غربة المبدع في تيه بني قومه!
طالما نسمع عن الإبداع، ونطرب جذلا لهذه الأيقونة، ويتمناها البعض لنفسه ويسعى لتقمصها ولو باليسير من الفذلكة، وقلما نسمع عن المبدعين، وإذا برز أحد فنادرا ما تهفو النفوس لحملها على سارية الإبداع إما حسدا من عند أنفسهم أو رغبة في طمس الواقع، وكلا الأمرين تعبير عن انهزامية في النفس والإنغلاق على حب الذات ورغبة في وضع العصي بين عجلة تقدم الآخر. ولا أرى لمثل هذا المجتمع إلا الرثاء وقراءة الفاتحة عليه، حيث يعيش المبدع بين ظهرانيه ولكن العيون عميت عنها أو تعامت، أو إنها غفلت عنه أو تغافلت، وقد يبلغ التهاون بالمبدع المنتج مبلغا يصح التوجه عندها إلى ربّ العزة لإنقاذه مما هو فيه من وضع أليم لا يُحسد عليه، حيث يصدق عندها دعوة الرسول الأكرم محمد (ص): (ارحموا عزيز قول ذل وغني قوم افتقر وعالما تتلاعب به الجهال) وفي حديث آخر: (وعالما ضاع في زمان جهال)!وما أعم ظلام الجهل وأقل بصيص العلم، حيث تتراقص على مسرح الحياة إمعات لبست رداء الإبداع، وهي إما أن ضاق بها الرداء لقلة علم أو تسربلت به لجهل مركب، وبعضهم استسهل الأمر فسطّر لنفسه شهادات علمية (مضروبة)، وبعضهم سيّج جمجمته الخاوية على عروشها من المعرفة بخرقة متعددة الألوان والأشكال يداري بها جهله بين الناس، فاصطنع لنفسه ألقابا وتمشدق بمعسول الكلام ينشر بين الناس روح الكراهية والبغضاء ويدعو إلى سفك الدماء تحت مدعى الولاء والبراء، ويتمسك بضعاف الروايات وهزالها لتسويق بضاعته المزجاة، فأفرط في المباحات وفرّط في الواجبات والمحرمات، وبعضهم يرى الحق في نفسه وحزبه والنار الحاطمة لغيره ورهطه، ناصبا من نفسه بابا إلى الله لا يلجها إلا ذو حظ عظيم، بل وبعضهم يستبعد الموت عن نفسه وإذا حل بوادي أحدهم ونزل عزرائيل في ساحتهم، نسبوا الموت إلى الآخر المضاد، وكأن الموت لم يكتب إلا على غيرهم!
وصفة حضارية
ولكن ما هو الحل الأنجع لدفع الأمة عن ولوج مثل هذا الزمن الذي قد يضيع فيه العلماء المبدعون، ويتيه الإبداع الهِجان في سوق الهَجانة اللَعان، وتبتعد عن مرمى التقدم الحضاري فلا تعود تميز بين صالحها وطالحها؟
إن إشاعة ثقافة حب الإبداع والمبدعين، وتكريمهم في حياتهم قبل مماتهم، هو أول الطريق في تسلق قمة الرقي، وهذه ثقافة القرآن والسنة المحمدية، الذاهبة إلى : (وإنك لعلى خلق عظيم) سورة القلم: 4، ويقابلها: "أدّبني ربّي فأحسن تأديبي"، وهي ثقافة: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ...) سورة الفتح: 29، وهي ثقافة: (نعم العبد إنه أواب) سورة ص: 44، في وصف النبي أيوب (ع)، وهي ثقافة: (واذكر اسماعيل واليسع وذا الكفل وكلٌ من الأخيار) سورة ص: 48، وهي ثقافة النبي محمد (ص) "ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر) في مدح أبو ذر جندب بن جنادة الغفاري (31هـ)، وهي ثقافة التشجيع النبوي المشروط: "لا تزال يا حسان مؤيداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك" في مدح الشاعر حسان بن ثابت الخزرجي (قبل 40هـ)، وهي ثقافة محمد (ص) كما روتها زوجه عائشة: "الحق مع علي وعلي مع الحق لن يفترقا حتى يردا الحوض".
وعلى درب تطبيق الثقافة السماوية في تمجيد وتبجيل المبدعين: (ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البرّ والبحر ورزقناهم من الطيّبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) سورة الإسراء: 70، جرى في العاصمة السورية دمشق حفل تكريم للبحاثة والمحقق والعروضي الفقيه الدكتور الشيخ محمد صادق بن محمد الكرباسي للانجازات العلمية الكبيرة التي حققها ويواظب عليها، وأهمها دائرة المعارف الحسينية في أكثر من ستمائة مجلد، ومن قبل المساهمة المباشرة في تأسيس وإدارة الحوزة العلمية الزينبية في حي السيدة زينب، ومن بعد الفتح الأدبي في مجال بحور الشعر وهندسة العروض، وهذا الاحتفال الكبير الذي عقد في فندق السفير مساء السبت 23 جمادى الثانية 1426هـ (30/7/2005م) توثقت وقائعه بين دفتي كتاب صدر حديثا عن بيت العلم للنابهين في بيروت من 104 صفحات من القطع الوزيري بعنوان "مساء التكريم صباح"، أعده الشاعر السوري محمود سليم العضل.
الموهبة لا الذات
لا يُكرم المرء لشخصه مجردا عن مآثره، لأن محل التكريم ليس عين الشخص بقدر ما هو إبداعه الذاتي، فكل إنسان له شخصيته وله احترامه بغض النظر ما إذا كان عالما نحريرا أو عاملا بسيطا، فالمرء محترم ما كان مقتصدا فلا يصعر خده للناس ولا يمشي مرحا ولا يريد خرق الأرض ولا بلوغ الجبال طولا، ولهذا عندما اجتمع عليّة القوم من المثقفين والأكاديميين ورجال الدين لتكريم المحقق الكرباسي ومنحه شهادتي دكتوراه في الإبداع واحدة من جامعة الحضارة الإسلامية المفتوحة وأخرى من الاتحاد العالمي للمؤلفين باللغة العربية، إنما اجتمعوا لتكريم الإبداع فيه، كما منحته من قبل جامعة روجفيل (Rochville University) في مدينة ميريلاند الأميركية، شهادتي دكتوراه واحدة في العلوم الإسلامية والثانية في القانون الإسلامي، لأنها توسمت في الكرباسي انجازاته العلمية في مجال الشريعة والدراسات الإسلامية والتاريخية، حيث وافق بين النص والواقع، بين الثابت والمتحرك. فالأمة الحيّة تكرّم الموهبة، وحسبما يقول عالم الدين اللبناني الدكتور علي عزيز إبراهيم الطرابلسي في كلمته المعنونة (التكريم استحقاق)، في بيان مواهب المحتفى به وسبب تكريمه: "وتكريم مثله من أمثال أرباب العلم والعرفان لم يكن إلا تكريما لتلك المواهب التي يمتلكها وتقديراً لانجازاته الكبيرة التي حظيت بإعجاب علماء الغرب والشرق".
في الواقع إن من يهب حياته وما يملك لخدمة شخصية عالمية كالإمام الحسين (ع) الذي أرخص حياته في كربلاء عام 61 هـ لسعادة البشرية، إنما يسجل حقيقة العلاقة الروحية بين الحبيب والمحبوب، بين الإمام الحسين (ع) ومن أحبه حتى صار به مجنونا، فواحد ينزل إلى ساحة المعركة للاستشهاد بين يدي الإمام الحسين (ع) شاهرا سيفه دون درعه مثل عابس بن شبيب الشاكري، وآخر ينزل إلى ساحة المعرفة رافعا قلمه دون دعة للشهادة على تاريخ النهضة الحسينية مثل محمد صادق بن محمد الكرباسي، ومثلما يقول المعد الشاعر محمود العضل: "فقد شمّر مولانا آية الله الشيخ الدكتور محمد صادق الكرباسي – دام موفقا- شمّر عن ساعد الجد والكد والإجتهاد في درب الحقيقة والسداد، ووقف نفسه ووقته وشعره وشعوره وقلمه لخدمة أهل البيت (ع) بعامة والإمام الحسين (ع) بخاصة"، وحسب الأديب العرفاني السوري البروفيسور أسعد بن أحمد علي في كلمته التكريمية: "إذا جنّ الكرباسي جنوناً حسينياً طالما تفرّغ لموضوع الحسين في ليله ونهاره، لو لم يكن له أعصاب متينة وقوية بالتأكيد لما كان يستطيع الاستمرار مع الحسين كل هذا الوقت حتى يشكل هذه المجلدات التي بلغت ستمائة مجلد"، ثم ينشد من بحر الكامل:
ومجلدات جهادهم شهدت لهم *** عشقوا الحسين فأعلنوا وتعَنْوَنوا
وثمارهم دلّت إليهم عالماً *** يرقى بهم موسوعةً تتغصَّنُ
وحسب الكاتب حسن بن عبد الحسين الشهيدي الصالحي في كلمته تحت عنوان "بحر متلاطم" أن الموسوعة الحسينية هي موسوعة التاريخ لأن المؤلف تحدى أطر الزمان والمكان، وكما أفصح المؤلف للكاتب وأبيه البحاثة عبد الحسين بن حسن الصالحي البرغاني في لقاء جمعهما وإياه في لندن قبل سنوات: "إنني أردت أن أفجر بركاناً علمياً لاُبرز هذا الإمام، فقمت بتخصيب يورانيوم الكيف مع الماء الخفيف الكمّي لأوَلِّدَ مثل هذا الانفجار الذي لا تنمحي أمواجه على مدى التاريخ، لأن الإمام الحسين (ع) ليس لزمان معيّن ولا لمكان معين ولا لمعتقد معين ولا لفئة معينة ولا قومية معينة ولا طائفة معينة، إنه إمام العالمين جميعا"، فيما قال البحاثة البرغاني في كلمته التكريمية تحت عنوان "ربّان سفينة الدائرة"، إن الكرباسي: "يغوص في بحار المعرفة ويخرج اللئاليء الثمينة، ويتحدث عن جل مناحي المعرفة بانسيابية، ويكتب عن العلوم والمعارف، عربية كانت أو إسلامية، طبيعية كانت أو علمية، إنه بحر متلاطم وأمواجه تتكسر إحداهما بالأخرى لتُسهّل الطريق وتعبّد السبيل للتواقين إلى المعرفة"، وكلمات البرغاني شهادة علمية صادقة إذا ما عرفنا أنه باحث ومحقق ضليع بالأدبين العربي والفارسي وعضو محرر في دوائر موسوعية عدة، منها: دائرة المعارف الإسلامية الشيعية، ودائرة معارف إيران والإسلام.
والحَبرُ الرضي كما هو عنوان كلمة الأكاديمي العراقي الدكتور وليد بن سعيد البياتي التي ألقاها في الحفل، توغلت في نفسية المحتفى به وقدرته على التأليف، فوجد: "إن هذه الموسوعة التي تجاوزت الستمائة مجلد تشكل في الواقع إرثا عبقريا يحتلّ مساحة واسعة بين الفقه والفلسفة والتاريخ والأدب، إلى علوم أخرى يمكن ملاحظة ذلك من خلال صفحاتها ويعرج فيها مؤلفها العبقري على موضوعات يتحاشى الكثير من الفلاسفة والفقهاء الخوض فيها أو ملامسته". وليس في الأمر مبالغة، كما يؤكد الناطق الرسمي باسم المسلمين الموحدين في سوريا العلامة الشيخ كميل نصر، في كلمته المعنونة "حضارة كاملة"، حيث: "كانت موسوعة دائرة المعارف الحسينية التي أقول عنها حضارة كاملة لأنها تحتوي تاريخا كاملا عن الرمز المقدس والنسل الشريف لسيد شباب أهل الجنة ... إن موسوعة دائرة المعارف الحسينية شعلة لا تنطفئ لأنها جمعت بين الإنسانية والروحية، والإيمان، وصدق الإنتماء إلى الإسلام الحق..".
واذا كان الكرباسي عرف بالموسوعة، فإن الحوزة العلمية الزينبية عرفت به، حيث شارك الفقيد آية الله السيد حسن بن مهدي الشيرازي (1980م) في تأسيسها عام 1395 هـ (1975م)، وهي واحدة من معالم دمشق في حاضرنا، وكان لعميدها الشيخ محمد أمين بن محمد حسن الغفوري كلمة في المناسبة قدّر للكرباسي دوره الكبير في إرساء دعائم الحوزة العلمية، فضلا عن جهوده العلمية المتواصلة: "التي قدرها علماء الغرب على قدم وساق مع علماء الشرق"، واعترف له بالجميل مؤسس ورئيس تحرير مجلة المرشد الصادرة في دمشق والأستاذ في الحوزة العلمية الزينبية الشيخ حسين بن محمد علي الفاضلي في كلمة ألقاها في المناسبة، إذ: "قد نتمكن ولو بصعوبة من الوقوف على إنجازات البارزين من خدمة أهل هذا البيت النبوي الشريف، والذي احتفلنا بتكريمه في هذه الأمسية، من خلال انجازه الكبيرة دائرة المعارف الحسينية، صاحب اليد الطولى في تثبيت دعائم هذه الحوزة الشريفة وهذا الحي الزينبي المبارك ألا هو العملاق العيلم صاحب السماحة الشيخ الكرباسي الذي لم يُعرف عنه إلا النشاط الدؤوب والرأي السديد والذي يفاجئنا دائما بانجازاته الخطيرة ومشاريعه العظيمة". ومثل هذا التكبير في شخصية المحتفى به نقرأها في خطاب مفتى اللاذقية العلامة الشيخ غزال بن وهيب غزال، إذ أن: "في قلوبنا إحساس صادق تغمره الفرحة العامرة لتفوقكم بجهودكم الإبداعية، وإنتاجكم القيم، وحصولكم على شهادة الدكتوراه في الإبداع".
تكريم منظوم
وهذا الفهم الحضاري للتكريم ترجمه المؤرخ والأديب العراقي السيد سلمان هادي آل طعمة إلى قصيدة من بحر الوافر الأول حملت عنوان :الشرف المعلى" ومطلعها:
تُكرِّمك الأماثل والفحولُ *** وأنت لكلِّ مجتهدٍ رسولُ
ثم ينشد:
و"دائرة المعارف" خيرُ سِفرٍ *** بها يتلألأُ الثَبَتُ الأصيلُ
وينشد أيضا:
هي الموسوعة الكبرى تسامتْ *** وحسبك ما أحاط بها الشمولُ
فدائرة "الحسين" منارُ رُشدٍ *** بها الألباب تفخرُ والعقولُ
ومثله فعل الشاعر السوري وعريف الحفل محمد زكي بن إبراهيم النوري، عندما قفّى أحاسيسه بقصيدة من بحر البسيط الأول وعنوانها "الموسوعة الذهبية"، ختمها بقوله:
لُذْ بالحسين ولا تخشَ الحساب غداً *** ينجو غداً مَن عليه اليوم قد حسبا
موسوعةً للحسين السبط رصّعها *** فضيلة الشيخ من عشّاقه ذهبا
وهذه الأحاسيس عكسها القانوني والأديب السوري حمود بن أسعد البكفاني بقصيدة من بحر الكامل الأول بعنوان "النقاء الباسم" ، يقول في آخرها:
كرباسُ حدّث مغرباً عن مشرقِ الـ *** ـكلماتِ تبزغُ من بهيمٍ قاتمِ
من مركز العرفان تطلع كوكباً *** هتفت بكوثره عطاشُ حمائمي
وأبو العلاء يمدُّنا قبساته *** قدراً، فأكرم بالإمام القائمِ
ودار الأمر نفسه على الشاعر السوري من الطائفة الأرمنية الدكتور أواديس استنابوليان، فأقرض المحتفى به بقصيدة من الكامل وعنوانها "فقه الوفاء للنقاء"، ينشد في آخرها:
لحُسين دائرة المعارف قرضنا *** ببلاغة سطعَ المحبُّ بأرضنا
وسار الإعلامي السعودي عقيل بن ناجي المسكين، على منوالهم وأقرض المكّرم بقصيدة من بحر الرمل التام بعنوان "بدرٌ في سماء المجد" ومطلعها:
صادقُ الأقوال بالأفعال أبلى *** حين أهدى دُرّةً كبرى وأملى
بين الخليل والمعري
وإذا اشتهر المحقق الكرباسي بدائرة المعارف الحسينية في أكثر من ستمائة مجلد، أو عُرف بسلسلة (الشريعة) في نحو ألف كتيب، فإنه إلى جانب الأدب المنثور عرف بالأدب المنظوم، ولكن قلة قليلة جدا تعرف عن الكرباسي إنشاده الشعر وأرجوزته في اكثر من ألفي بيت في السيرة الذاتية، والقليل يعرف ضلوعه في الأوزان الشعرية وتفننه فيها، وأقل القليل تعرف عنه هندسته للعروض وتجديده لبحور الفراهيدي أحمد بن خليل (173 هـ) وتفوقه فيه، وأبدع في مجاراة أبي العلاء أحمد بن عبد الله المعري (449 هـ) في لزومياته، وفي ذلك يقول الشاعر والأكاديمي الجزائري الأستاذ في علم العروض الدكتور عبد العزيز بن مختار شبّين، في كلمته المعنونة (صفوة النوابغ): "وما أثار إعجابي هو هندسته للعروض الذي أتى فيه بكل مُعجب دقةً ودراسة ونقداً، وتجديداً بلغ فيه المائتين وعشرة بحور، مثّل لكل بحر من هذه البحور المستحدثة بثلاث عينات من نظمه تامّاً ومجزوءاً ومنهوكاً، كما التزم لزوم ما لا يلزم فيما نظمه من الشعر من هذا الباب، وبذلك يكون قد جارى أبا علاءٍ المعرّي في لزومياته مجاراة تفوق وإبداع، لا مجاراة تشابه واتّباع، جاء فيها بكل معجب ومدهش، وكيف لا يُعجبُ ويجيدُ وهو أبو علاء محمد صادق الكرباسي صاحب النفحات القدسية، والقبسات العلوية التي لا يُلقّاها إلا من أوتي بسطة في العلم، وحكمة إشراقية تجلو طلاسم المغلق، وتفتق آفاق المجهول، وتومي للإلهام فينساب، وللقلم فيكتُب، وللكتاب حتى يجمع بين دفتيه بدائع اللفظ، ورقائق المعنى".
ويؤكد الدكتور شبّين أن: "هذا العمل الفني الذي أبدعه قداسة العلامة المؤلف غريب في بابه، مدهشٌ في فنّه لم يسبق إليه، فهو فائق مُستحدث لم يعرفه المتقدمون، ولا طرقه المتأخرون، ولا يخفى عن القارئ العربي النابه شأن صاحب الكتاب الموسوم بهندسة العروض بما أحدثه من نقلةٍ نوعية في الإيقاع لم يشهد لها تاريخ العروض نظيراً إلا مرتين فيما أراه، الأولى على يد الخليل المنشأ، والثانية بيد الكرباسي مبدعاً ومطوّراً، ولذلك لا غرو أن اُلقّبه بالخليل الثاني، اعترافاً بجهوده العلمية في تطوير هذا الفن والوصول به إلى قمة التنوع ذوقاً ومعنىً". ولا يتوقف الدكتور شبّين عند باب الهندسة وإنما يغوص في أغراض الكرباسي الشعرية، فيؤكد: "عُرف المؤلف الشاعر أيضا بكثرة الأغراض التي خاضها وتنوّع الأبواب الشعرية التي طرقها مجيداً ومجدداً، جاوز فيها شوقي في شوقياته، والمعرّي في لزومياته، وأبا العتاهية في ذات أمثاله، وصفي الدين الحلي في منظومته العروضية، بهذا العمل الشعري، والجهد الفكري، استطاع أن يجدد للآداب نهضتها بعد ركود، ويوقد فتيل صحوتها بعد خمود".
من جانبه أثنى البروفيسور أسعد علي على المحتفى به وثنى على ما ذهب به الدكتور شبين في علم العروض ورجاله، مضيفا نثراً: "هم: الفراهيدي وأبو العلاء المعري وأبو العلاء الكرباسي"، ومؤكداً نظما من بحر البسيط الثاني تحت عنوان (لؤلؤة التاج)، جاء في خاتمتها:
رسا على جبلٍ فُلكٌ فآنسنا *** يا صادقَ الحمدِ كم ألَّقتَ إيناسي
مهندسُ الوزنِ سوّى السرَّ قافلةً *** من الحروفِ وقلبُ الحرف إحساسي
ولاشك أن من يتعامل مع البحاثة الكرباسي عن قرب، يكتشف بالبديهة أن بعض النصوص الواردة في كلمات الإحتفاء قاصرة عن إداء المعنى، كما تقصر الأقلام مهما أوتيت من العلم سعة عن أداء حق صاحب النهضة الحسينية.
*إعلامي وباحث عراقي
الرأي الآخر للدراسات- لندن
alrayalakhar@hotmail.co.uk