عملية سياسيّة ام صراعات سلطويّة ؟
الى الصحيفة العراقية التي اعتذرت عن نشر هذا المقال
ان العراق يعيش ازمة سياسية بالغة المدى ، تتفاقم مع توالي الايام ، وتكاد تهدد ما اسمي بـ " العملية السياسية " ، وان اخفاقات شتى قد لاحقت كل الخطوات التي جرت باسم الديمقراطية بين جلاد وضحية .. واذا كانت القضية الوطنية قد عاشت عقودا طويلة من الزمن مقيدة تحت مسميات المبادئ والشعارات القومية ، فهي اليوم قد اتخذت لها تسمية جديدة هي " العملية السياسية " ، ولكنها في الحقيقة غير سياسية ابدا بدليل صراع القوى الحزبية والاوليغارية في ما بينها على السلطة والقوة والنفوذ . وعليه ، فالعملية هي سلطوية ، تلك التي كانت ولم تزل تشغل كل اهتمامات القوى المتنفذة اولا .. وعموم الشعب العراقي ثانيا .. دعونا نتوقف قليلا لنرصد ازمة العملية السلطوية في العراق .
اين روح القوانين ؟
كنت اتمنى على كل المسؤولين السياسيين العراقيين الجدد قراءة كتاب ( روح القوانين ) للفيلسوف السياسي الفرنسي مونتسكيو والذي نشره عام 1778 ، اي قبل اندلاع الثورة الفرنسية مؤسسا فيه مبدأ الفصل بين السلطات .. وكم العراق اليوم بحاجة الى الفصل بين السلطات ، ان كان من يقوده اليوم يؤمن بارادة الشعب ، ويؤمن بأن البلاد لا يمكنها ان تتطور سياسيا ، ان لم تتحقق الارادة الوطنية للعراقيين في ان يجدوا انفسهم احرارا على ترابهم ، وليسوا مقيدين بأية اجندات خارجية لمحتلين مهما كان نوعهم .. ولم تمارس على العراقيين اية ضغوطات خارجية .. ان " روح القوانين " لا يمكنه ان يعمل في ظل اهتراءات سياسية ، او ضمن دائرة صراعات قوى حزبية او سلطوية ، او في خضم استعراض ميليشيات في الشوارع لم يقرّ بها اي دستور ! ماذا سينفع كتاب مونتسكيو هذه النخبة السياسية الحاكمة في العراق ، اذا كانت مخترقة كلها من هذا الطرف او ذاك ؟ ماذا سينفع الفصل بين السلطات ، اذا بلغت التجاوزات حدا لا يمكن السكوت عنه ابدا ؟ ماذا سيفيد " روح القوانين " هؤلاء العراقيين الذين ظهروا لا يعرفون الا مصالحهم الشخصية والفئوية والحزبية بعيدا عن المصالح الوطنية وعن ضرورات الناس ؟ ماذا تنفعهم مثل هذه المحددات ، ان كانوا يقدمون سلطة المجتمع الدينية على المبادئ الدستورية ؟ ماذا تفيدهم تجارب الاخرين ممن سبقهم في تطور ابنيتهم السياسية ؟ كيف يمكن لهؤلاء الذين لا يعرفون ابسط معاني الفكر السياسي ومفاهيمه ان يحكموا العباد ويقودوا البلاد ؟ لو كان الحكم دكتاتوريا لعذرناهم ! لو كان الحكم اوتوقراطيا لبررنا لهم ! لو كان الحكم ثيوقراطيا لما انتقدناهم ! ولكنهم ويا للاسف الشديد يتشدقون بالديمقراطية ، وهم بعيدون عنها وعن مفاهيمها وعن آلياتها جملة وتفصيلا !
عقد فاشل بين جلاد وضحية !!
كل من يزور العراق ، ويرجع منه من الاصدقاء العراقيين ، أسأله عن العراق واهله واوضاعه.. عن الدولة والمجتمع ، فتكاد تكون الاجابة واحدة ، ذلك ان الناس ما زالوا يمتلئون بالطيبة والشهامة وما زالوا مشحونون بالامال العريضة ، ولكن المشكلة الوحيدة في النخبة السياسية والجماعات الحزبية واصحاب النفوذ والقوى ذات المصالح النفعية والطائفية .. هؤلاء هم السبب في كل ما يجري على الارض في العراق .. هؤلاء هم الذين يتصارعون على الارض .. هؤلاء هم الذين يستحوذون على كل خيرات العراق .. هؤلاء هم الذين لا يفقهون من امر العراق شيئا .. هؤلاء هم الذين يئس الشعب منهم بعد ان انتخبهم ، ليكونوا عونا له ، فاذا بهم وقد وجدهم فراعنة عليه ، وقد خدعوه لمرتين .. والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين ! ويعقب احد الاصدقاء من الذين قضى في العراق اكثر من شهرين قائلا : ان تحسّن ظروف العراقيين المعاشية ليست منّة من هؤلاء ، فالحياة في العراق لم يغيّرها هؤلاء نحو الافضل ، بدليل ما يعانيه الناس من نقص في الخدمات ،وشح في الكهرباء ،وغلاء فاحش في الاسعار .. وقبل كل هذا وذاك ، اللهاث الكبير من قبل الجميع للحصول على مجرد وظيفة في الدولة ، حتى وان اصبح الجميع يمارس البطالة المقنعة ، ما دام هناك راتب بلا عمل ، وارتشاء مفضوح ، ونفوذ يمارس في المجتمع .. وتقاعد بعد زمن ! فالحياة العراقية هي مجردة من كل انتاج ، فهي بحر واسع من الاستهلاك ، اذ تبتلع كل ما يأتي اليها من بضائع ومأكولات ومشروبات ومصنوعات حتى وان كانت " استوكات " من الدرجة العاشرة ! والشوارع ترّص بالسيارات التي تبقى واقفة او زاحفة ببطئ نتيجة اجراءات تفتيش قضّ مضاجع العباد .. مع الفوضى وانعدام العدالة فالطبقة الطفيلية تلعب بالملايين وعموم الناس مسحوقون جراء ما حدث من خراب في العراق .
حدود السلطات
هذه كلها مثالب سلطة لا تعرف كيف تتصرف ، والمشاكل تتراكم في حياة الناس ، ولم تجد حتى الان اية حلول ومن السذاجة ان يعدوا الناس انهم سيقضون على ركام المشاكل في مائة يوم .. فالنخبة السياسية منشغلة في صراعاتها السلطوية .. ومنشغلة بكل قواها على النفوذ والاستحواذ على القوة والجاه والمال .. ان السلطات باتت متداخلة ، بل ونسمع ان كل سلطة تريد الاستحواذ على الاخرى .. فالكل يعرف في كل هذا العالم ، حدود السلطات فلا يمكن الخلط بينها ، او الاعتداء على مفاهيم الفكر السياسي القديم او الحديث .. او خرق حدود هذه السلطة او تلك . ان اصدار القوانين والتشريعات يختص بها مجلس النواب ، فهو ممثل الشعب الذي يعتبر مصدر السلطات . ان التشريعات والقوانين التي يرفعها مجلس الشعب ليصادق عليها مجلس للاعيان ويوقع عليها رئيس الدولة كي تنشر في الجريدة الرسمية .. مصدرها سلطة تشريعية واحدة في البلاد ، وهي اهم سلطة على الاطلاق ، من الواجب ان يخضع لها الجميع ، وتقف لتحترم ارادتها كل السلطات ، فالسلطة التشريعية ، تمثل الارادة الحقيقية للشعب . وتقوم السلطة التنفيذية بتطبيق وتنفيذ القوانين والتشريعات التي تصدرها السلطة التشريعية على الارض .. بل وتحاسب السلطة التنفيذية امام البرلمان ان لم تقم بتنفيذ القوانين والتشريعات على اتمّ وجه .. اما السلطة القضائية ، فهي مستقلة عن بقية السلطات في اجراءاتها بتطبيق القوانين والاحكام القضائية .
ضرورة التغيير
ان العراق اليوم بحاجة ماسة الى انساق اساسية لتنظيم العلاقة بين السلطات العامة في الدولة التي تبدو هشة جدا ، بفعل نفوذ قوى سياسية وميليشيات اوليغارية داخل المؤسسات العليا ، ذلك ان بقيت الحالة على ما هي عليه ، فان الاحتدامات والصراعات ستكبر ، وستزداد التصفيات الداخلية ، ويتسع حجم التدخلات الخارجية وتنفجر الاوضاع لتنهي مثل هذه العملية السياسية .. كيف ؟ ان احتكار السلطة ، بات طاغيا لدى اشخاص معينين يحركون تلك القوى بكل ذيولها .. وعليه ، فان وظائف المؤسسات باتت معطلة عن العمل .. وهذه المسألة معروفة منذ القدم في الفكر السياسي ، ذلك ان وظائف الدولة الاساسية والثانوية ينبغي ان تتوزع بين هيئات متعددة وجماعات مختلفة ، وتخصصات متنوعة مع اقامة التوازن والتمايز في تلك الوظائف بين هذه الهيئات حتى لا تنفرد احداها بالحكم ، ولابد من مبدأ الفصل والتمايز بين السلطات بالاعتماد على التداول والمتابعة والمحاسبة .. فان لم تقم السلطة التنفيذية ، بما يجب ، فان الثقة تنزع منها .
ان سر الازمة السياسية التي يعاني منها العراق اليوم تعود في الاساس الى مبادئ ومفاهيم خاطئة كرّست في دستور 2005 ، ولم يقم احد بتعديلها حتى اليوم .. وقد فسحت المجال لقوى سياسية طائفية واوليغارية مسلحة ان تمارس نفوذها في الدولة ، وتمتد الى المؤسسات فتخترقها ، وهي تمارس دورها ، وتستعرض عناصرها في الشوارع ، وكأن الساحة مشرّعة لها وحدها دون رقيب او حسيب .. وكأن لا وجود لسلطة تشريعية او تنفيذية في البلاد ، فكيف ان كانت متعاونة مع واحدة من هاتين السلطتين او كليهما معا ؟ من جانب آخر ، لا يمكن ممارسة ازدواجية السلطة في العراق ولا ممارسة ازدواجية المعايير .. ذلك ان تمتع البعض بالنفوذ والحكم ، منحه الاغراء بتجاوز سلطته التنفيذية مثلا ، ليقوم بالاعتداء على سلطة اخرى ، او يعطي لنفسه الحق في ان يمارس دورا مزدوجا ، ويمنح لنفسه الحق ان يقول للناس من حق السلطة التنفيذية اصدار التشريعات والقوانين ، ليقوم مجلس النواب بالموافقة عليها وتشريعها ! ان وصل الامر الى مثل هذا الحد من التجاوز ، فكيف لنا ان نسمّى ما يجري الان في العراق ؟
الطريق الجديد
ان العراقيين يدركون انهم ليسوا بحاجة بعد اليوم لممارسة اي طغيان ،او دكتاتورية لا من قبل زعيم معين ، ولا من قبل طغمة حاكمة ، ولا من قبل قوى سياسية او ميليشيات عسكرية مسيطرة بنفوذها هنا او هناك .. بل ولا من قبل اي جماعة اوليغارية او مجموعة طائفية او هيئة عسكرية .. الخ ان العراقيين ينتظرون ان يكون الرجل المناسب في المكان المناسب ، وان تكون السلطات جميعها في خدمة العراقيين ، وان تكون هناك دولة واحدة .. لا ان تكون هناك كيانات ودول وحكومات داخل دولة اسمها العراق .. يريدون ضمانات حقيقية من اناس عندما يقسمون يمين الولاء للعمل من اجل العراق .. لا يخيبون الامل بالصراع من اجل مصالحهم الشخصية ونفوذهم الفئوي او غنائمهم المجزية .. ان الشعب العراقي يتعامل مع اناس يحكموه بغير ما اتفق عليه في العقد الاجتماعي المبرم عندما انتخبهم .. اما ان لا يعمل البعض من المسؤولين بكل ما اتفق عليه ، بل ويتنكر لكل ما وعد الناس به .. فالاولى به ان يرحل بعد ان يعترف بالاخطاء التي ارتكبها .. اذ لا يمكنه احتكار السلطة ، ولا يمكنه ان يمارس نفوذه وكأن الدولة ملكا مشاعا له ، او مزرعة لجماعته .. يفعل بها ما يشاء ويمارسوا فيها ما يحلو لهم ! ان الدولة لابد ان ترعى مصالح المجتمع .. وان الدولة الحقيقية لا يمكن للايديولوجيات والزعامات والطوائف والجماعات والميليشيات ان تقف ضد القانون او تشكّل حواجز في الحياة السياسية او تلغي الرأي العام من قاموسها .. فهي كلها لابد ان تختفي الى الابد .
لا يمكن سن القوانين وتصويب الدستور وتنظيم علاقة الدولة بالمجتمع الا في قبة البرلمان .. ان السلطة التشريعية هي المعبّر الاساسي عن الارادة الجمعية الوطنية للعراقيين اسوة بكل النظم المدنية في العالم .. اما ان نسمع من هذا او ذاك تفسيرات تعبر عن اهوائه او مغرياته او مصالحه او نواياه .. فهذا لا يمكن قبوله ابدا ، بل وانه دليل فشل في التفكير والرؤية والاداء .. كما انه دليل تراجع كسيح في ( العملية السياسية ) ـ كما اسموها ـ .. صحيح ان الاخطاء لا يمكن ان يتحملها شخص واحد من النخبة الحاكمة ، ولكن هناك من هو مسؤول عنها مسؤولية اخلاقية وسياسية كاملة .. فلا يمكن ان تبقى الاخطاء القاتلة سارية تنتقل من مرحلة الى اخرى دون تشخيص ويفرق الدم بين القبائل ، ويخرج المذنب الحقيقي من الازمة بلا اي تحقيق معه او عقاب له ! لا يمكن ان تبقى الازمة السياسية والمشكلة الامنية في العراق كما هي عليه .. والشعب العراقي الذي ضاق ذرعا ، لا يعرف الا الانتظار .. ان تكلم اسكتوه ، وان تظاهر قمعوه .. وان عبر عن سخطه اتهموه .. وان طالب بحقوقه سحقوه .. وان اعلن رأيا مخالفا ظلموه ، وان مارس حريته كفّروه ، وان عارض الاخطاء شتموه .. المشكلة ايها العراقيون ليست في العراق ولا عند كل العراقيين .. انها مشكلة نخبة سياسية تمارس النفوذ والقوة والسطو على كل المقدرات .. وهي مشكلة اولئك الذين يهرجون ويصفقون لهم ، بل ومشكلة اولئك الذين يعلنون عكس ما يبطنون .. انكم تعرفون من يكون هؤلاء ، اذ دعوني لا احدد اي اسم من الاسماء .. ولكن ليكن كل العراقيين يدا واحدا من اجل العراق ومستقبله المتمدن ، وسيتحقق الحلم في يوم من الايام .
تنشر على موقع الدكتور سيار الجميل بتاريخ 5 حزيران / يونيو 2011
www.sayyaraljamil.com