Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

فتوى السيد الأخيرة – أن تعطيه سمكة أم تعلمه الصيد؟


فتوى السيد الأخيرة

بينما كانت الرجال تصرخ وتضرب صدورها, والنساء يعلو عويلهن وينخفض بغير انتظام, كان الرجل يغسل جثة "السيد" ويعطرها بهدوء تقطعه بين الحين والحين تشنجات بكاء مخنوق. لقد كان يسيطر عليه شعور بالجلال والرهبة امام هذا الجسد المسجى امامه, حتى ليكاد يتردد في كل مرة يمد يده اليه خشية ان يوقضه من موته الذي بدا اشبه برحلة اعتيادية سيعود منها السيد قريباً.

لم يكن للسيد تلك الهالة الدينية فقط, بل كانت تضاف اليها قدسية الرجل الزاهد بأمور الدنيا, والجريء في الحق. كان له حضور عظيم الأهمية في الوضع السياسي المضطرب للبلاد, وكان له الدور الاكبر في نجاة البلاد من حرب اهلية لا تبقي ولا تذر.

انتبه الرجل فجأة الى ان كف السيد اليمنى كانت منقبضة بشدة. وبعد جهد كبير تمكن من فتح اصابعها المتصلبة, فوجد فيها ورقة كان السيد يعصرها كأمانة يخشى ان تضيع منه. فتح الرجل الورقة فأذا بها اشبه ما تكون برسالة كتبت بخط السيد. تلفت الرجل يميناً ويساراً قبل ان يبدأ القراءة, لكنه توقف ولف الورقة على عجل ثم هرول بها الى الخارج.

بعد ساعة كان الجمع المتزايد مازال مشغولاً باللطم والصراخ تحت لفح الشمس الحارقة, حتى سرت دمدمة واشارات بالايادي تدعو الناس الى الصمت والسماع. كان هناك رجل يقف امام الميكروفون الرئيسي الذي كانت تلقى منه الاناشيد الحزينة, يحاول ان يقول شيئاً. ولما صمتت اخر النساء الصارخات, تكلم الرجل فقال:

"ايها الناس, ايها الناس...لقد ترك لنا السيد المبجل قبل ان يذهب عنا الى جنات الخلد رسالة واوصى ان تقرأ لكم في اقرب وقت ممكن, وليس خير من هذا الوقت وانتم مجتمعين حول جسده الطاهر, فاستمعوا..."

" بسم الله وعلى بركة الله فقد وجدنا في ما يجري من احداث عظام داعياً لنا للتفكير بجدية بما آلت اليه حال المؤمنين في ا لبلاد, وبعد التوكل على الله, اختلينا ثلاثة ايام بلياليها ووصلنا الى ما هو آت, وهو فتوانا ووصتيتنا الاخيرة لكم, فاستمعوا وافتحوا عيونكم واذانكم واذهانكم لما سنقول لعل فيه الخير لكم.

وبعد فقد وجدنا ان المؤمنين اعتادوا استشارتنا في كل امر, حتى كسلت اذهانهم عن التفكر, وترهلت عقولهم عن التمييز, وعجزت ارادتهم عن القرار, وهذا ما لايريده الله سبحانه وتعالى للمؤمنين به ولا نرضاه لهم. فليس للمرجعية ان تقوم للانسان المؤمن مقام عقله, بل لترشده في امور دنياه بقدر ما يتعلق الامر بفرائض دينه ومبادئه وقيمه, وهذه قدرنا عليها ان شاء الله. 

اما في اختياراتكم الحياتية من سياسة وغيرها, فنقول لكم غير عابئين في الحق بلومة لائم. فنحن لا نستحي من الصدق. فنقول عما لا نعلمه, اننا لانعلمه. وألا نكون كمثل طبيب يشير في بناء الجسور او بناء يشير في العلاج, وليس هناك من بشر يعلم كل شيء,"وما أوتيتم من العلم الا قليلا" صدق الله العظيم.

لقد منّ الله على المؤمنين, بهدايتهم الى كتابه العزيز وسيرة رسوله لتعينهم وتكون ملهمة لهم في تفكيرهم وتدبر ما صعب من امورهم, وترشدهم الى السراط المستقيم. وأما لما عداها من امور الحياة فلقد وهبهم الله عيون ترى وآذان تسمع وعقول تفكر ليتدبروا امورهم, والله اكرم الواهبين, فليجهدوا بما آتاهم ربهم من عقل وبصيرة.

لقد رأيت في حال المؤمنين عجباً. لقد كان المؤمنون في حياة الرسول وبعده اقرأ القارئون واجرأ المفكرون واعلم العلماء, وما كانوا ليرضون ان يغلبهم الغير في جد جهادهم وفي صدق قرارهم وفي حزم امرهم. لكن الحال صار غير الحال. فصار المؤمنون ينظرون أئمتهم ترشدهم الطريق فلا يكلفوا انفسهم عناء ثتفكير اومسؤولية قرار حين كان غيرهم يقرأ ويتفكر ويجادل ويتشاور ويقرر. فبقي المؤمنون في مكانهم وتعلم غيرهم كيف يفكّر. بقي المؤمنون مكانهم وتعلم غيرهم كيف يميز الصحيح من الخطأ. بقي المؤمنون مكانهم, وتعلم غيرهم كيف يجادل ويدافع عن معتقده. 

 ان الله لايرضى ان تكون امته من الجهلة التابعين. فليس من الإسلام ان تسير امته كقطيع من الغنم خلف راعيها بلا تفكّر او تدبّر. فـ "كلكم راع, وكلكم مسؤول عن رعيته", صدق رسول الله. وكيف يكون منكم راعياً من لاقدرة له على رؤية طريقه, ولا ارادة له للثبات عليه؟ لقد وصف الله المؤمنين فقال"امرهم شورى بينهم" وكيف يُشار ويشاور من لم يتعلم التفكير ومسؤولية القرار, فهل انتم مؤمنون؟

يا ايها الناس. لو اراد الله سبحانه وتعالى للبشر ان يتبعوا أئمتهم بلا تفكير ولا تمحيص, لاكتفى بأن وضع العقول في رؤوس الائمة وحدهم. لكنه عز وجل خلق الملايين من العقول والعيون والاذان, ولم يخلقها عبثاً, حاشا الله ان يفعل ذلك. نقول لكم الحق, ان من لاينتفع بعقله كل الإنتفاع, فأنه يغضب الله, اذ يهمل خير ما اعطاه له من كنوز ونِعم, فماذا انتم بها فاعلون

قال سبحانه وتعالى : " واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل" ولكل زمان قوته وخيله. وخير الخيل اليوم كلمة حق صحيحة يضرب بها المؤمن فتصيب دقتها في الظلم مقتلاً. فماذا اعددتم لذلك اليوم؟ لم يولد الرامي رامياً, لكن التدرب والجهاد في التعلم هو ما ميزه عن غيره. كذلك لم يلد انسان ومعه معرفته وهداه, بل الهدى لمن فكر واجتهد وجاهد في سبيله." ان الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا والذين اهتدوا زدناهم هدى" صدق الله العظيم.

ان مشاركة كل منكم  في تقرير مصير امته, واجب شرعي, فالله لايحب من يرى الحق والباطل فلا يقف بجانب الحق بوجه الباطل, والساكت عن الحق شيطان اخرس. لكن احدكم لن يستوف ما حق عليه حتى يعمل كل ما استطاع سيبلاً لكي يكون قراره صحيحا صائبا, فان فعل, فلا جناح عليه ان اخطأ, وسبحان من لايخطيء. اما من كسل عن البحث والتفكير فيتحمل وزر خطأه الى يوم القيامة, وعلى قدر جهودكم تؤجرون. فوالله ان خطأ المؤمن المجاهد للعلم, فهو خير وابرك من اصابة المؤمن الكسول المعتمد على غيره من الناس

لذا توجب على كل منكم قبل ان يختار في امر جلل, ان يقرأ إن كان في وسعه ان يقرأ وان يسمع إن كان له ان يسمع وان ينظر إن كان له ان ينظر. فإن قرأ فمقدارعشر صفحات لاغش فيها لعشرة احزاب. ثلاث لاقرب الاحزاب الى نفسه, وثلاث لابعد الاحزاب عن نفسه, وثلاثة يختارهم ممن لايحبهم ولايكرههم, وواحدا يختاره لصدفة صادفها او لمشورة سمعها او عبارة قرأها, على ان لاتكون من ضمن التسعة السابقة الذكر, وان تزيدوا فهو خير لكم. اما من عجز منكم عن القراءة, او اختار عنها, فسماع ربع ساعة او يزيد لعشرة احزاب, يختارها كما ذكرنا آنفاً, على ان يستمعها من السن اصحابها بلا ناقل من البشر, وان تزيدوا, زادكم الله علماً وقوة.

انكم ان فعلتم ذلك, ازددتم ايماناً بالحق, وازددتم فهماً وتمييزاً. وزال شككم بيقين. فمن بقي منكم على رأيه, فقد زاده ما يمكنه من مقارعة حجج غيره, وان رأى الحق في غير ما كان يعتقد, فلتكن له شجاعة المؤمنين الأوائل في ان يلحق بالحق حيث كان, حتى لو كان ذلك بعيداً عن جماعته واصحاب دينه ولو لحين, فانه بذلك يحضهم على تعديل ما اعوج منهم, ويكون لهم ناصراً على انفسهم. وخير للدين ان يخسر الحكم اليوم ان كان في اصحابه اعوجاج ليعود غداً سليماً معافى, من ان يكسب الولاية وهو معوج فيبقى على اعوجاجه ابداً.

أيها الناس..لسنا  نعلم ان كان الله سيمنّ علينا ان نقرأ فتوانا الاخيرة هذه لكم وجهاً لوجه, فأن كان فهو خير. وان جاء اجلنا قبل ذلك, وقرأها عليكم بعض اصحابنا فلعل شكاً سيصيبكم ان وصلتكم بلا تحريف وتحويل. فإن حدث فاعملوا عقولكم وتفكروا وتبينوا وتشاوروا, فمن وجد ما جاء فيها معقولاً نافعاً, فهي فتوى صحيحة وليتوكل على الله, ومن لم يجدها كذلك فليدعها وليتفكر لنفسه في رشاد لنفسه. ايها الناس, لا تبحثوا عن ختمي في اسفل الورقة, فلم اضع عليها ختمي, بل ابحثوا عنه في رؤوسكم, فهي خير مميز انعم به الله عليكم, والله يوفقكم لخير دنياكم واخرتكم."

****

أتعطيه سمكة أم تعلمه الصيد؟ 

"فتوى السيد الأخيرة" ، أقصوصة كتبتها عام 2005 وأعيد نشرها اليوم ضمن مناقشات دور المرجعيات في توجيه ناخبي مجالس المحافظات بالفتاوي حول من يتوجب انتخابه..وهل أن الفتوى "مفيدة" و "صحيحة" وهل يتوجب الإلتزام بها في هذا الأمر؟

ومن الطبيعي أن جواباً عاماً صحيحاً عن هذا السؤال، امر صعب، فكل فتوى وكل طريقة تدخل تختلف عن الأخرى ولا يوجد ما يجمعها، وفي النهاية فأن كل شخص سيتصرف حسبما يمليه عليه اعتقاده ومنطقه (ولا انتظر أن تغير هذه المقالة رأي أحد). رغم ذلك يمكننا أن نحاول تأشير الخطوط العامة لموقف المرجعية ومتى يكون إيجابياً ومتى يكون سلبياً وفي أية ناحية. ونحن نتحدث هنا عن أية مرجعية كانت، سواء كان خطيب جامع بسيط أو المرجعية العليا لمذهب كبير. 

يمكن ان يكون إرشاد المرجعية مباشراً: إنتخبوا هذا المرشح، فهو المناسب! وخير مثال على ذلك ما صرح به بهذا الشأن الشيخ السعدي حين قال: "واستفتوا علماءكم المخلصين ليرشدوكم إلى من تنتخبون، فإن العلماء صمام الأمان في شهاداتكم للمرشحين، بأن يكونوا من أهل الصدق والنزاهة والتقوى وحب الوطن" (1)

ومن المعقول أن المرجع لديه دراية اكبر من متوسط الشخص الذي يقلده وأكثر قدرة على الوصول إلى المعلومات والتقصي عن النواب ومعرفة تاريخهم وحقائثهم، لكن هناك مشكلة عويصة في هذه الطريقة، رغم أنها الأسهل و "الأكثر ضماناً" إن افترضنا صدق المرجع وأخلاقيته. 

هذه الفرضية ليست مضمونة طبعاً، فهذا المرجع ينصح الناخبين بانتخاب أي كان "دفاعاً عن المذهب"، وكأن انتخاب اللصوص يدعم المذهب ولا يسيء إليه. (2)

ليس هؤلاء قليلون، لكني أتحدث عن الحالة العامة التي افترض أنها أخلاقية وسليمة النية.

والمشكلة في الإفتاء بانتخاب جهة معينة، حتى لو كانت بنية صادقة وكانت سليمة من حيث المعلومات، هي أنها تجعل الناخب كسولاً معتمداً على المرجع، ولا يتحمل أية مسؤولية، ولا يجد داعياً في متابعة من انتخبهم والتأكد من إنجازهم لوعودهم، بل ربما لا يعلم حتى ما هي وعودهم وما هو برنامجهم. لقد ألقى المسؤولية عن كتفه على عاتق مرجعه ونام قرير العين.

السيد السيستاني يكتفي بالتركيز على شرعيه الانتخابات، وإعطاء مؤشرات عامة اخلاقية حول من يجب أن يتم انتخابه، لكنه يترك تقدير امتلاك ذلك الشخص أو تلك الجهة لتلك الأخلاقيات، على مسؤولية الناخب بتأكيده على عدم تبني أية جهة في الإنتخابات(3) 

ووجهة نظري أن طريقة السيد السيستاني هي الأنسب، ولكن يمكنها أن تكون أكثر فعالية لو أسهمت المرجعية في المساعدة على جمع المعلومات عن المرشحين وتقديمها للناخبين (وهو ما كنت أفعله يوماً للجالية العربية في هولندا في كل انتخابات)، وستكون لتلك المعلومات قيمة خاصة لأنها من المرجعية، وهو ما سيكون دافعاً قوياً لقراءتها وتعلم متابعة برنامج الحزب ومدى صدقه في وعوده. ومع ذلك فأن لهذه الطريقة صعوبة أساسية واحدة وهي مشكلة ضمان الحيادية والموضوعية في جمع تلك المعلومات، لكن هذا لا يجب أن يكون عائقاً حاسماً. 

السؤال الأساسي الذي يتوجب على المرجع أن يسأل نفسه إياه في رأيي قبل الحديث عن أية فتوى عموماً، وعن السياسة خصوصاً، هو ما إذا كان يريد أن يعطي الناخب (الجائع للمعلومات) سمكة يأكلها هذه المرة، أم أن يعلمه صيد السمك ليعتمد على نفسه مستقبلاً؟ 


(1) http://www.albadeeliraq.com/article22815.html

(2) http://www.youtube.com/watch?v=5gko3yvpxns

(3) http://vb.al-mehdyoon.org/showthread.php?t=3614


روابط إضافية: 

‫الشيخ محمد اليعقوبي يتحدث عن كيفية الانتخاب‬‎ - YouTube

http://www.youtube.com/watch?v=sZO6EwkEr6U

الصرخي والإنتخابات ‫ 

http://im34.gulfup.com/doa89.jpg

14 نيسان 2013

 

 

Opinions
المقالات اقرأ المزيد
صناعة الفساد في العراق عبد الرحمن أبو عوف مصطفى/ تدخل الظروف الزمانية والمكانية عاملا أساسيا في تحديد العقويات المترتبة على الأفعال الجُرمية بمختلف أنواعها، دروس من أبو غريب عبدالخالق حسين/ إن الهجوم الإرهابي على سجن أبو غريب مساء يوم 21 تموز يعتبر كارثة حقيقية بكل معنى الكلمة وبجميع المعايير، وانتصاراً لقوى الشر المتمثلة بالتحالف البعثي- القاعدي، خطط إعادة إعمار سنجار: المشروعات والميزانيات والعائق الأبرز خطط إعادة إعمار سنجار: المشروعات والميزانيات والعائق الأبرز على الرغم من إعلان رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني جملة من المشاريع لإعمار قضاء سنجار، شمال غربي البلاد، إلا أن معالجة المشكلة الأساسية المتمثلة بإنهاء وجود "حزب العمال الكردستاني" والفصائل المسلحة في سنجار لا تزال خارج خطط السلطات العراقية المؤتمر القومي الكلداني 2 / الافتتاحية - أكل العسل المُر سمير اسطيفو شبلا/ مما لا شك فيه ان الافتتاحية كانت رائعة في كل شيء عدا النقطة السوداء التي كانت بمثابة أكل العسل المر!
Side Adv1 Side Adv2