اليوم، دون أن تلقى العقاب من مجلس الأمن، والمجتمع الدولي، فقرارات مجلس الأمن لا تنطبق على إسرائيل، بل على العرب وحدهم!!.
حامد الحمداني
www.Hamid-Alhamdany.com.