Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

غربال الذاكرة : ناظم الغزالي

في زقاق ضيق يتفرع خلف جامع الازهر في القاهرة استوقفنا صوت يردد اغنية (طالعة من بيت ابوها) لناظم الغزالي .. اقتربنا من مصدر الصوت فكان صاحبه نجارا بسيطا وقد اعطى اللحن ايقاعا راقصا ، ربما ليزيد من نشاطه وهو ينجر الخشب !
ابتسم النجار عندما رآنا واقفين ، ورفع صوته فقد وجد له مستمعين ، ثم سألنا فيما اذا كنا نحب اغاني ناظم الغزالي ، فقال له احدنا مشيرا نحوي ( هذا من بلد ناظم الغزالي ) .. على اثر ذلك ترك النجار عمله واقترب مني هاتفا معبرا عن اعجابه بالغناء العراقي ، وخاصة ناظم وكاظم ، معلقا بدعابته المصرية اللماحة ( انا اموت في ظم دي بتاعكم ) مشيرا الى الحرفين التي ينتهي بهما الاسمان !!
اصر النجار على ان يسقينا الشاي المصري الثقيل ، وعندما غادرناه حملني تحياته الى ناظم الغزالي ، وكان حزنه كبيرا عندما علم ان الغزالي قد توفاه الله قبل اربع وأربعين سنة !!

****
كان عام 1963 جليلا وفاجعا بالنسبة لناظم الغزالي ، ففي هذا العام استطاع عن طريق الصدفة ان يسجل معظم اغانيه تلفزيونيا في الكويت ، قبل ان تنتهي حياته القصيرة ( كان عمره 42 سنة فقط) عندما قطعت اذاعة بغداد برامجها يوم 21 /10/1963 لتعلن خبر وفاة ناظم الغزالي العائد قبل يوم برا من بيروت ! فرددت شوارع بغداد ( مات ناظم الغزالي) واندفعت الحشود لتشيعه بحزن عميق تشهد على ذلك اللقطات الوثائقية التلفزيونية المتوفرة !!
في ذلك العام التقيت بناظم الغزالي ، قبل وفاته بأسابيع ، كان في جولة اوروبية قادته الى فيينا ، وكنا نلتقي في مقهى ممر الاوبرا ، كان يجلس هناك مع زوجته الفنانة سليمة مراد ، او سليمة باشا كما كانت شهرتها ( ويقال ان هذا اللقب منحه اياها الملك فيصل الاول ) كانت تكبره بعشرين سنة ، وتتعامل معه بغيرة شديدة متعبة له ومع ذلك كان يتعامل معها بلطف وهدوء ( امامنا على الاقل ) ولا تثنيه تعليقاتها واعتراضاتها عن متابعة الحسناوات بنظراته وهو يعبث بطرف ربطة عنقه الفاقعة الالوان !
عرفت الغزالي رقيق الكلمة، حلو الابتسامة، قليل الكلام يتحدث عن زملائه الفنانين باحترام ، واستطيع ان اقول عنه خجولا خاصة امام النساء ، بينما يتسم بالشجاعة أمام الجمهور سواء على المسرح أو في الحفلات الخاصة!!
لقد كان ناظم الغزالي شديد الاعتناء بهندامه ومظهره ، وهذا واضح على ما لدينا من تصوير لأغانيه !! وكان يسره ان يتفرج على واجهات الملابس الرجالية ، ولم يكن يميل الى ملابس السبورت وكان بالرغم من موسم الصيف في فيينا يحرص على ارتداء البدلة الكاملة ولا يستغني عن ربطة العنق ..
وفي احد الايام اطل علينا بسترة بيضاء زينها بمنديل كبير في جيب الصدر يتناسب مع ربطة العنق العريضة ، وقال بصراحة وعفوية انه منذ طفولته كان يحلم بسترة بيضاء مثل تلك التي كان يتباهى بها جار لهم في محلة الحيدرخانة ببغداد !
هناك كانت ولادة ناظم الغزالي عام 1921 لعائلة فقيرة ، توفي ابوه مبكرا فربته امه الضريرة وكانت تسكن في غرفة متواضعة عند شقيقتها في منطقة "الحيدرخانة"، اكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة، في المدرسة المأمونية، بصعوبة وكان الفقر ملازمًا له ويقول ان امه كان عليها ان تدبر عيشتهم بدخل لا يتجاوز الدينار والنصف شهريا ، وبعد وفاتها تكفله خاله الفقير مثلهم !!
في احدى جلسات الدردشة والسمر قال لي ناظم الغزالي ( تدري اني بدأت حياتي ممثلا.. حتى اني درست التمثيل بالمعهد !! وكان استاذي حقي الشبلي !! بس الحاجة والعيشة خلتني اترك الفن واشتغل بمعمل للطحين !!)
أبعدته الظروف عن المعهد، لكنها لم تمنعه من استمرار اهتمامه بالفن والثقافة وحفظ اغاني كبار مطربي ذلك الوقت !!
لم اكتشف في ذلك اللقاء فقط ان بداية ناظم الغزالي كان ممثلا بل اكتشفت ايضا انه كان كاتبا مثقفا حيث نشر عام 1952 سلسلة من المقالات في مجلة "النديم" تحت عنوان "أشهر المغنين العرب " ( وقد قرأت للكاتب ماجد حبته ان ناظم الغزالي اصدر كتابا بعنوان ( طبقات العازفين والموسيقيين ) وقد حاولت العثور فيما بعد على نسخة من هذا الكتاب فلم اجده ولا حتى على ارصفة شارع المتنبي )
عاد ناظم الغزالي إلى معهد الفنون الجميلة لإكمال دراسته، فيضمه حقي الشبلي إلى فرقة "الزبانية" ويشركه في مسرحية "مجنون ليلى" لأحمد شوقي، وعلى المسرح قدم الغزالي اول اغنية له( هلا هلا ) والطريف انها كانت من تلحن حقي الشبلي ، وكانت هذه الاغنية هي سبب دخوله الى الاذاعة وترك التمثيل واحتراف الغناء اما ثاني اغانيه فكانت من تلحين وديع خونده ومطلعها ( وين الكه الراح مني وأنا المضيع ذهب.. وراحت السلة من إيدي وراح وياها العنب.) وترجمتها لمن لا يفهم العامية العراقية : ( اين اجد الذي فقدته وهو من ذهب .. ولقد ذهبت السلة من يدي ومعها ذهب العنب )
بعد هاتين الاغنيتين انظم بين عامي 1947 و1948 إلى فرقة الموشحات بإشراف الموسيقار الشيخ علي الدرويش ، ويقول خبراء الغناء في العراق ان الفضل يعود الى ناظم الغزالي في تطوير الاغنية العراقية التي شهدت قفزة نوعية مع مطلع الخمسينات في غالبية مقاييس الغناء العراقي ومواصفاته ، حيث ظهرت الاغنية العراقية المتكاملة الموزعة والمتماسكة والتي يرجع له فضل انتشارها في العالم العربي رغم خروجها من بيئة ذات طبيعة شديدة الخصوصية، بفعل اداء ناظم الغزالي غير التقليدي، ليجعل منها أغنية عذبة سهلة التداول والحفظ.
وما زال الناس يرددون حتى الان اغاني "طالعة من بيت أبوها"، و"ما اريده لغلوبي"، و"فوق النخل فوق"، و"يم العيون السود".. وجميع هذه الاغاني كتبها جبوري النجار، ولحنها ناظم نعيم، ووزعها جميل بشير، ويعود الفضل في حفظها إلى شركة "جقماقجي" التي بدأت منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي في تسجيل أسطوانات كبار المطربين والمطربات العراقيين ،
قلت ان عام 1963 كان حافلا بالنسبة لناظم الغزالي ، ممتلئا بالنشاط وكأنه كان يعرف انه عامه الاخير .. كانت فيينا بالنسبة له محطة استراحة ، وكانت زوجته سليمة باشا تطلب منه ان يؤجل بعض مشاريعه ، كانت تعامله كما تعامل الام ابنها ، ولكنها معاملة لا تخلو من بعض الخشونة .. لا تخلو من بعض سلطة الزوجة التقليدية .!!


وفي فيينا احتفلنا معهما بمناسبة الذكرى العاشرة لزواجهما ، وعلمنا يومها انهما تعرفا على بعضهما عام 1952 في احد السهرات الغنائية التي كانت تقام في بيوت بغداد الراقية ،.. وكان معجبا بأداء سليمة مراد التي كانت تمتلك صوتا ساحرا وقابلية مدهشة في أداء الأغاني التراثية ويقال انها كانت معلمته في حفظ الوان الغناء العراقي وخصوصا المقامات والبستات !! وقد اقترن بها ناظم الغزالي عام 1953ومن خلالها استطاع التعرف على الطبقة الأرستقراطية البغدادية المحبة لحفلات الغناء.. وأصبح ناظم وسليمة الثنائي الغنائي المحبوب والمتألق دائما في جميع الحفلات العامة والخاصة وأصبح بيتهما صالونا فنيا أدبيا يلتقي فيه الشعراء والفنانون !!
كان على ناظم الغزالي ان يسافر الى بيروت لتصوير مشاهده في فيلم ( مرحبا ايها الحب ) مع نجاح سلام حيث غنى ( يا ام العيون السود )
بسبب هاتين المناسبتين ، ذكرى الزواج والسفر الى بيروت ، وافق ناظم الغزالي على تنظيم سهرة سمر خاصة ضمت عددا من الاصدقاء العرب في فيينا أنشد فيها – بعد الحاح شديد وبمرافقة احد هواة العزف على العود وطبيب مصري كان يحسن مسك الايقاع – انشد من تراثه العراقي وأسعده ان يجد الضيوف العرب يطلبون منه اغاني معينة يعرفونها منه – في ذلك الزمان لم يكن التلفزيون قد انتشر ليشهر المطربين ، ولا الفيديو كاسيت ولا حتى الكاسيت الصوتي العادي – وغنى بلغة عربية سليمة أروع القصائد العربية التي تدل على معرفة واطلاع واسعين.
غنى لأبي فراس الحمداني: "أقول وقد ناحت بقربي حمامة"، وللبهاء زهير "يا من لعبت به شمول"، ولإيليا أبي ماضي: "أي شيء في العيد أهدي إليك " وللمتنبي: "يا أعدل الناس"، وللعباس بن الأحنف "يا أيها الرجل المعذب نفسه"!!
***
بعد فترة قصيرة من مغادرة فيينا وردتنا الانباء المفجعة بان ناظم الغزالي قد توفي يوم 21/10/1963 بعد ساعات من وصوله بغداد قادما بالسيارة التي كان يقودها بنفسه وبرفقته صديقه عازف القانون سالم حسين الذي روى على شاشة قناة الديار الساعات الاخيرة بمناسبة الذكرى السنوية الثالثة والأربعين لوفاة ناظم الغزالي : (( في صبيحة يوم 1963/10/20 غادرنا بيروت في سيارته التي كان يقودها بنفسه وبقيت زوجته سليمة مراد في بيروت على ان تلحق بنا في اليوم التالي بالطائرة .. رفض ناظم ان نتوقف سوى ساعات قليلة في دمشق .. لقد كان هنالك دافع غريب يدفعه للوصول الى بغداد بالسرعة الممكنة .. وصلنا في اليوم التالي .. وفي منتصف ليلة 1963/10/21 توقف قلب الغزالي وهو لم يتجاوز الثانية والربعين من عمره، وكان رحمه الله في قمة نضجه وفي كامل حيويته ونشاطه ....)
بعد وفاة ناظم الغزالي اصيبت سليمة مراد بانتكاسة واعتزلت الغناء ، وتوفيت عام 1970 في احد مستشفيات بغداد وقد تجاوزت السبعين من عمرها !!

********** Opinions